من أزاح جوربي؟
علاء حليحل
قبل شهور عدّة قرّرتُ أن أتّبع عاداتٍ جديدة قد تُعينني على الخروج من حالة الجمود والركود في كلّ ما يخص الكتابة وإتمام المشاريع التي أهدس بها منذ سنوات. ومن ضمن القرارات الشجاعة التي اتّخذتها ما يشبه لعبة تواطؤ سريّة بيني وبين نفسي، آمنتُ بأنّها ستُعينني على كسر المُعلّبات والقوالب والمربعات التي تُحيط بدماغي: أن أرتدي كلّ يومٍ جوربيْن غير متطابقيِّ الألوان!
الفكرة بسيطة: من قال إنّ علينا أن نرتدي جوربيْن متطابقيْن ولماذا لا يُشكّك أحدٌ في هذا الإملاء الاجتماعيّ- المَوضاتيّ، ومنذ متى تحوّلت مطابقة الجوارب إلى دليل على شخصية مُتّزنة أو سويّة أو نافعة مجتمعيًّا؟.. وَمَن فاكِن يهتمّ بذلك أصلًا؟
خطوة صغيرة لي، خطوة جبّارة للإنسانيّة!
بدأتُ أُفنطِز بالكتاب الذي سأكتبه بعد سنة، وسيكون كتابًا هائلًا سيؤثر على البشريّة كلّها، إذ أنّه سيعطي الناس أداة سهلة وبسيطة ستُغيّر حيواتهم وستُخرجهم من ظلمات القوالب والصناديق التي يعيشون فيها، إلى أنوار الإبداع والتفكير الحُرّ وكسر القيود والأنماط المجتمعيّة. سأحشوه باقتباسات من جلال الدين الرّومي وسأسمّيه: “الكاتب الذي خَرْبَطَ جواربه” (عنوان منقول عن “الراهب الذي باع سيارته الفيراري”، وهو استغلال وقح لمومينتوم قائم، لكنّ هذه الكتب مسروقة كلّها عن بعضها البعض- فلا بأس).
صفنتُ طويلًا أمام خزانة الملابس وفجأةً، بدت لي هذه الجوارب الملفوفة بأزواج متطابقة كالمشنقة التي تشدّ على عنقي وتدفعني نحو الأسفل، نحو الهاوية. أخرجتُ كلّ جواربي وفككتُها من بعضها البعض وخربطتُها على السّرير بسعادة غامرة؛ كتلك السّعادة التي كان دحدوح ودشدوشة يُخربطان فيها الكرات البلاستيكية في بركة الكُرات (الطافحة بالجراثيم دائمًا). لم أصدّق لحظتها أنّني عشتُ 46 عامًا كاملة وأنا مُكبّلٌ بهذه الجوارب المُتطابقة التي تُسطّح الحياة والناس وتُذيبهم في ضمن فُرن صهر كبير يجعل منهم كائنات خنوعة ومُسيّرة ومُمِلّة. كيف يُمكن للتخلي عن عادة قبيحة واستسلاميّة كهذه أن تجعلنا ناجحين ومُتفوّقين وبارزين! وللحظة فكّرتُ في تغيير اسم الكتاب إلى “نادي الجورب الخامس” (تنويعة على كتاب “نادي الخامسة صباحًا”) لكنّني قررتُ البتّ في الاسم لاحقًا.
بدأتُ أرى نهاية الصيغة الأولى لرواية “سَراب” التي هجرتها منذ 12 عامًا، والحلّ الدراميّ للفصل الثاني في مشروع رواية “بحر أريحا” التي أعمل عليها تباعًا منذ خمس سنوات، واتضحت لي صورة مريم البطلة إذ تجلّت أمامي بهيّة قويّة حزينة (كانت في لحظة التجلّي تلك أمام سريري الطافح بالجوارب المبعثرة تشبه أسمهانَ، حبيبة قلبي)؛ والآن أدركت للتوّ ما عليّ فعله لتحسين صيغة مسرحيّة “أنفاق” المتروكة منذ دهر. “شكسبير إن لاڤ”!
