مُعضلة عرب!

بعد أن هدأت العاصفة (حاليًا) التي رافقت مسلسل “شغل عرب”، الذي عُرض على القناة الثانية، وبعد أن انتهى بثّ حلقاته (التي شاهدتُ معظمها)، يمكن أن يتناول المرء هذا المسلسل الخِلافيّ، بما يكفي من الهدوء (النسبي) والبُعد الزمنيّ والجداليّ.

الأمر البارز في تناول الصحافة العربية للمسلسل هو تجاهلها للعناصر الفنية الخاصة بالمسلسل وتركّزها في العنصر الذي يمكن أن نسمّيه “القومي” أو “السياسي”؛ فبثّ مسلسل ساخر وكوميدي عن العرب وبالعربية في قناة بث عبرية-إسرائيلية هو لا شكّ سابقة، أعتقد أنها حصرت النقاش في البرنامج في حدود النقاش السياسي المُسيطر على جميع جوانب حياتنا، وأعتقد أنّ القيّمين على البرنامج هم من شجّعوا بالأساس هذا التعامل، بدرجة لا تقل عن تعاملنا معه كعرب، أبناء لأقلية قومية تعاني الأمَرّين من الإعلام العبري.

فالقيّمون على البرنامج (الإنتاج وجهة البثّ) قرّروا أن ينعتوا هذا البرنامج بالتاريخيّ وغير المسبوق، وبأنه ثورة صغيرة (أو كبيرة) في مفاهيم البثّ التلفزيوني الإسرائيلي. من يفعل ذلك عليه ألا يستغرب الردود التي تعاملت معه من هذا المنظار، وبالتالي تسييس البثّ ومضامينه وتحليله من وجهة نظر تاريخية (صورة العربي في الإعلام العبري؛ عنصرية المجتمع الإسرائيلي؛ علاقتنا مع الآخر). فإذا كان البرنامج تاريخيًا حقا، فإنّ التعامل معه لا يمكن أن يخرج من هذا السياق، التاريخي-السياسي-القومي، ومن هنا يمكن فهم الردود الساخطة عليه، لأنه لم يحمل أية بشرى في هذا السياق، خصوصًا أنه كوميدي- وسأفسّر. يمكن فهم هذه الرّدود، ولكن ليس تفهمها بالضرورة.

بالغ يبالغ مبالغة

الكوميديا هي فن المبالغة ولن تجدوا كوميديا ناجحة في العالم (منذ أرسطو وحتى اليوم) لا تعتاش على السلبيّ والغريب والشاذّ. الأمور الإيجابية تُعالج في التراجيديا والدراما، والأمور السيئة، الدنيوية، الغريبة، تُعالج بالكوميديا. ليس هذا معناه أنّ الكوميديا لا تعالج أمورًا إيجابية؛ ما أقصده هنا أنّ معالجة المواضيع قاطبة (الجيدة والسيئة) في الكوميديا تتم عن طريق المبالغة، وربما التسخيف. من هنا فمن الصعب أن نقبل النقد الذي وُجّه للمسلسل بأنه “يسخر من العرب” أو “يضحك عليهم”، فلا توجد طريقة أخرى لصنع الكوميديا. قد نناقش في الجوهر: هل جانر الكوميديا هو الجانر الذي يجب أن يُبدأ به في انقلاب تاريخي؟ هذا هو السؤال، والحقيقة أنني لا أملك إجابة قاطعة عليه. وأعتقد أنّ السياق السياسي والمجتمعي والعنصري في البلاد لم يكن في صالح المسلسل، إلى جانب أننا كعرب، كشعب وكأمة، لسنا جيدين (كأقل ما يُقال) في تقبل السخرية والكوميديا، وأضِف إلى ذلك أنها تأتي في منصة عبرية-يهودية لا تنصفنا وتلعن فاطسنا، ليل نهار!

هذه هي المعضلة الأساسية التي طرحها المسلسل، وهي صعبة، ولكنها ليست سببًا بأيّ شكل من الأشكال للتخوين والقذف والتشهير.

