كمّامات، اللي على بالو كمّامات!
وهكذا، في صبيحة هذا اليوم المبكرة، وجدتُ نفسي واقفًا أمام حارس أمنيّ يوزّع الأرقام للطابور الذي سينعقد “بعد قليل” من أجل توزيع الكمامات على من يطلبها، تخوفًا من أن يقوم بشار الأسد بإلقاء القنابل الكيماوية على رؤوس مَن في دولة اليهود، إذا قام براك أوباما بإلقاء القنابل على رؤوس من يقاتلون من أجل “الله، سوريا، بشار” (ليس بالضرورة بهذا الترتيب). إنها ورطة أخت شلن، أن تقف في الطابور لتتزوّد بمعدات وقائية توفرها لك (كمواطن) الجبهة الداخلية الإسرائيلية. مع ذلك، الورطة ليست هنا. الورطة هي التفكير في الأطفال الذين قد (قد) يتعرّضون للكيماوي ولا تجد ما تحميهم به لأنك رفضتَ أن تكون جزءًا من هذه المهزلة. ولكن بعد أن شاركتَ في مهازل لا نهائية في هذا الوطن الغريب، تتنازل عن كبريائك العربيدة وتذهب لتقضي يومًا كاملاً متأمّلاً عجائب دولة إسرائيل.
من الأمور المشرّفة التي تبسط وترفع الرأس أنّ اليهود أيضًا يتأخّرون وتخرب برامجهم “لأسباب تقنية”. شعب الهايتك يبدأ توزيع الكمامات في الساعة 11:45 بدلاً من التاسعة، ونحن نتحدّث عن مقرّ التوزيع في “كنيون عزريئيلي” في حيفا، الواقع بجانب منطقة “مَتام”، المجمّع الهايتكي الأكبر والأكثر تقدمًا. يا شماتة أبْله زازا. لقد عوّضتني هذه اللحظة عن عشرات المرّات التي لم يعمل فيها الميكروفون في أمسياتنا الثقافية؛ فإمّا أن ترافق الأمسية كلها “وشّة” غريبة مصدرها أنّ السلك الطويل فيه 14 ثقبًا كان أولها في حرب 67، وإما أن يكون حامل الميكروفون من الصنف الحرّانيّ الانهزاميّ الذي لا يعرف إلا “بوزة” طأطأة الرأس. ناهيك طبعًا بالمشاكل التقنية الأخرى كأن لا يعمل المُسقِط (Projector) أو أن يعمل شريط الفيديو ولكن بلا صوت، أو أن يُنادى على اسم متحدّث(ة) في الندوة ويتضح أنه(ها) قرّر التغيب في آخر لحظة “لسبب طارئ”. وهكذا…
وبعد الشماتة، لا بدّ من الاستدراك والقول إننا ما زلنا، نحن العرب الصامدين في وطننا الذي لا وطن لنا سواه (سوى فنادق أريحا وشرم الشيخ)، نحمل الرقم القياسيّ في نسيان كلّ الأشياء الهامة التي يجب أن نحضّرها في المعاملات الرسمية: فأكثر من واحد(ة) نسي بطاقة الهوية! يا أخي، ألا تعرف أنّ هذه الدولة تطلب منك بطاقة هوية إذا أردت التبوّل في ماكدونالدز، ولا تجلب معك بطاقة هوية لأخذ كمّامة؟ شخص جلب ورقة بيضاء مثلثة صغيرة واضح أنه مزعها من ورقة بيضاء في دفتر المدرسة التابع لابنه، ويريد أن يأخذ كمامة لزوجته. “لا ينفع” يقول ابن عمنا الحازم، “هذه تعليمات من الجيش. يجب إبراز بطاقة الهوية”. الشاب العربي لا يتنازل بل يجنّد ادعاءات وتسويغات قاتلة: “יעני אתה רוצה שאני אחזור מחר ולעמוד בתור עוד-פעם?” (يعني هل تريدني أن أعود غدًا وأن أقف في الطابور مرة أخرى؟). للمشاهد الصهيونيّ يبدو هذا الادّعاء واهيًا وضعيفًا، لكنه يعبّر عن أكبر عذابات الإنسان العربيّ التي تخيفه وتقلقه وترعبه أكثر من الكيماويّ والبيولوجيّ وبنادق السّيسي: الوقوف في الطابور.
الوقوف في الطابور يناقض بشكل أساسيّ وجذريّ ووراثيّ مفهوم العربيّ لموقعه في المجتمع والحيّز العام. فالعربيّ بدويّ مغامر، يركب ظهر المجنّ ولا يقدر على تضييع وقته في احترام دور الآخرين أو قبول المهانة في أنه غير مهم بما يكفي كي يفسحوا له المجال حين يُطلّ بطلعته البهية. العربيّ إنسان سريع و”حامي”، كيف يمكن إرغامه على الوقوف لساعة أو أكثر لأخذ غرض ما. من سيأخذ باله من الدورة القمرية؟ المغيظ في الأمر حقًا أنّ غالبية الذين يقفون في الطابور لا شيء آخر ينتظرهم بالضرورة، أهمّ من التزوّد بهذه الحاجة الضرورية. اللهم إلا الأرغيلة (في البيت أو العمل، فالأمر سيّان). إنها حالة اغتراب جذريّة بين (معظم) العرب وبين (معظم) اليهود. الطابور هو لغيرنا، أمّا نحن فأصحاب العزّ والذين خيلهم تدوس المنايا. لذلك، حين يكون نصف المنتظرين تقريبًا من العرب في طابور عموميّ، يحلو للمرء أن يتتبع الأعذار والحيل والابتكارات التي يبتدعها الكثيرون. سأتركز في واحدة وأعدكم بالمزيد حين يوزّعون بنادق الإم سكستين.
