كيف هرب «دياب» إلى أمجاده الغابرة!
فراس خطيب
لا لم يدخل العرب فلسطين. فقد احتدم الخلاف بينهم على أعتاب حطين، فعادوا أدراجهم، ليقرّر «دياب» أن يدخلها بمفرده لـ«محاربة جيش اليهود الجبّار». لكنّه وجد نفسه أسيراً في قاع سفينة أميركية، في قلب زنزانة مخنوقة، سوداء من شدّة الظلمة، يكسوها غبار الفحم. يبدو مترهل الملامح، منكسر الهيئة، أسيراً بين ماض وحاضر، يهرب من الهزيمة ــــ أي هزيمة ــــ بحديث عن أسطورة «الأمجاد» التي سبقتها. هزيمة جلية ومجدٌ يظلّ كلامياً، إلى أنْ يصدح بوق الباخرة، كأنها صيغة الأمر من حرّاسه، فيهمُّ دياب بجسدِه المتعب، حافي القدمين، ليملأ الصندوق فحماً، كي تمشي السفينة، فيعود إلى مجلسِه ويعاود الحديث عن أمجاد كانت وأخرى لم تكن.
مونودراما «دياب» التي احتفلت أخيراً بعرضها الخمسين في حيفا (وهو إنجاز بحد ذاته بالنظر إلى وضع المسرح الفلسطيني في الداخل)، استوحاها كاتبها علاء حليحل، من «تغريبة بني هلال». تلك السيرة الشعبية التي رَوَتْ عن ملاقاة «بني هلال» لـ«أعدائهم»، وحكت عن سيرهم في طريق الانتصارات. لكنّ حليحل أبدع في توظيفها بطريقة لا «تدغدغ» مشاعر المتلقي بمقدار ما تحاكي العقول. إذ يخلط في نصّه، بإتقان ووعي حذرين، بين أساطير الماضي (أنا دياب ورايتي رايِهْ، وأنا عربي وكرامتنا غايِهْ)، وهزائم الحاضر (يا ضو، وين رحت؟).
الحكاية يرويها دياب الذي بعثرته الروايات ورمته إلى قاع السفينة. إنّه فردٌ يشبه جماعته، لا يتقن ماضيه ولا يذوّت حاضره، حتى فقد بوصلته. تراه يتوسل حارسه تارةً «يا حارس، شُربة مي وحياة إمكْ»، وطوراً يحاكيه بلغة الممتطين صهوةَ جيادهم قبل الهجوم: «يا حارسْ! يا حارسْ! يا كلبَ البشرية! هل تُسلم أم تدفع الجزية؟».
لم يحلم دياب بأن يكون مثل حارسه، فقد قبل بالواقع وارتقى ليكون «قديساً معذباً» وهكذا كانت نهايته. وإذا امتلك رجال غسان كنفاني (في «رجال في الشمس») خيار طرق الخزان كي يحيوا، فإنّ دياب علق بين الغبار، من دون أن يمتلك خزاناً ليطرقه. وانتهت المسرحية، كما اختار كاتبها، بمغناة «صرت العبد، وصرت العبد».
بعد مسيرة قطعتها المسرحية، منذ فوزها في «مهرجان مسرحيد 2005»، يبدو الممثل عامر حليحل أكثر نضجاً ووعياً للحالة السياسية والعاطفية الطالعة من النص. يبدو أكثر سَكينةً من عروضه السابقة. ذلّل تحديات النص التي تخلط بين بساطة اللغة وصعوبة معانيها الكلاسيكية، فخلق توازياً بين النص وتجسيده على الخشبة. استطاع أن يتنقل بين «الكذب والحقيقة»، بين «المجد والهزيمة» بحركات مقنعة، تحت إيقاع موسيقي مُتقن وحسّاس (من تأليف الموسيقي حبيب شحادة).
لكن في المقابل، فإنّ الإخراج الذي حمل توقيع سليم ضو، بدأ إبداعياً مع فتح الستارة، ثم توقف نموّه بعد المشاهد الأولى، فوقع في خطأ «الاستقرار». كان ممكناً ــــ ومنعاً لهيمنة الروتين ــــ اللجوء إلى حركات تجعل من الزنزانة عالماً، تماماً كما السجين يراها عالمه الواسع رغم ضيقها. فكيف إذاً، يصمد الأسرى 30 عاماً في غرفة صغيرة؟ كيف يحيون ويموتون ويعشقون في تلك الرقعة الضيقة؟ كان لا بدّ من إقحام تلك التجربة أكثر من أجل دفع التمثيل والنص إلى الأمام، لا العكس.
تستمد مونودراما «دياب» مادتها من الواقع السياسي. إنّها عملٌ ذو صلة بالأحداث الآنية: أسرٌ وتهاون و«اعتدال» وهيمنة أميركية على كل شيء. من يتباهى بفرسه «الخضرا» التي اعتلاها لـ«تحرير فلسطين»، هو الذي يأكل «الماكدونلدز» في قاع الباخرة. وإلى متى سيظل عالقاً؟ لا أحد يعرف.
ألسنا جميعاً عالقين في قاع تلك السفينة/ الهيمنة، نراقص خيالاً ونبكي واقعاً؟!
(عن صحيفة “الأخبار”)
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 14 تشرين الأول 2009)