من يُمثل العرب؟

الأمر الثاني الذي يجب الالتفات إليه هو أنّ هذا المسلسل ترفيهي خيالي، مثل أي “فيكشن” سينمائي أو تلفزيوني، وهو ليس وثائقيًا أو تسجيليًا يجلب الواقع كما هو. والضجة التي قامت مثلا حول تحايل الأب (سليم ضو) على ابنه أمجد (نورمان عيسى) أثناء شراء السيارة في الحلقة الأولى، هي ضجة ليست في مكانها؛ من قال إنّ الأب في المسلسل يمثل جميع الآباء العرب؟ هو، في دوره المكتوب في المسلسل، يمثل الشخصية التي بناها الكاتب (سيد قشوع) ولا شيء غير ذلك. ولكننا، كعرب، اعتدنا طيلة السنوات العجاف الكثيرة، أن نتعامل مع كل عربي يظهر على شاشة التلفزيون على أنه يمثل جميع العرب ويمثل القضية الفلسطينية وحرب لبنان وحرب أكتوبر ونكسة 67 والنكبة ومعركة حطين. هذه طامة كبرى يجب أن نتخلص منها، وهي تفعل بنا ما يفعله الآخر العنصري: تجعلنا أحاديي الأبعاد، مُسطّحين، غير مثيرين كأفراد لهم عوالمهم المستقلة والمتميزة.

إلى جانب كل هذا، يجدر الالتفات إلى الإستراتيجية التي اتبعها القيّمون على البرنامج: تعالوا نبث الحلقات الأولى الصعبة تجاه العرب كي يُقبل الجمهور اليهودي على المشاهدة، ومن ثم نبثّ حلقات أقل حدّة ضد العرب ونقدية أكثر تجاه اليهود. هذه استراتيجية تسويقية تعتمد على حقيقة بسيطة وواضحة: المسلسل مُعدّ لليهود وليس للعرب، ولذلك فإنّ الهدف هو تسويقه جيدًا بين اليهود، عن طريق جذبهم بالضحك على العرب في البداية. وقد يكون هذا الأمر هو ما أثار الردود العاصفة ضد المسلسل، حيث كُتبت الغالبية الساحقة من الردود والتعليقات بعد بثّ الحلقة الأولى أو الثانية أو الثالثة، وهي الحلقات “السيئة”- لو رغبتم بهذه التسمية. وأيضًا: لو كنا نريد أن نحسب حسابًا لردّ فعل اليهود على ما نقوم به من أعمال، لما فعلنا شيئًا في هذه الدولة، وهل المجتمع الإسرائيلي بحاجة إلى “شغل عرب” كي يفكر عنا بنمطية سلبية؟

قشوع الأحمر

ونقطة أخيرة في السياق الماكرو السياسي-الاجتماعي: سيد قشوع هو قماشة حمراء باتت تستفزّ غالبية العرب هنا. أنا لست هنا للدفاع عن قشوع أو المسلسل، ولكنّ ظاهرة استسهال التهجّم على قشوع لأنه يكتب بالعبرية زادت عن حدّها وطفحت. وأريد أن أغضبكم أكثر: قشوع لا يختلف عن 95% من العرب في البلاد بأنه لا يعرف الكتابة بالعربية؛ فكوننا أقلية أمية في التعبير عن نفسها بلغتها هو أمر معروف للجميع. بل على العكس: على الأقل، قشوع يكتب بلغة ما، يحسن التعبير عن نفسه بالعبرية، فهل يحسن جُهّال العربية (غالبية أبناء أقليتنا الصامدة) التعبير عن أنفسهم بأية لغة كانت؟ لا شكّ أنكم تتبرّمون الآن ولكن لا يهم. وسأسدي نصيحة أخيرة للجميع، كإنسان تتمحور كل حياته في الكتابة: اللغة ليست هدفًا، إنها وسيلة. نحن، في رحلة صمودنا حوّلناها إلى غاية قومية عُليا وأنا أحترم هذا بحقّ، ولكن ويلٌ لنا إن حوّلناها إلى صنم نعبده!

إذا كان العربي يتقن الفرنسية فليكتب بها، وإذا كان يتقن الإنجليزية فليبدع بها. هل نحن أفضل من كُتّاب المغرب العربي الرائعين الذين أبدعوا جواهر أدبية كبرنا عليها، باللغة الفرنسية؟ لماذا تبجيل أنطون شماس مثلا وذمّ سيد قشوع؟

كوميديا مواقف

راوح مسلسل “شغل عرب” في موسمه الأول بين الإتقان وبين الابتذال هنا وهناك، وقد طغت هذه المراوحة على جميع حلقاته، أي أنّ الحلقات جميعها تميّزت بمواقف قوية جدية وأخرى ضعيفة ولم تكن الغاية منها إلا الإضحاك عنوة. وفي مثل هذه الحالات، لا يضحك المرء.

