مأزق!
ماذا يكتب المرء في زاويته الأسبوعية، إذا لم يكن لديه ما يقوله للعالم هذا الأسبوع؟.. ألفٌ ونيفٌ من الكلمات، مع صورة كبيرة يجب أن تملأ بياض هذه الصفحة، ويجب بالضرورة أن تثير الاهتمام، كأقل ما يمكن، لكي لا يقول الناس عنك إنك ممل أو عادي، لا تستأهل هذا الكرم الكبير الذي يطمع فيه الكثيرون: صفحة كاملة في مجلة أسبوعية!
تجلس أمام الحاسوب المضيء وملف “الوورد” الفارغ يمد لك لسانه الالكتروني، ويهزأ من عجزك الابداعي- الكتابي ويقول لك في تحدٍ ومباعصة: ماذا ستكتب الآن؟؟ تقوم الى المطبخ، تحضر شطيرة دسمة وتعود الى الحاسوب. ما زال ملف “الوورد” فارغًا من أية كلمة. تلتهم الشطيرة الدسمة، وتُقسم للمرة الأف بأنك ستبدأ ريجيمًا قاسيًا غدًا لكي تتمكن من الجلوس الى الحاسوب دون أن تضرب بطنك الدسمة في الطاولة الخشبية. تتصل بمن تحبها وتدردش معها لدقائق طويلة، فأنت لا يهمك حساب النقال. فوالدك هو الذي يدفعه في النهاية. تقوم مرة أخرى وتطبخ غلاية صغيرة من القهوة. تختار الغلاية الصغيرة الزرقاء، مع المسكب الصغير عند الحافة. تتعامل مع هذه الغلاية بشكل شخصي. فمع مرور الأيام صرت تعرف عيار هذه الغلاية من ملاعق القهوة والسكر وكمية الماء، وصرت تعرف عدد الفناجين التي تصبها الى أن تصل “التفل” أو “الطحمل”: 5 فناجين إذا كان الفنجان من القطع الصغير، و3 فناجين إذا كان الفنجان من القطع الكبير.
تشرب القهوة بتلذذ. تقوم الى الشرفة وتسلم محياك للريح العليلة الخريفية التي صارت تهب في الجو، منذ بضعة أيام. لا تفكر في ملف “الوورد” الفارغ والهاتف الذي سيأتي بعد قليل من المحرر يسأل عن “المادة” التي تأخرت. تشعر بالمسؤولية. فأنت تكتب للصحافة منذ سنين. حتى أنك استطعت أن تكسب بالكثير من العناء والتجربة جمهورًا مخلصًا لأعمدتك المختلفة في الجرائد والمجلات المختلفة. ماذا سيقول قراؤك إذا لم تصدر لك الزاوية بعد غد الجمعة؟ البعض سيخمن أنك مريض، والبعض سيخمن أنك في أجازة تتسفع في أحد فنادق شرم الشيخ المليئة بعرب الداخل المتسفعين، والبعض سيعتقد أنك في خلاف مع المجلة؛ ولكن القليل جدًا من القراء سيفكرون في السبب الحقيقي: ربما ليس لديه ما يقوله لنا هذا الأسبوع. القليل فقط سيفكرون في هذا الاحتمال، لأنه من المفهوم ضمنًا أن كتاب الزوايا الأسبوعية، أينما كانوا ومهما اختلفت نزعاتهم، يملكون ما يقولون للعالم هذا الأسبوع أيضًا. فهذه مهنتهم. تصوروا أن مُدرسًا في الثانوية التي يتعلم فيها ولدكم أو أخوكم لا يأتي الى العمل هذا الصباح لأن ليس لديه ما يعلمه هذا اليوم. أو تصوروا أن طبيبة لا تذهب الى مزاولة عملها في المستشفى هذا المساء لأنها لا تملك الشفاء للمحتاجين منه من المرضى. هذه الأمور لا تحدث في الغالب الساحق. ولكنها يمكن أن تحدث مع كتاب الزوايا. صدقوني…
وإذا حدث ولم يجد كاتب زاوية أسبوعية ما يقوله للناس هذا الأسبوع، فان ردود الفعل تختلف من كاتب الى آخر. هناك من لا يسمح لهم كبرياؤهم بأن يعترفوا بأن جرابهم فارغ هذا الأسبوع- فهم يعرفون دائمًا ما يقولونه عن أي موضوع في العالم، في أية ساعة وفي أي مكان. وهناك من يتحايلون على القارئ بأن يخرجوا من ذاكرتهم قصة قديمة رواها لهم الوالد أو الجد، وما زالوا يحفظونها عن ظهر قلب، فيملأون بها الزاوية، ثم يضيفون فقرة تربط بين القصة وبين شارون مثلاً، أو بين بوش أو بين نوال الزغبي. وهناك من هم من الشجعان –مثلي مثلا- من لا يتهيبون من الاعتراف أمام قرائهم المخلصين بأن ليس لديهم ما يقولونه للعالم اليوم، ويعترفون أيضًا، في شجاعة متناهية، بأن هذا الحدث الطارئ لن يوقف حركة الطيران ولن يشل الحركة الفكرية- التربوية- السياسية- الأدبية- الثورية- الاصلاحية- التقدمية في وطننا الذي ليس لنا وطن سواه. فعدم ظهور الزاوية لهذا الأسبوع ليس مصيبة كبيرة. بل هو ليس اصلاً حدثًا جديرًا بالذكر في المحافل الصحفية أو القهوجية، في مختلف أصقاع القرى والمدن العربية. ولولا الالحاح والتهديد المبطن اللذين وصلاني من رئيس تحرير هذه المجلة الموقرة، بضرورة بعث الألف كلمة ونيف، لما كنتم ستقرأون هذه الكلمات. كنتم مكسيموم ستسألون أنفسكم وأنتم تطوون الصفحة الأخيرة في هذه المجلة الغراء: ليش علاء مش كاتب اليوم؟.. كِنو مريض؟…
