نريد المزيد من الماء!
عرض “ساغ سليم” هو كشفُ حسابٍ
علاء حليحل
عرض “ساغ سليم” هو كشفُ حسابٍ شخصيٍّ لحالة جماعية. إنها السّيرة الذاتية التي تروي قصة فرد واحد لكنها تحتضن عشرات القصص والأحداث. هكذا الفلسطينيّ، يحمل اسمه واسم كلّ من شاركه قصته؛ أسماؤنا علاماتُ طريق في الدّرب المؤدِّية إلى الماضي والمستقبل. عند هذه العلامات يمرّ سليم ضو راسمًا ماضيه/ماضينا بنجاح مضحك/ مؤلم، ومحاولاً استشراف المستقبل بأقلّ قدرٍ من التوفيق، كما يليق بأيّ فلسطينيّ. فسليم- مثلنا- لا يعرف ما تخبّئه الساعة القادمة له، فكيف إذا كان يُعلن أمام الجمهور في مطلع العرض أنه مهاجر؟
يتحرّك سليم في هذا العرض بحرّية بين الستاند أب والمونودراما والملحميّة والكوميديا. خليط غريب يرفض الخضوع لتعريف محدّدٍ لأنّ لديه الكثير ليقوله. يتنقل بخفّة بين قصص الماضي المضحكة وبين تفاصيل “وفاته” وهو طفل، فيبكي ويُبكي. يتأرجح بين المرارة والحلاوة، بين المضيّ إلى أبعد ما يمكن على الصّعيد المهنيّ وبين العودة (الحتمية) إلى هدأة البال في البعنة. إنها هدأة البال اللعينة، المُشتهاة، العصيّة، تلك التي نفتقدها، نتحايل عليها، نتوهّم أنها في شُربة سيجارة أو “قعدة” مع الأصدقاء. البالُ ليس هادئًا، إنه متوعّك وهشٌّ وحائرٌ، ويُبدع سليم حين يصوغ هذا البال المُتعب بنصٍّ صادق وديناميكي ورشيق، لا يخلو من خفة الكائن المسرحيّ لكنه مُعتّق بثِقل الكائن الفلسطينيّ.
هذا عرضٌ شُجاع لأنّ خيارات سليم صادقة وشفافة. لا يختبئ وراء الحكاية المسرحية كي يهربَ من حكايته، بل على العكس؛ يُغربل تفاصيل حياته غير آبهٍ بالمُفترض من نجم مثله. إنه يقف أمام المرآة عاريًا إلا من تجربته الغنية ورغبته في أن يقول لنا “جوز كلام”. يقول ويضحك، يقول ويبكي، يقول ويغضب، يقول ويفرح. يُراوح بين النوستالجيا والتمني، لكنه لا يستحضر لُزُوجة الاثنين بل يُطوّعهما ليكونا مادة جذّابة للخشبة. يستثني كلّ ما يمكن أن يشير إلى إنجازاته
السينمائية والمسرحية، مُعلنا في النص الخبيء أنّ ما لديه ليقوله أهمّ من استعراض إنجازاته. أنتم تعرفونها، فتعالوا نتركّز في الدافع الحقيقيّ الذي جمعنا سليم من أجله: الصّدق.
الصّدق في كل شيء: أيام زمان كانت جميلة ولكنها كانت صعبة وقاسية أيضًا؛ أن تكون ريفيًا فلسطينيًا أمر رومانسيٌ ولكنه متعبٌ ومنهكٌ أيضًا؛ أن تكون فنانًا عربيًا في مسارح وسينما الآخر أمر ذو شأن لكنه مصيدة ليست بالهيّنة؛ أن تكون والدًا لأربع بنات رائعات لا يعني أنك لا تبكي بالسرّ على الابن الخامس الذي رحل مبكرًا. إنها التناقضات التي تؤسّس قبل كل شيء للحالة المسرحية عمومًا ولهذا العرض خصوصًا: الصّراعات التي لا تنتهي، المشاهد المتتالية والذاهبة من موقف إلى آخر، الذهاب والإياب بين السّاغ وبين السليم…
حين يقول سليم في العرض “أنا اليوم بفكر إنّو إذا الواحد بعنّد وبدّو يعيش، بمُتش”، فإنه يعرف عمّا يتحدث. هذه حكمة له ولكنها حكمة حياتنا أيضًا. حكمة اللغة التي بقيت والهوية التي صمدت والبيت والشارع وموّال الحياة التي نحبّها وتحبّنا غالبًا، وتكرهنا ونكرهها أحيانًا. نحن نعيش حياة تراجيديّة- كوميديّة بجدارة، وسليم يرويها لنا بتفاصيلها عبر تفاصيله الغنيّة. “ساغ سليم” عرض ساخر جدّيّ. هل هذا ممكن؟.. هذا عرض مسرحيّ يطرق أبواب الخزّان لا لكي ينجو بنا من الاختناق، بل ليصرخ بأعلى الصوت: المزيد من الماء! نريد المزيد من الماء كي نرتوي!
كلّما تقدّم بنا الوقت ابتعد الماضي وابتعد المستقبل، وصار الرّاهن فخًّا لعينًا. ليس أجمل من كلمات محمود درويش لقول ذلك:
“أيها الماضي! لا تغيِّرنا كلما ابتعدنا عنك!
أيها المستقبل! لا تسألنا: من أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضًا لا نعرف.
أيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً. فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل!”
(العرض “ساغ سليم” من تأليف وإخراج وتمثيل الفنان سليم ضو، موسيقى وعزف حبيب شحادة حنا، تصميم إضاءة نعمة زكنون، بدعم من “المشغل: الجمعية العربية للثقافة والفنون”. يعرض “ساغ سليم” يوميْ الجمعة 04.11.2011 و 18.11.2011 في قاعة كريغر- حيفا في تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً. )
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 3 تشرين الثاني 2011)