الشخصيات التي بناها قشوع والمخرج (روني نينيو) مثيرة في غالبيتها وتحمل في داخلها مكامن قوة درامية لا يمكن تجاهلها، إلا أنّ هذه الشخصيات القوية انحصرت في الرجال في المسلسل: أمجد، المشتت بين عالمه والعالم اليهودي؛ مئير، المصور اليهودي الذي يعمل معه أمجد، ويتغير تعامله السطحي مع العرب بعد تعرفه إلى أمال (ميرا عوض) التي يسعى لمغازلتها؛ والأب، الذي يسعى طيلة البرنامج كي يكون فهلويًا ومنتصرًا، بأيّ ثمن وبكل الحيل الممكنة. أي أنه يسعى ليكون “كومبيناطور” إسرائيليًا نموذجيًا، وحاشا وكلا أن يكون “فراير” يُضحك عليه- أي أنه مفسرل حتى النخاع، وبنظري أكثر من ابنه أمجد بكثير. فتذويت النزعة الإسرائيلية وتحويلها إلى حلول جاهزة (كما يفعل الأب) هما الأسرلة الخطيرة التي نحن ضدها، بينما البحث عن الذات، ولو بمشاعر الدونية ووسط ضياع مجتمعي، هو تجسيد لحالة الكثيرين من العرب في البلاد، ومن هنا التعاطف الذي يمكن أن يطوّره المرء لشخصية أمجد، بدلا من كراهيته لأنه “بدو يصير يهودي”.

المسلسل مكتوب وفق مبادئ كتابة مسلسلات الدراما الغربية: موسم من 13 أو 9 حلقات؛ كل حلقة 25 دقيقة (غير الإعلانات)؛ قصص قصيرة في كل حلقة وخلالها تنمو وتكبر قصة أو قصتان كبيرتان تستمرّان طيلة الموسم. والمسلسل من هذه الناحية مكتوب بشكل جيّد ومتقن، وفي حلقات معينة ممتاز. كما أنّ قشوع كتب مسلسلا بالعربية وفق مبادئ هذا الجانر، في خطوة نادرة، حيث اعتدنا على المسلسلات العربية وهي تكتب بوتيرة درامية شديدة البطء، وبحلقات طويلة (ساعة واحدة) ولفترة طويلة (20 أو 30 حلقة).

متهاونون أم متعصبون؟

هذه تجربة جديدة تُسجّل لصالح هذا المسلسل وهي تثبت أنّ العرب ليسوا مُدمنين بالضرورة على صنع وإنتاج المطولات الرمضانية فحسب. ليست هنا أية مفاضلة بين الجانرين: لكل واحد مُستهلكوه ومُحبّوه ولا أعتقد أنه توجد معادلة صواب أو خطأ في هذا الصدد.

كما أنّ البرنامج يراوح في ماهية الكوميديا التي يقدمها بين نهجين أساسيين: كوميديا المواقف والسليبستك، والثاني أخطر وأصعب لأنه سريع المنزلق نحو الابتذال والسطحية، وغالبية المواقف الضعيفة في المسلسل نبعت من هذا النوع من الكتابة، بينما نبعت المواقف الجيدة أو الممتازة من كوميديا مواقف متينة (توهّم المصور بأن العرب اختطفوه؛ العنزة التي تتقن لعبة الهوية؛ عيد الفصح العربي). وفي مجمله كان “شغل عرب” مسلسلا جيدًا من ناحية المُؤدّى والجانب الفني، وأعتقد أنّ القيّمين عليه سينجزون موسمًا ثانيًا (بُدئ العمل عليه) أفضل من الموسم الأول، بعد تجاوز هفوات المغامرة الأولى.

هل يمكن الفصل بين الجانب الفني-الدرامي للمسلسل وبين جوانبه السياسية-القومية؟ أنا شخصيًا أستطيع فعل هذا (ببعض الصعوبة)، وهذا لا يجعل مني مُتهاونًا أو مُتخاذلا، كما أنه لا يجعل ممّن لا يستطيعون الفصل بين الأمريْن، مَحدودين ومُتعصّبين.

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 15 شباط 2008)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *