“لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”
نتآمر، دُشَّة وأنا، فنسرع إلى غرفة النوم. أحملها فتقف على الفرشة الواسعة وأعُدّ: واحد، تنين، تلاتي… تبدأ بالضحك بعد كلمة “واحد”، ثم ألقي بها إلى الخلف لتقع على المخدّات واللحاف فرِحةً صارخة. ثم تبدأ وصلة “الجَّحشَنة” التي لا تنظر إليها أم الدُشة بعين الرضا. لكننا –دُشة وأنا- نحبّها حبًا جمًا. نتصارع، نعضّ، “نُزغزغ”، نطرب فرحًا وضحكًا عند القيام بالحركات التي تحبّها الدُشة الممتلئة طاقة. في مثل هذه اللحظات أشعر بأنني خارج نفسي، خارج حدود المرئيّ والمسموع؛ أشعر بأنني ضيفٌ سعيدٌ مُرحَّب به في بساتين دُشة اللامتناهية.
دُشة صديقتي الحميمة. عمرُها الآن السنة ونصف السنة ورغم ذلك فإنها تشاطرني ساعات البيت بعد العمل، مثل رفيقة مخلصة. أفرش لها الطعام مرتيْن (على الأقل) قبل أن تنام. دُشة تحبّ الطعام. عندما أسألها “هَم؟” تبدأ بالركض صوب المطبخ والهمهمة بفرح: “هَم! هَم!”. دُشة أخذت مني شهيتي وكرشي وجبهتي الواسعة (أنا أدّعي أيضًا أنها أخذت مني العينين والخدّين والشعر وكل ما هو جميل فيها، ولكنني سأمتنع عن مثل هذه التصريحات لأنها تغيظ آل بكر أجمعين، وخصوصًا أم الدُشة).
دُشة تحملني على شحذ ذهني دومًا؛ فهي ممتلئة بالطاقة والحركة، تملّ بسرعة، تحبّ التشويق والتغيير والبحث الدائم. ترفض التكرار ولا تحبّ منه إلا ما يُضحكها- وحتى ذلك إلى حين. أضطرّ إلى مجاراتها في كلّ هذا، أنا الرّوتينيّ المنهَك دومًا من الروتين. أتذكّر الغناء فجأة، فأغني لها. أحبّ أن أغني لها “هالأسمر اللون” (بصيغة سناء موسى). وفي أحيان كثيرة أتذكّر صوت إم الدشة وهي تتحسّر: “ولك البنت رح تطلع خرسا إزا بتضل معك!” (دلالة على إقلالي في الكلام)، فأبدأ بالحديث معها وهي تجلس في العربة الخضراء وأنا أدفشهما في منتصف شارع بن عامي في عكا، فأسألها عن صحتها وعن رغبتها في الشرب أو الأكل، لأكتشف أنها نائمة بابتسامة سعيدة.
دُشة تعلمني الرسم من جديد. أتذكر أنني أحمل اللقب الجامعي الأول في الفنون الجميلة، رغم أنني اعتزلت الفن فور حصولي على الشهادة (وهذا كان من أجمد وأنجح القرارات التي اتخذتها في حياتي). نشتري لها الألوان والدفاتر الكبيرة ونتبطّح على السّجادة في الصالة ونرسم معًا. كرمالها تعلمت من جديد أن أرسم الأبقار والزّرافات والكلاب والدِّيَكة والشجر. ثم اكتشفتُ أنها تُحبّ أن أرسم نفسي لها، فلا تخلو جلسة رسم من بورتريه شخصي لي، يثير ضحك دُشة، خصوصًا عندما أرسم النظارة المربعة فوق العينين. تضحك باسمة ثم تصيح: “بابا”. فأذوب.
دُشة عكية حقيقية: جميلة، ذكية، قوية، جدعة، مشاكسة، عنيدة، مْحَصْنِة. ابنة السّاحل بجدارة، السّاحل الذي يحوّل سُكانه إلى “حربوقين” وجدعان، يرطنون بلغات الكون المطلوبة للتجارة ويطوّرون العادات اللازمة لمدن الساحل من الاختلاط بالأغراب واعتماد حياة الصيد (على جميع أنواعه!). أب دُشة فلاح بلا أرض ونازح بلا فخر، وأمها ساحلية تعمل ببطاريات دوراسيل، ودُشة تفوقنا الاثنين معًا- وبجدارة. إنها قنبلة طاقة، تستفزّ الجّسد الصّدِئ والنفس الهادئة (أو المُستسلمة). دُشة زنبرك الحياة ومَكُوكها، ومن لا ينضمّ إلى إيقاعها سيخسرها في برهة.
