ماذا قال المهدي؟..
عن مسرحية “لا لم يمت” وأشياء أخرى…
علاء حليحل
مسرحية “لا لم يمت” هي مسرحية عن التاريخ. والتاريخ في هذه المسرحية يرويه المنهزم، وليس المنتصر (حاليًا). تاريخ الفلسطيني الذي ينتظر المهدي ويرفض التصديق أن المهدي هو نحن معًا، وكل على حدة. في هذا الزمن الرديء يبدو انتظار المهدي كانتظار غودو، كانتظار المطر في عز الصيف. د. حسين برغوثي، مؤلف المسرحية، لم يسعفه الحظ في التيقن بنفسه من قدوم المهدي المنتظر. في الغرفة الباردة الخضراء، التي كان ينتظر فيها النهاية الحتمية، في مستشفى رام الله، كان حسين يرغب في الجلوس على الكرسي. ملّ السرير الذي ربما ناء بحمله، في أيام العجز والاحتلال الأخيرة. لم يكن باديًا عليه أنه ينتظر المهدي. المهدي، ذلك الدواء العجيب من لبنان الذي كان عليه أن يمر عبر بيروت وعمان، عاصمتي الدماء والجلاء، ليصل الى الجسر ثم الى رام الله المحاصرة. وربما، كان المفروض أن يؤجل انتشار المرض الخبيث. المهدي لم يصل وحسين توفى ورام الله لم تستيقظ الى أي صباح جديد.
عندما رأيت المسرحية في الناصرة قبل ثلاثة أشهر. لم يكن شيء على أرض الواقع يبشر بما سيحدث: بالاجتياح وبموت حسين البرغوثي. على الأقل، لمن لم يكن متعمقًا في الأمرين. الآن، وبعد كل ما حدث، تبدو هذه المسرحية واقعية أكثر بكثير مما كانت عليه عند مشاهدتها للمرة الأولى. واقعية، على الرغم من التخيل الدراماتيكي فيها وعلى الرغم من الترميز واعتماد الأساطير والروايات الضبابية غير المسندة. في صلب هذا العمل يختبئ سر قوتها: أنها غير ملزمة في الحيثيات الزمانية أو المكانية. وحتى لو تحقق الحلم الفلسطيني بعد عمر طويل، فان “لا لم يمت” ستبقى خير مرافق للمسيرة القادمة، والتي تليها ايضًا.
***
“لا لم يمت” هي مسرحية أنيقة. من الصعب جدًا كتابة مسرحية أنيقة ورشيقة، خاصةً إذا كانت سياسية في جوهرها. فالسياسة تثقل الكلمات والمشاهد والحبكة. من أجل التحدث عن السياسة دون أن تسيطر على العمل، عليك أن تتحايل عليها. يمكنك أن تأنسنها، يمكنك أن تجردها من فوريتها الشعارية، يمكنك أن تقتلها قبل أن ترفع رأسها بقليل. حسين نجح في هذه الأمور الثلاثة. في العادة، يتركز النقاد والكتاب في نقد الاخراج أو التحدث عنه. في هذه الحالة (والاخراج كان جيدًا جدًا) يبدو لي أن النص هو الركيزة الأساسية. النص المسرحي الذي أنجزه حسين كان مبنيًا على أيقاع داخلي متوتر، يراوح بين التاريخ وبين السرد وبين الاسطورة، وبين التفكير في الثلاثة والتعقيب عليهم من خلال قصة المهدي وعائلته.
الاسطورة والواقع يتحدان معًا ويخضعان لحرفة الكتابة متناهية الاتقان، ليلدا معًا مهديًا غامضًا- واضحًا، جديًا- هزليًا، ضاحكًا- باكيًا، صادقًا- كاذبًا. المهدي الذي ينتظره الجميع هو بلا وجه. الصورة التي علقت في صدر المسرح تشهد بذلك. هل إبنه سلامة (طاهر نجيب) يشبهه الى درجة التطابق؟ هل زوجته زهرة (بشرى قرمان) تهذي بقصة ابتدعتها لتفسر هروبه منها وحبه لصبية جميلة أخرى؟ (هل المهدي خائن؟) هل الشيخ الأعمى (عامر خليل) هو الوحيد الذي يفهم ما يحدث، على الرغم من عجزه عن الرؤية- وربما بالذات بسبب ذلك؟؟ ثم لماذا تصر أم علي (فالنتينا أبو عقصة) على التعامل مع المهدي وعائلته بمفاهيم بسيطة وشعبية وحياتية يومية. هل في ذلك إشارة الى الجميع بأن مهديكم الذي تنتظرونه ما هو إلا واحد منا، يحمل كل عاهاتنا؟ وإذا كان المهدي قد “اختفى” فلماذا يبعث الفرنسي صديقه بدلاً منه ليروي عن تجاربهما النضالية، ولماذا تزوج من فرنسية (أعجمية، مسيحية) وولد بنتًا منها؟ الا يعرف المهدي الاختفاء دون أن يتكاثر ويمارس الحب؟
هذه الأسئلة- الأجوبة هي التي تدور حولها شخصيات المسرحية. لكل شخصية وظيفة “تعبيرية” –اذا صح القول- وهي مبلورة ومعقدة في نفس الوقت. أي أن النص يهب الشخصيات بعدًا رمزيًا وتعبيريًا ظاهرًا دون التضحية بمميزات الشخصية “العادية” والدرامية. وفي هذه النقطة المصيرية تكمن متانة النص. وقوة أخرى في النص تكمن في الاستخدام الذكي جدًا للهجتين العامية والفصيحة، كل على حدة، وسويةً. العربية الفصيحة قائمة في “الأوراق” التي أرسل بها المهدي الى إبنه سلامة. أي أن هذه الأوراق قائمة في النص، والنص المكتوب بالعربية الفصيحة يحمل المشاهد الى حقبات أخرى (بعيدةً عادةً، ولكن ليس بالضرورة)، وهذه الحقبات هي خارج السيرورة “الطبيعية” لمجرى القصة. المجرى “الطبيعي” هو العامية، وبها تتحدث الشخصيات. كل جملة بالعربية الفصيحة هي استطراد أو إحالة أو إثبات لمجرى الأمور الطبيعية.