ولكننا، نحن معشر حاملي القلم وضاربي لوحات المفاتيح المحوسبة، لا بد أن نجد ما نكتب عنه، خاصةً إذا ما أجبرنا أنفسنا على الكتابة، فنحمى بعد دقائق مثل ماتورات المازوت (السولار) ولا يوقفنا شيء بعد ذلك. فنتذكر عندها خبرًا قرأناه أو شاهدناه يستأهل التعقيب، ونتذكر مقالا أو كتابًا قرأناه جديرًا بالاستعراض، أو نتذكر حادثةً وقعت لنا بالأمس أو قبله، تستوجب السرد والقصّ على مسامع القراء. بعد أن نخط الكلمات الأولى، ندخل في صراع خفي مع أيدينا التي لا تستجيب سرعتها لسرعة أفكارنا الغزيرة التي فكت قيود الكبت وبدأت بالتدفق الكثيف حبرًا على ورق، أو إشارات ضوئية على الشاشة. أتذكر من فترة دراستي الجامعية، في أحد دروس الاعلام الجماهيري، أن المحاضر روى لنا هذه القصة (رأيتم؟.. ها أنا أطبق خدعة رواية قصة من الماضي): “يُروى عن أحد السياسيين أنه قرأ مقالا هجوميًا ضده في إحدى الجرائد، فقال مُعقبًا: هذه جريدة يكتبها أناس لا يعرفون الكتابة، ويحررها أناس لا يعرفون التحرير، لقراء لا يعرفون القراءة”. في هذا الجواب العديد من المسائل الصحفية المثيرة، التي يجب تخصيص حيز منفرد لها مستقبلاً، ولكن أهم في هذه القصة أنها جاءت في هذا السياق لتضيف فقرة أخرى على هذا المقال الذي لا أعرف كيف سأحشو فيه ألف كلمة ونيّف! (فحصت عدد الكلمات حتى قبل فتح القوسين فكانت 812. ستتبقى لي بعد الانتهاء من هذه الجملة الاعتراضية 170 كلمة حتى الألف، وبعدها الفرج من عند من يفرج).
في المحصلة، يبقى عبء كتابة صفحة أسبوعية كبيرًا وغير قليل بالمرة. لو علم أصحاب الجرائد كم نتكبد، نحن كتاب الزوايا، من أجل كتابة زوايانا الأسبوعية لدفعوا لنا الضعف أو الضعفين مما يدفعونه لنا اليوم. فلكي تُحصل معاشًا في الجرائد العربية، تستطيع جلب الخبز منه الى البيت، فعليك أن “تعمل” عن حق وحقيق. يمكنك أن تكون محررًا، أو مصممًا، أو طابعًا، أو مرسالاً، أو جالبًا للاعلانات، أو مدققًا لغويًا، أو عامل(ة) بدالة. عليك أن تكون “شيئًا” ما في الجريدة لكي تستحق أن يدفعوا لك. من يظن أن الكتابة (في مكان عمل يقوم في بدايته ونهايته على الكتابة!!!!) توفر لك ما يكفي من القوت، فانت مخطئ. الكتابة غير محترمة حتى في معاقلها. هكذا هي الجرائد العربية. لحسن حظي أنني أتقاضى بعض الدراهم لقاء كتابة هذه الزاوية، ولا أكتفي بكلمات الشكر الهزيلة مثل غالبية الكتاب. فهذا يجعلني أستثمر الكثير من أفكاري وقدراتي الكتابية والتعبيرية لكي أنجز صفحةً أسبوعية تثير اهتمام القراء- كأقل ما يمكن. خذوا هذه الصفحة مثلا، اليوم. قلت فيها الكثير ونجحت في حمل بعض القراء على إنهاء الصفحة قبل أن يلقوا بالمجلة جانبًا (إذا كنتم قرأتم هذه الجملة الآن وقرأتم الادعاء الذي جاء فيها، فانكم أثبتم صحة الادعاء. هذا ما يُسمى بالفلسفة السرطوانتناغية). ألا أستحق التقدير والجهد على ذلك؟.. ألا يرى صاحب هذه المجلة أنني “أمَزّق مؤخرتي” من أجل إغناء مجلته بالمثير من المقالات، ولا أكتب زوايا رديئة، مثل باقي كتاب الزوايا، تبدأ عادةً بالجملة: “ماذا يكتب المرء في زاويته الأسبوعية، إذا لم يكن لديه ما يقوله للعالم هذا الأسبوع؟”…
عزيزتي
لا أعرف أيهما أشد صعوبة، البداية أم النهاية…
(نشرت هذه المادة في ضمن زاوية “ع الهدا” في مجلة “الناس”، 2002)