دُشة بدأت تتكشف عن ولع بالأحذية. مؤخرًا، صارت تدور في البيت حاملة حذاءها الصيفي الفضي، وتبرطم وحدها وهي تبرم فيه بالبيت. في البداية اعتقدتُ أنها صارت تحبّ الأحذية لأنها ترمز إلى إحدى الكلمات المفضلة عندها: “باي”. وباي هذه ترمز بكلّ وضوح إلى مشوار طارئ بعد الظهر أو إلى المشوار اليومي الصباحي إلى بيت حاضنتها، أم شادي. دُشة تحبّ أم شادي كثيرًا، وأم شادي تحبّ دُشة كثيرًا. وأية كلمة “باي” ترتبط عند دشة فورًا بأم شادي. لكنني –والحديث الآن عن الأحذية- أعتقد أنّ دُشة بدأت تطوّر العلاقة الحميمة المعروفة بين النساء والأحذية، منذ الآن. على هذا المنوال ستنتف البنت حاجبيْها الكثيفيْن بعد شهرين!
دُشة قوية حتى الفزع. عندما ننزل سوية مع الطابة للعب في الساحة الكبيرة المحاذية للمنزل، تستولي عادة على طابات الأولاد الآخرين الذين يكبرونها سنًا وحجمًا. في المرة الأخيرة اختطفتْ طابة التوأميْن ابني الثالثة أو الرابعة وبدأت تركض نحو البيت. بالكاد أمسكتها وأعدتها إلى السّاحة وهي تصرخ وتعربد، ولكنها أصرّت على احتضان الكرة والنظر بشكل مخيف صوب التوأمين وهما يُمسكان ببنطال والدهما بجزع بادٍ. مثل هذه المواقف تثير خوفي من قوة هذه الابنة، لكنها في الوقت نفسه تثير فرحي لأنّ ابنتي قوية. مثل هذه الحياة الخرائية بحاجة إلى عكية أصلية كدُشّة.
لم أكتب لدُشة أو عنها منذ المقالة الوحيدة التي كتبتها بعد ولادتها بشهر. كنتُ مشغولا حتى الآن بالتعلم، بدراسة طباعها والمهام المَنوطة بها. لقد سرقتني دُشة حتى نسيتُ الوعد الذي قطعته على نفسي بحرارة: أن أكتب لها وعنها كلّ شهر على الأقل (كنت رح أقلعِطكو). لقد تبخّر هذا الوعد وظلت دُشة حاضرة مثل قصيدة لا تنتهي، وأنا “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”. أريدها فوّاحة مُزدانة أبدًا، ولتذهب جميع النصوص الأخرى إلى الجحيم!
دُشة ساحرة فاتنة. عيناها باتساع الفرح كله، خدّاها كاحمرار المشمش البلدي في تموز، رموشها بغزارة الحبّ الأول. لها في العينين بريق أخّاذ، ساحر آمِر. هل يُسمّونه الكاريزما؟ فليكُنْ. شهية مثل الكرز الجِّشّيِّ. دُشة جميلة حتى الألم. سعادتنا بها أكبر من أيّة أبجدية. أكتب الآن لأنني سعيد بها حتى البكاء. لم أكتب لأنني سعيد، منذ قرون غابرة!
إنها نائمة الآن. عصرية يوم السبت القائظ هذا هزمت طاقتها التي لا تنضب، لكنني أعرف أنها ستستيقظ بعد قليل بهمّة أكبر، وعلي أن أجهّز منذ الآن لائحة الطعام حتى نومها، وتفاصيل الترفيه. سأتمشى معها إلى البحر. إنها تحبّ البحر كثيرًا. سنعرّج عند أشرف في مقهى “رزاز”، مقهى الدُشة الرّسمي وستكرع كوبًا كبيرًا من البرتقال المعصور الطازج. ثم ستركض وراء ظلها على الكورنيش مثل حورية. أعرف أنني أبوها، وكلّ أب سيقول الكلمات بعينها عن ابنته. وسيزيد. أعرف أنني لستُ موضوعيًا، ولن أكون، أعرف. لا بأس. يحقّ لجميع الآباء في العالم أن يتغزّلوا ببناتهم كما أفعل، وسيكونون مُحقين مثلي تمامًا. أعرف كل هذا، ولكنّ ابنتي أجمل وأشهى (سمايلي).
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 26 حزيران 2011)