إنّ أكثر ما يسعد العربيّ القحطانيّ في دولة اليهود، هو وصوله إلى مكان يُشرف عليه منظمون يهود صارمون، وليكتشف (هذا العربيّ القحطانيّ) أنّ ثمة عربيًا في طاقم المنظّمين. بلحظة واحدة يتحوّل المنظم العربيّ (الذي لا يَمُون على شيء عمومًا) إلى ثالث القبلتيْن وحائط المبكى وتمثال العظرا الذي ينزّ كوكاكولا في قرية رميش. ترى المُتحرجمين يتحرجَمون حوله وكأنه رضوان حارس الجنة. “قل لي يا رضوان، وينتا بفتحوا؟..”؛ “خيا أنا معي رقم 659 وجاي من آخر الدنيا، بلكي تدبّرنا؟”؛ “إنتي من وين يا رضوان؟ لا؟ّ بتعرف محمد؟ الأصلع.. يا زلمي اللي عندو سوبارو”.. هكذا تجد نفسك، من باب الفضول لا أكثر، تنضمّ إلى المتحرجمين حول رضوان (رضوان الله عليه). تتابع وتشاهد المأزق الذي وقع فيه رضوان.
الرضاونة قسمان: الأول خجول، حائر، كل ما يريده هو أن تنتهي الساعات الثماني وأن يخلع “الفِست” الأخضر اللميع وأن يعود إلى غرفته وآيفونه. أمّا القسم الثاني –والعياذ بالله- فهم ينتظرون مثل هذه اللحظات. ومع أنهم لا يمونون على شيء إلا أنّ حركة أجسادهم تتغيّر فجأة، وأمام أكثر من عشرة أشخاص من العرب العاربة يشعرون بأهمية عظيمة، ويبدأون بنعف الإجابات الأكيدة، يسارًا ويمنة. وعندما تقول صبية إنّ “اليهودي اللي غاظ” قال أمرًا مخالفًا، يتلعثم رضوان المختال ويستدير فجأة بثقة وهو يطلب التريّث بأصبعيه، ويتوجّه إلى المسؤول اليهوديّ وكأنه ذاهب إلى اجتماع تشاوريّ قبل ضرب العراق. ومنعًا للإحراج والاعتراف بأنه أجاب على سؤال لا يعرف عنه شيئًا، يقول بثقة وهو عائد: “معلش خيتا، غيّروا النوهاليم”.
الحقيقة أنني أشفق على المتزلفين العرب من رضوان. فقبل فرض اليهود لمنع التدخين في الأماكن العامة، كان الكلام مع رضوان يبدأ بحركة إجبارية: يقترب الرجل المتزلف من رضوان، يمدّ يده إلى جيب بلوزته على الشمال، يُخرج علبة سجائر “تايم”، وفورًا يُخرج سيجارتين من العلبة ويمدّ واحدة لرضوان من دون أن يسأله. هناك من يتحمّسون لهذه الحركة ويلقون السيجارة من منتصف المسافة بحيث تصطدم برضوان وتقع على الأرض، فيبادر المتزلف بإخراج سيجارة أخرى من العلبة وهو يصيح بحماسة: “فلّت، فلّت.. دخّن معلم.” والآن، وقد ذهبت هذه المتعة السجائرية إلى الأبد، فإنّ الحركة الإجبارية التي صارت تسبق التزلف أمام رضوان هي النظر إلى السمارتفون قبل سؤاله: “قل لي ياخي، وينتا بفتحوا؟.. أنا من الثماني هون.” ومع أنك تعرف جيدًا أنه لم يكن في الثامنة هنا (ربما طيفه الأخاذ)، إلا أنّ هذه الكذبة البيضاء (مثل كل حياتنا المبنية على الكذب الأبيض) تندرج بشكل طبيعيّ في سياق الحديث. فلماذا يتعب المرء رأسه في تنقية الحقيقة من أطنان الكذب الأبيض؟ هل جئنا للتكمّم أم لمقاتلة الناطور؟
وبرغم معاناتي (كمواطن صالح ومطيع) في الطوابير إلا أنني في المحصلة أحبّها. في عيادات المرضى، في البنوك، في السوبرماركت. إنها المجسّ الأصدق لانعدام علاقتنا نحن العرب في دولة اليهود مع أمرين: علاقتنا مع مؤسّسات الدولة، وعلاقتنا مع الحيز العام، الشارع والمؤسسات التي تخدمنا. إنها الوجه الآخر لمن يشتري سيارة فولفو جديدة وفي بيته عفش و”برادي” من أغلى الأنواع، فيما القمامة مكدّسة في الشوارع حتى باب بيته.
ولأنّ العرق دسّاس والجاجة ما بترمي طيزها، تقترف بنفسك إثم الاتكال على رضوان وتحاول التقرّب منه أيضًا علّك تعرف متى يفتحون، وربما لتتحسّس قليلاً إذا كان ادعاء “أنا جاي من عكا أخوي” سيسري على رضوان وجلاوزته من أبناء عمنا. ولكنك تختار طريقة أذكى وأكثر حنكًا ونخبوية: “إنتي خيّا بتقرا موقع قديتا؟.. بتعرف زاوية كويريات؟”
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 9 أيلول 2013)