جمعتُ الجوارب كلّها، مُخربَطة بعناية فائقة، وأعدتُها للخزانة. ارتديتُ جوربيْن غير متطابقيْن ونظرتُ إليهما في قدميّ: الجورب الأيمن أزرق والأيسر بوردو. مينيموم تشي جيفارا! انتعلتُ حذائي ومشيتُ في الشقّة قليلًا. فاكِن بْرِنْجي! شعرتُ بأنّني خفيف شفيف، كالذي يمشي وسط حقل من الضّباب السّحابيّ الرّهيف. سَرتْ رعشة في جسدي وأحسستُ بأنّ روح هِرمان ملفيل مؤلف “موبي ديك” قد حلّت فيّ، وها أنذا على وشك البدء بكتابة ملحمة “موبي ديك” عربيّة فلسطينيّة، ينطلق فيها القبطان وبحّارته من ميناء عكّا بجانب مطعم المَرسى وبسطة “زَريف” المُرتجَلة للسَّمك.
نزلتُ من الشقة وخرجت من المصعد عند مدخل العمارة فرأيت جارتنا السّاخطة الصّارخة دائمًا تدخل مقابلي فهبط قلبي. هل تعرف أنّني أرتدي جوربيْن غير متطابقيْن؟ ماذا ستفكّر عني؟ أناركيست مُنحلّ؟ حيّيتُها بلطف مبالغ وأعتقد أنّها شكّت في لطافتي: فعندما نظرتُ للخلف بعد تجاوزها وجدتُها تستدير للنظر إليّ أيضًا. هل رأتِ الجوربيْن؟! هل ستخبر ابنيْها العاطليْن عن العمل، وبطليِّ الأرجيلة في أبرشيّة عكّا وسائر الجليل؟
في المكتب لم تسِر الأمور على حال أفضل. كنتُ أرفع البنطال كلّ خمس دقائق وأنظر إلى الجوربيْن. شعور مختلط من النصر والتميّز، ومن الخجل والخوف، سيطر عليّ لساعات طويلة. اضطرابٌ غير مفهوم، كالذي قتل شخصًا ما ودفنه في حديقة بيته. ثم تحوّل الأمر إلى مهمّة شاقّة: هل يُعتبر الأزرق الغامق والأسود متنافريْن لدرجة أنّهما جوربان غير متطابقيْن؟ واكتشفتُ أنّ مخزون الجوارب عندي يُرواح بـ 99% منه بين الأزرق الغامق والأسود، ولديّ زوج واحد بوردو وزوج أحمر (وَظّفَكْ؟!) وزوجان أبيضان. كيف يمكن أن أُحطّم النمطيّات التي في حياتي بخيار واحد مُقلّص: أزرق غامق وأسود؟ وعليه، يمّمتُ شطر سوق الرملة في عكا (مبلا، سوق الرملة في عكا مغلطتش) كي أنتقي لي دزّينة أو اثنتيْن من الجوارب المُلوّنة. ثم داهمتني الإشراقة وأنا أفاصل البائع: هل أنا بحاجة لشراء 12 زوجًا مُلوّنًا من الجوارب كي أنقذ نفسي من براثن “الجورب الكبير”؟.. وإذا كنتُ أنوي ذلك، فهل عليّ التخلّص من الجوارب السوداء والزرقاء العميلة؟
حارَ البائع المسكين (من سخنين) في أمري. كان يعتقد أنّني من تيّار المُمانعة الصَّلب، لكنّني كنتُ أهدس في حيرتي الوجوديّة لا في سعر الجوارب. وعندما انتشلتُ نفسي من أفكاري المحمومة سمعتُه يقول “40 شيكل خيّا”. حقًّا؟ يمكنني تأليف “موبي ديك” الفلسطينيّة بكلفة 40 شيكلًا فقط؟ نظرتُ إلى السخنيني الحائر الذي كان على وشك الانهيار، واشتريتُ الجوارب بهذا الثمن البخس وأنا في برزخٍ من المشاعر المتضاربة.
