لا غالب إلا هلسا
غالب هلسا؛ هذا الاكتشاف!
أحاول الآن أن أتذكر تفاصيل سيرتي الذاتية، تلك السيرة التي أدّت بي إلى عدم قراءة غالب هلسا حتى نهايات الرابعة والثلاثين من عمري. كيف حدث أنني كنتُ جاهلاً إلى هذه الدرجة ولم يوبخني أحد حتى اليوم؟ كيف يحدث أن يحرق الإنسان 34 سنة وعشرة أشهر من دون أن يقرأ حرفًا واحدًا لروائيّ كبير كهذا؟ هل الأهل هم المشكلة؟ المدرسة؟ الجامعة؟ الأصدقاء؟ المحررون الثقافيون في الصحف؟ سياسة إسرائيل العنصرية؟ تآمرات دحلان؟
قبل يومين كنت في البقالة وسألني صاحبها “كيفك جار؟”… قال إنّ الحرّ ابن زانية وقلتُ بل إنه ابن مراغة، ثم مسحنا العرق عن جبهتينا. أحسستُ في نظرته ازدراءً ما. كنتُ انتهيتُ للتوّ من قراءة “الروائيون”، رائعة هلسا، وكنت لا زلت أفكر في انتحار إيهاب وفي شخصية زينب، وأحسستُ بأنّ جاري، صاحب البقالة، يعرف أنني لم أقرأ غالب هلسا حتى اليوم.
حاولتُ أن أتفادى نظرته المليئة بالتوبيخ، ولكنني لم أستطع. كنت على وشك أن أقول له بابتسام المُحرَج: “أما غالب هلسا إشي فلع، لا؟” عندما رأيته يسألني: “سوفت وَلا بوكس؟” أجبته: “سوفت”. أنا أحبّ سجائر “الجمل” في تغليفها الورقي (الناعم) وليس في علبة الكرتون. أحسّ بهذه الورقية الناعمة نوعًا من التآمر على التغليفات المتبعة، على قساوة الكرتون الذي يمنع عنك تحسس السيجارة حتى وهي في العلبة (سأشعل سيجارة).
غالب هلسا، هذا الاكتشاف!
كنت بحاجة إلى رسالة بريدية من صديقي الجديد علي عيسى، المترجم، كي أبدأ بسبر أغوار هلسا. نحن نتآمر، علي وأنا، على مشروع ترجمة خاص بي، وقد أشركني في إحدى رسائله باستمتاعه برواية “سلطانة” لهلسا. قلتُ: “باطل عَ الرجال!” وبدفعة واحدة استعرتُ من المكتبة ثلاثة مجلدات كبيرة يتعدى وزنها الخمسة كيلوغرامات هي أعمال هلسا الروائية، الصادرة في مشروع هائل حقيقة عن دار “أزمنة” في عمان. تحفة للقارئين.
في طريق العودة أحسستُ بأنّ جاري في العمارة، عضو لجنة البيت، يقترب مني من بعيد، ورأيته يتأهب للتوجه إليّ. أحسست بثقل الموقف وقلت: عليّ وعلى جيراني! عندما اقترب مني قاب فحجتين أو أدنى بادرته مسرعًا:
“أما “سلطانة” ممتازة!”
نظر إليّ باستغراب وأجاب مترددًا:
“هاي اللي سكنت في الطابق الخامس؟”
طابق خامس؟؟
“بالنسبة لرسوم لجنة البيت جار… عليكو أربع أشهر.”
وعدته بدفع المتأخر قبل أن يتورم، وفكرت وأنا في المصعد أن هلسا كان سيدخل هذا الحوار في رواية “الروائيون” عن الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تبتعد عن الشعب وتعادي الشيوعيين. في البيت وجدتُ المجلد الثخين (تسعمائة وثمانين صفحة!) ينظر إليّ برضا كبير لأنني نجحت في قطعه بأسبوع. بقي مجلدان قلتُ لنفسي، ولكنني لم أقرأ مسرحية واحدة على الأقل هذا الأسبوع، كما وعدتُ نفسي منذ أشهر- وكما أفعل.
ستكون طامة حقيقية حقا لو اكتشفت أن هلسا كتب للمسرح. عندها سأعتزل التكتكة على اللابتوب (البعض يسميها بعبصة) طيلة اليوم وسأصير مدقق حسابات، كما حلم أبي دائمًا!
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 27 تموز 2009)