مرحلة جديدة، “ميرتس” جديدة (ومُحطّمة)!
علاء حليحل
ليلة أمس، في منتصفها، صعد يوسي سريد، زعيم حركة “ميرتس” إلى المنصة في قاعة “تسافتا” في تل أبيب، وأعلن عن استقالته “في حال صدقت الاستطلاعات”. قاعة “تسافتا” في تل أبيب هي رمز اليسار الصهيوني العلماني في إسرائيل واستقالة سريد من هناك هي رمزية إلى أبعد الحدود. لم يشكّك أحد بالضرورة ليلة أمس في صدق الاستطلاعات، التي أجمعت كلها على تحطم “ميرتس” في الانتخابات، على رصيف الانتخابات الاسرائيلية. ستة مقاعد هي الحصيلة شبه النهائية لهذه الحركة، التي انطلقت في العام 1992 بـ (12) مقعدًا، ومن وقتها مرّت بالكثير. منذ إنتزاعه قيادة “ميرتس” من شولاميت ألوني في العام 1994، أُعتبر يوسي سريد حتى ليلة أمس الزعيم غير المنازع وغير المعارَض. ولكن هذا كان في الظاهر أحيانًا..
في العام 1992 أقيمت “ميرتس” كتحالف بين ثلاثة أحزاب: “راتس”، “مبام” و”شينوي”، وخاضت الانتخابات في تحالف واحد تحت برنامج إنتخابي مشترك، وعلى رأسه تحقيق حل سياسي للنزاع بين إٍسرائيل وجاراتها، فصل الدين عن الدولة ومواضيع حقوق الانسان وتقوية المؤسسات الديمقراطية في الدولة. في الانتخابات للعام 1992 حصلت “ميرتس” على (12) مقعدًا، الإنجاز الأكبر في تاريخها، برئاسة شولاميت ألوني، والذي لم يتكرر أبدًا، تحت زعامة سريد. بعد هذا الانجاز طالبت أصوات كثيرة بتوحيد الأحزاب في حزب واحد ودستور واحد وأهداف واحدة. “راتس” و”مباي” وافَقا بأغلبية ساحقة، فيما عارض “شينوي” ذلك وانسحب من الائتلاف، مع أن قياديين بارزين منه بقَوْا في “ميرتس”، أهمهم أمنون روبنشطاين.
في الانتخابات في العام 1996 حصلت “ميرتس” على (9) مقاعد، وفي العام 1999 حصلت على (10) مقاعد. في تلك السنة دخلت “ميرتس” إلى الائتلاف في حكومة أيهود براك. بعد سنة من جلوسها في الحكومة اضطرت “ميرتس” إلى ترك الائتلاف والتخلي عن الوزارات التي كانت معها. هذا الانسحاب جاء على خلفية النزاع المستفحل بين “ميرتس” كحزب علماني يساري (صهيوني) وبين “شاس”، كحزب يميني حريدي. هذا النزاع تمثل في رفض يوسي سريد، وزير التربية والتعليم عندها، تلبية طلبات نائب الوزير مشولام نهاري من “شاس”، المتمثلة في ميزانيات للمؤسسات التعليمية والتربوية التابعة لـ “شاس”. هذه القضية مثّلتْ البداية للتشكيك في سريد كزعيم غير منازع، وعَلَتْ الكثير من التساؤلات، من “ميرتس” وخارجها، حول مصداقية ما فعله سريد، بتهديد المسار السلمي وحكومة براك، مقابل العناد على بضعة ملايين من الشيكلات.
في ملحق “هآرتس” قبل أسبوعين نُشر تقرير أبرزت فيه كل الادعاءات ضد يوسي سريد: متكبر، متهور، ساخر أكثر من اللازم، حِمْل على اليسار وغير ذلك. مقابل ذلك كان هناك من أكد من الطاقم الاعلامي والاستراتيجي الذي عمل في خدمة “ميرتس”، على أن الاستطلاعات الداخلية التي أجروها تؤكد على أن شخصية سريد هي الأكثر قبولا بين مصوتي “ميرتس” واليسار، وهذا كان السبب من وراء وضعه في مقدمة الحملة الانتخابية. النتائج التي تحققت أمس، تثير التساؤلات في منحييْن: هل أخطأ الطاقم الاستراتيجي في تقديراته حول شخصية سريد، أم أن قوة اليسار كانت ضعيفة (كما رأينا) إلى الحد الذي لم تنفع فيه حتى شخصية سريد المحبوبة بين مصوتيه…
في هذه الانتخابات ائتلفت “ميرتس” مع حركتين: حركة “شاحر” التي أسسها يوسي بيلين وضمت أيضًا ياعيل ديان، التي لُفظت من قائمة “العمل” للكنيست؛ والحركة الثانية هي حركة “الخيار الديمقراطي” برئاسة رومان برونفمان، عضو الكنيست اليهودي الوحيد الذي أعلن تضامنه مع رافضي الجندية في المناطق المحتلة. هذا الائتلاف لم يأتِ بالثمار المرجوة، كما رأينا. الأسباب التي أدت إلى تحطم “ميرتس” هي كثيرة. أهمها: عدم القدرة على منافسة “شينوي” في إكتساحها لمصوتي الطبقة الوسطى في إسرائيل، وعدم قدرة “ميرتس” على جذب جماهير مصوتين جديدة، خاصة من الأحياء الفقيرة وبلدات التطوير. كل ذلك على الرغم من أن الجميع يجمع على أن سريد هو أكثر وزير تربية وتعليم حسّن من وضع المدارس والتعليم في بلدات التطوير والأحياء الفقيرة، التي يسكنها مصوتو اليمين و”الليكود”.