في اليوم التالي مددتُ يدي إلى الخزانة وأنا مُغمض العينيْن كي أخرجَ زوجًا متضاربَ الألوان من الجوارب الحُرة المبعثرة، وبعد أن فتحت عينيّ رأيتُ أنّني أخرجتُ جوربيْن أسوديْن. عاودتُ الكرّة وأخرجتُ واحدًا أزرقَ وواحدًا أسودَ. في المرّة الثالثة أخرجتُ جوربيْن حمراويْن مُتطابقيْن مع أنّني لم أشترِ جواربَ حمراء من سوق الرّملة تبع عكا (What are the odds?). في المرّة الرابعة لم أغمض عينيّ وأمسكت جوربًا أخضرَ وثانيًا بُرتقاليًا وقررت ارتداءهما. هممتُ بانتعال الحذاء لكنّ شكًّا تسرّب إليّ بغتة: هل عدم التطابق بين الجوربيْن كافٍ أمّ أنّ فيه ترسّبات من الإنسان القديم (بكلّ معنى الكلمة!) الذي كُنتُه قبل يوميْن؟ هل يكفي تنافر الألوان أم هل يجب ضمان اختلاف الشّكل أيضا؟ ربما فردة طويلة والثانية قصيرة بارتفاع طرف الحذاء فقط (هاي القَصة لَليش أصلا)؟ وبماذا تنفع الجوارب المختلفة إذا لم يرها أحد؟ أليس من الأجدر أن أدور في البلد ببنطال برمودا ثلاثة أرباع؟ وهل على لون البنطال أن يتضارب مع لوني الجوربين؟ أسئلة وجوديّة لم يطرحها بَشَريّ منذ أسئلة المرحوم رافع شاهين للمتسابقين في “فكّر واربح” (تبيع الجائزة بخمسين نيرة؟).
وأكثر: كيف يجب على عدم التطابق بين الجوربيْن أن يكون، وهل الحرص الزائد على عدم تطابق “فوضويّ” يمكن أن يُشير إلى اهتمام قديم عبثيّ بمدى تطابق الجوربيْن على النمط القديم؟ مثل “الثوريّين الكُوول” الذين يقفون مقابل المرآة ساعة أو أكثر يبعثرون شعرهم بحرص شديد كي يُصدّق الناس أنّهم لا يعتنون بشعرهم. ولأوّل مرّة أحسستُ بأنّ الأخ الكبير يسخر منّي. كلّ هذا الجهد كي أثبت أنّني لا أهتمّ بمطابقة الجوارب؟ هل نويتُ الانتصار على الجوارب فهيمنتْ عليّ نهائيًّا؟ هل أنا ملحمة إغريقية تراجيدية؟
نعم أنا كذلك! فبعد قرابة الشهر وجدت نفسي أرتدي جوربين متطابقي اللون “بالخطأ”. وفي اليوم التالي وأنا أطوي الغسيل ضممتُ جوربين إلى بعضهما البعض كما كان الإنسان القديم الذي فيّ يفعل. وبعد أيّام ضبطتُ نفسي أثناء نشر الغسيل، وأنا أرتّب تعليق الجوارب المتطابقة بجانب بعضها البعض تسهيلًا لجمعها وضمّها سويّة فيما بعد… #نهاية_رجل_شجاع !
لكن، نحن نسعى بكلّ قوانا لكسر الأنماط التي تربيْنا عليها، ونحاول مناوشتها للخروج من “المساحة المريحة” التي تعوّدنا العيش فيها. لكنّ لا أحد يتحدّث عن شرعيّة العيش في المساحة المريحة. إنّها رائعة!
كم كنتُ غبيًّا وأنا أعتقد أنّ ارتداء جوربيْن مختلفيّ اللونيْن سيُنقذني من المراوحة في المكان والدوران حول نفسي. لكنّني لم أيأس؛ أعتقد أنّني أخطأتُ في التكتيك لا في الاستراتيجيّة. فتغيير كبير كهذا بحاجة إلى خطوة أكبر وأقوى وأكثر بَأسًا وتأثيرًا من خربطة الجوارب: إنّه بحاجة إلى ارتداء البلوزة على الشقلوب!