مديرة من طراز آخر
أفنان إغبارية المديرة بأل التعريف: منذ أن تولت زمام المدرسة وهي تخطط لبناء نهج جديد، لوغو للمدرسة، أغنية، أجواء طلابية، ديمقراطية، شراكة وإشراك، حب وقُرب وتفهّم. إنه توجّه رائع لأنه سينقذ عشرات الطلاب “الوسط” و”الضعاف” من فكّيّ “البجروت” و”الدبلوم” والتقييم الذاتي المنخفض
علاء حليحل
لم يكن مدير المدرسة في حياتي أكثرَ من شرطيّ يراقب خطواتنا، يتنبه لإزعاجاتنا، يتبع خطواتنا كي يتأكّد من أننا لم نهرب من الحصة كي ندخّن بعض السّجائر. لم يتسنّ لي في 12 سنة تعليمية أن أتعرّف على جوانب أخرى من شخصيتيْ المديريْن اللذيْن سيطرا على معظم حياتي حتى سنتي الثامنة عشر.
وقد كنت في دفء قريتي الوادعة أسمع من مرة إلى أخرى قصصًا “غريبة” عن مدير مدرسة في قرية أو مدينة أخرى يعلب كرة القدم مع الطلاب أو يسافر معهم إلى خارج البلاد لمسابقات رياضية مختلفة. لم نكن نصدّق ونحن في عنفوان مراهقتنا أنّ ذلك الشخص الذي ينبغي أن يسيطر على هرموناتنا الثائرة يمكنه أن يكون صديقًا أو قريبًا أو شخصيًا. هذه هي النقطة: لم يكن المدير شخصًا (فردًا) بالمعنى الكامل للكلمة. حتى إنني أذكر أنني فاجأتُ المدير مرة وأنا في الصفّ الحادي عشر، حين دخلت غرفته ووجدته يأكل خبزة مع لبنة وبندورة. لم يبدُ عليه الحرج وقتها (وماذا فعل؟) ولكنني عندما خرجتُ من غرفته كنت لا زلتُ مصعوقًا: هذا المارد الكبير المُهاب يأكل خبزة مع لبنة؟
وقد تراوحت علاقتي مع مدير الثانوية ما بين مدّ وجزر، وحبّ وكراهية، وتعاون واختلاف، حيث وصلت ذروة القربى بيني وبينه في الصفّ الثاني عشر عندما اُعتبرتُ وبشكل رسميّ “زلمة المدير”، لأنه كان يلقي عليّ ببعض المهام التنظيمية، حتى إنني اُتهمتُ بأنني أنا من رتّب كبسية الدخان في ذلك الصباح المشؤوم، حين تلبس أكثر من 13 طالبًا وطالبة بلُبس الجرم المشهود بامتلاك علبة سجائر وقدّاحة (ومن ضمنهم أنا!). ولكنني بعدها بدأتُ أشمّ رياح الرجولة المقتربة بعد خروجي إلى العالم الفسيح، فانضممتُ إلى قافلة المتمرّدين من مُعلني العصيانات على المدير والإدارة، حيث بدأنا نشعر بفقدانه السيطرة علينا ورغبته الظاهرة في إرضائنا كي نحصّل علامات عالية في البجروت ونرفع رأسه ورأس المدرسة. في الفرصة الأولى التي سنحت لنا- لفظناه ولفظنا المدرسة!
لا أذكر للآن أيّ موقف جميل مع أيٍّ من المُديريْن اللذيْن رافقا حياتي وقتها: من نعومة الابتدائية وحتى ظلف الثانوية. لا أذكر جلسة حميمة من الأحاديث، ولا أذكر موقفًا إنسانيًا ولا أذكر تشجيعًا على فعل أيّ نشاط لا تتبعه علامة واضحة يمكن أن ترفع من سجلّي الشخصي وبالتالي من سجلّ المدرسة. لا أشعر باشتياق إلى المكان الذي كان من المفترض أن يبني شخصيتي وأفكاري ومستقبلي.
هكذا يبنون الإنسان، وهكذا إنسان سيجلب علامات جيدة بلا شك، ولكنها ستكون تحصيل حاصل لشخصيته المتميزة
منذ أن تحوّلت المدارس إلى دفيئات لتفقيس الشهادات و”البجاريت”، صارت مهمة المديرين والأساتذة “حلب” أقصى درجة ممكنة من العلامات. صارت العلامات نبراس الأمة؛ أية مدرسة حققت هذا المعدل وأيّ طالب(ة) حصّل 786 في البسيخومتري وسيظهر اسمه واسم المدرسة واسم معهد البسيخومتري في مواقع الانترنت. لم تعد للطالب(ة) الفرد أية قيمة. لم يعد لرفاهيته وطموحاته وأهوائه أيّ حضور، ما دامت هذه ستؤثر على تحصيله النهائي. الآن، بعد 18 سنة على إنهائي الثانوية بمعدّل 112 في البجروت و640 في البسيخومتري، أقولها بكلّ ثقة: طزّ في العلامات!
كيف يمكن أن تكون مثل هذه المقالة النوستالجية دفاعًا عن المربية أفنان إغبارية، مديرة مدرسة “المتنبي” في حيفا، التي تتعرّض لهجمة سلطوية شاباكية؟.. لأنّ أفنان عكس المديريْن اللذيْن عرفتهما تمامًا. إنها المديرة بأل التعريف. منذ أن تولت زمام المدرسة وهي تخطط لبناء نهج جديد، لوغو للمدرسة، أغنية، أجواء طلابية، ديمقراطية، شراكة وإشراك، حب وقُرب وتفهّم. إنه توجّه رائع، ليس لأنه يحوي كلمات برّاقة نحبّ سماعها، بل لأنه سينقذ عشرات الطلاب “الوسط” و”الضعاف” من فكّيّ “البجروت” و”الدبلوم” والتقييم الذاتي المنخفض. هكذا يبنون الإنسان، وهكذا إنسان سيجلب علامات جيدة بلا شك، ولكنها ستكون تحصيل حاصل لشخصيته المتميزة.
كم أحسد طلاب أفنان عليها وكم أتمنى لو كانت لي مديرة كهذه. ولكنني أعرف على الأقل أنّ طلاب مدرستها يتمتعون بهذا. يجب ألا يفقدوا هذه المتعة وهذه الفرصة. يجب أن ننتصر على التحريض ضدّها. قضيتها قضيتنا جميعًا. كلنا أفنان.
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 8 تموز 2011)