لماذا هذا ممتاز في هذه المسرحية بالذات؟ لأن التاريخ الذي تبنيناه مقسوم الى قسمين لا يتفقان على الأغلب: التاريخ المكتوب والتاريخ المروي. التاريخ المكتوب هو “تنظيف” و”غسل” لكل ما لا نود لأبنائنا أن يعرفوه عنا، ونود لهم أن يعرفوه عن أعدائنا- عن الآخر. ولكن ما العمل والتاريخ الذي نتوارثه في لغتنا اليومية وفي حياتنا المتواترة لا يتفق تمام الاتفاق مع تاريخ الكتب والنصوص: تفكير سريع في أية قضية فلسطينية شائكة يبرز هذا الأمر بوضوح. وماذا مع المهدي؟ هل سيأتي؟ “الأوراق” تقول إنه سيأتي ولكن أم علي تقول إنه مات من حب الجارة الجميلة. أيموت المهدي؟ مستحيل. فالأوراق تقول إنه سيعود. وماذا يقول الشيخ الأعمى (الذي “رأى” كل شيء قبلنا ولكنه لم يره في الواقع)، الذي يسمع ويخزن بصمت ولهفة؟.. يقول: أمّنْ قصة!
والتوافق بين المؤلف وبين المخرج فردريك ميرلو، كان من أكثر علائم المسرحية بروزًا. فالمخرج، في إدراكه لعمق النص وحدته وجديته الساخرة في ذات الآن، قرر فيما أعتقد أن يكون مشرفًا على النص، دون توجيهه أكثر من اللازم. النص يسير بقواه الذاتية، والشخصيات واضحة ومبنية بقوة. ماذا تبقى بعد هذا القرار الحاسم؟ بعض التعليقات وربما “الخربشات” الاخراجية التي جاءت لتخفف من نزعة النص الى الدراماتيكية في بعض الأحيان. من هنا جاءت حركات سلامة الهلوانية في نهايات جمل دراماتيكية أو بعد مشهد صاخب. ومن هنا جاءت شخصية أم علي الساخرة والمنغصة لاحتفالية المشهد العاصف. مَن تعامل مع هذه الحركات بجدية خسر كل طعمها اللذيذ الذي تضفيه على المسرحية. هذه البهلوانيات الخفيفة هي جديةٌ جدية الموت في مواقعها وطرق أدائها وتوقيتها، ولكنها هزليةٌ هزلية الموت في الانطباع الذي تود أن تتركه: لا بأس، لا بأس أبدًا من أن تضحكوا على هذه الحركات… فالموضوع ليس جديًا جدًا كما تعتقدون.. نحن نسخر من بعض الأساطير ليس إلا!
***
رائحة المستشفى لا تدل على شيء مما كان فيه قبل أيام. القبر الجماعي في الحديقة الجانبية وحده يذكر بما كان. المستشفى نظيف، براق وهادئ. رائحة البخور تطغى على المكان. ربما لطرد ما تبقى من رائحة الجثث. حسين يضطجع بهدوء في السرير البارد. على الرغم من المورفين والمرض والارهاق فانه في كامل وعيه. يسلم ويحاول أن يبتسم. يردد وراء المرددين: الدوا جاي. والشيء الوحيد المؤكد في جملته أنه لا يصدق ذلك. كيف يمكنك أن تكون مريضًا في مثل هذا الوضع؟ في سيرته التي عكف على كتابتها في أيامه الأخيرة، “سأكون بين اللوز” يكتب حسين: “… وفي باب غرفة الطوارئ تتدفق سيارات إسعاف عليها رسم هلال أحمر، وجرحى وشهداء، وأنا تائه أسأل عن دكتور أمراض الدم. فترد ممرضة متوترة: “نحن في حالة طوارئ ألا ترى”. فأدرك أنني شخص زائد عن الحاجة، مريض متطفل يمشي نحو مصيره وحده، بهواجس فردية، لست “زائرًا” ولا “معافى”، ولا جريحًا ولا على وشك الشهادة. بل “مريضًا عاديًا”، أي لفظة حائة بين قاموسيّ الموتى والأحياء، بين الولادات الجديدة في الطابق العلوي، وبين ثلاجة الموتى في الطابق السفلي…”. الآن، بعد أن مات حسين، وبعد أن توقف عن احراج الممرضات المنشغلات بالشهداء، بقيت أعماله وكتبه وبصماته على الأدب والثقافة والمشاريع الكثيرة. من الصعب الأيمان بأن مهديًا ما سيأتي في المستقبل المنظور. ولكن من السهل الأيمان بأن المهدي المنتظر هو النتاج الخالص لشخصيات كثيرة مثل د. حسين البرغوثي، التي تؤلف معًا الطريق الصعبة نحو ما نود أن نحققه. نحن المهدي، والمهدي نحن…
(نشرت هذه المادة في تاريخ 7 أيار 2002)