من غزة لعكا…
“مصر يا أم الدنيا، أليست غزة من الدنيا؟”- كُتب على اللافتة الورقية الزرقاء التي رفعها أحد أطفال عكا العرب في المظاهرة التي جرت عصر أمس الاثنين. كانت المظاهرة صاخبة ضاجة وكان الغضب يخرج من جميع الحناجر. الجميع يهتف ولكن جميع الهتافات ضد الحكام العرب (والمسلمين) وبالتحديد- حسني مبارك، الزعيم المصري، الذي يؤكد الهتاف أنه جبان وأنه عميل للأمريكان.
في الجوانب همسات وهمهمات. الشباب لا يفهمون لماذا لا تسير المظاهرة في الشوارع ولماذا لا يخرج الجميع سائرين في عكا لإيصال الكلمة والألم. “هاي مظاهرة هاي؟”، قال أحدهم، ثم سألني بارتياب “لمين بتصور؟”. هي الرغبة الدفينة في إسماع صوتنا للعالم، صوت غزة وصوت عكا وغيرها من الداخل الفلسطيني، الرغبة في عمل شجاع مِقدام يعبّر عن الألم والغضب، إلا أنّ الخوف من “الشين البيت” الذي يصوّر وينقل الوشوشات إلى المخابرات الإسرائيلية يظلّ حاضرًا حتى في لحظات الهبّة الصادقة.
في منتصف المظاهرة تعالت نداءات المُنظمين للدخول إلى الجامع (جامع الجزار)، فتعجّب الكثيرون: “ليش بالجامع؟.. بدنا نعتصم لحالنا جوا؟ مين بشوفنا؟”، ثم قال أحدهم وهو يعبر من أمامنا، بسخرية كبيرة أغاظت الكثيرين: “خلصت المسرحية”؟
الحقيقة أنّ هذه المظاهرة لم تكن مسرحية بالمرة؛ فقد هتف الجميع، الأطفال والنساء والرجال، بكلّ حناجرهم، وكان الصدق يرشح من كل هتاف ومن كل كلمة. كان المطر الغزير يغدر بالمتظاهرين ولكنهم لم يهربوا منه، بل تحوّلت المظلات (الشمسيات) إلى سلاح فتاك ضد العدوّ الداهم: المطر. “عالأقل إحنا معنا شمسيات واللي بغزة؟”- تساءلت صبية تتدثر بالكوفية الفلسطينية وتحمل شعارًا ورقيًا أبيض مُلطخًا بالأحمر.
في النهاية حاول المنظمون بأيّ ثمن منع عشرات الشباب والصبايا من الخروج إلى مسيرة في أحياء عكا القديمة، ولما لم تعد تُجدي الرّجاءات عبر مكبّرات الصوت، نزل أحد المنظمين وحاول ردّهم، ولما لم ينجح انضمّ إليهم! مشهد عبثيّ يعيد إلى الأذهان الحذر الذي يلفّ عكا منذ أحداثها الأخيرة والتي بعث أثناءها أهلُ غزة وجميع الفلسطينيين نداءات التضامن معها، وهو ما قاله سمير العاصي، إمام جامع الجزار، وأحد المنظمين: “بالأمس وقفتم مع عكا واليوم نحن نقف معكم”.
وفجأة، بعد أن تحرّكت المسيرة رغم معارضة المنظمين، ظهر من وراء الجامع من عكا القديمة وفد سياحي أجنبي توقف مذهولا مرة واحدة من الشباب الصارخ والأعلام ونداءات “الله أكبر”. المساكين. لا بدّ أنهم ذعروا خوفًا، خاصة عندما صرخ بعض المنظمين على الشباب والصبايا مطالبين بعدم التعرّض للسياح، إذ أنهم لم يفهموا ما معنى الصراخ فاشتدّ حذرهم أكثر ووقفوا جميعهم مُتراصّين أمام مطعم الحمص ريثما تعبر المسيرة العفوية. ذلك المشهد جذب الكثير من الحاضرين الذين أخرجوا كاميراتهم وهواتفهم وبدأوا بتصوير الأجانب. قد تكون هذه المرة الأولى التي يتحوّل فيها السياح إلى موضوع للتصوير في عكا وليس العكس!
المشاعر جياشة من كل حدب، والحمية تغلب على الشبان والصبايا. النار تشتعل فيهم وتلمس أمامك ما يعنيه “التواصل” و”شعب واحد لا يموت”. كانوا يصرخون: “نموت وتحيا فلسطين”، وفي عكا كما في عكا لا بدّ من نكات وروح دعابة، ولا بدّ من أحد ما يخرج بمزحة لكسر القلق والتوتر في الجو، فقال أحدهم بهتاف خجول: “نموت وتحيا يوفنتس”!
وبين المزاح والجدّ جاب شباب وصبايا عكا أزقتها وهم يتوقون إلى غزة ويرفعون إليها جميع هتافاتهم ودموعهم… ونكاتهم العكية.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 30 كانون الاول 2008)