أسباب أخرى: محاولة “ميرتس” التركز في عدد كبير من المواضيع، من دون القدرة على تحقيق إنجازات في كل موضوع وموضوع. في البرنامج الانتخابي لـ “ميرتس” وردت المواضيع التالية: إنهاء الاحتلال، انقلاب في التعليم، تغيير نظام الاولويات الوطنية، المحافظة على حقوق الانسان، النزاهة، مساوة النساء، مساعدة المعوقين ومحدودي القدرات، مساواة للعرب في اسرائيل، محاربة حوادث الطرق، حماية الطبيعة، حقوق الاطفال، محاربة السموم، حقوق المتقاعدين، جودة خدمات الصحة وإقامة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. البند الأخير من البرنامج الانتخابي هو لوحده مهمة شاقة ومتعبة بحاجة إلى مجهود كل نواب “ميرتس” ونواب من خارجها لتحقيقه. البعض سيرى الآن في هذا البند فانتازيا بعيدة من أرض الواق الواق. البعض سيرى في الأرض المحروقة التي خلفها اليسار الصهيوني مرتعًا خصبًا لهذه الفكرة، في حال سيطرة متسناع نهائيًا على “العمل” وتبكير الانتخابات. عندها ستجد “ميرتس” وبيلين، أب الفكرة، شريكًا جاهزًا للفكرة في مقر حزب العمل في حي “هتكفاه” التل أبيبيّ.
كما يمكن ذكر الحرب الضارية التي دارت بين “العمل” و”ميرتسط. فالاثنان لم يستطيعا وقف طوفان “شينوي”، وبالتالي حاول كلٌ من الحزبين أن يقتطع له ما يمكن من الأصوات، من معسكر الآخر. ما يُسمى: “اليسار” الذي يأكل نفسه!
كارهو سريد سيضيفون سببًا آخرَ: سريد نفسه!
سريد بدأ في صوت إسرائيل، حيث عمل محررًا ومقدمًا للأخبار. في العام 1964، بعد ثلاث سنوات في “صوت إسرائيل”، استقال وعمل ناطقًا بلسان حزب “مباي”. في العام 1974 أنتخب للكنيست ضمن قائمة حزب “العمل”، وظل المؤشر اليساري فيه إلى حين تركه بعد عشر سنوات من إنضمامه. في العام 1984 انضم إلى قيادة “راتس” إلى جانب شولميت ألوني، وعُين وزيرًا للبيئة في حكومة رابين في العام 1992. طيلة الفترة بعد 1994، أتهم سريد بأنه يتكبر على زملائه في “ميرتس” ويتعالى على باقي الأحزاب والمصوتين. كل ذلك على خلفية أنه لم ينجح في تكرار نجاح “ميرتس” الانتخابي في العام 1992، الذي حققته شولاميت ألوني.
وكمن أتهم طيلة الوقت بأنه مؤشر يساري في “العمل”، فإن كل منتقديه إتهموه بأنه مؤشر يميني في “ميرتس”. بأنه “أمني” أكثر من اللازم. في معظم سنيه في الكنيست كان عضوًا في لجنة الخارجية والأمن، وفي اللجنة الفرعية للخدمات السرية. هذا هو السبب، يقول منتقدوه، الذي وقف من وراء اعتراضه على الانسحاب أحادي الجانب من جنوب لبنان المحتل، الذي نفذه براك (البعض الآخر يقول إن سبب معارضته بالذات، هو أن المبادرة جاءت من يوسي بيلين، موضع غيرة وتنافس عند سريد. وهم أنفسهم الذين قالوا إن علاقات سريد وبيلين في داخل “ميرتس” ستكون مثيرة جدًا للاهتمام).
المراقبون يقدّرون أن المتنافسين على منصب زعيم “ميرتس” سيكونون ران كوهن، حاييم أورون، زهافا غلؤون وأفشالوم فيلان. في “ميرتس” يقدرون أن يوسي بيلين قد يطرح نفسه كمرشح لقيادة “ميرتس” على الرغم من أنه لم يُنتخب للكنيست ضمن القائمة. في خطاب إستقالته قال سريد: “النتائج، مهما ستكون، هي مخيّبة للأمل بالتأكيد. لم ننتظر مثل هذه النتيجة، وليس هذا ما نستحقه. يجب تحمل المسؤولية عن النتيجة المخيّبة، وليس هناك من يفعل ذلك غير رئيس الحزب، وهو أنا. لذلك فأنا آخذ المسؤولية على عاتقي وأستقيل من منصبي كرئيس ‘ميرتس‘”. سريد لم يقرر بعد ما إذا كان سيستقيل من الكنيست أم لا. هذه النقطة قد تكون مثار جدل بين الذين يرغبون في الحلول مكانه. ليس من المريح أبدًا أن تقود حزبًا متحطمًا في الكنيست، في الوقت الذي يتجول فيه رئيس الحزب السابق في أروقة مبنى الحزب وفي مكتب الكتلة في الكنيست، وأيضًا، وبالأخص، في الاعلام الذي يتقن التجوال فيه.
“المشهد السياسي” توجه إلى يوسي سريد بطلب إجراء لقاء معه، ولكنه رفض التحدث، “لأنه لا يعطي أية لقاءات صحافية لا اليوم، ولا في الأيام القادمة”.
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في كانون الثاني 2003)