قناة “الدنيا” تقدّم لكم: بورنو أطفال
في هذا الفيديو الكريه كلبة صحفية وجنود كلاب يغتصبون طفلة أمام الكاميرا، ثم يغتصبون طفلا آخر انتشلوه من تحت أمه، ثم يصلون ذروتهم في نهاية “تلخيصية” للعالم. بورنو أطفال. الأسد البودوفيل!
علاء حليحل
بعد 533 يومًا (15 آذار 2011 وحتى 29 آب 2012) على اندلاع الثورة السورية، أتجمّد أمام منظر ما، للمرة الأولى. الحقيقة أنني غضبت حتى ابتلت عيناي. شعرت بلسعة حادة في قصبتي الهوائية تصرخ طالبة سيجارة الآن. سيجارة تحرق طعم هذه الرائحة الكريهة التي تسرّبت إلى الحلق والمعدة. ثم سببت لأول مرة كما يسبّ الرجل الغاضب الهائج: يا أولاد القحبة! ولكنهم كلهم قحاب: بشار الأسد ووزراؤه وعسكره وإعلامه وشبيحته. رجالا ونساءً. قحاب مذكرة وقحاب مؤنثة- لا فرق. بعد التقرير الذي بثته قناة “الدنيا” عن مجزرة داريّا (أعلاه)، لن أدخل حتى في النقاش حول هوية من أعدم هؤلاء الناس أمام بيوتهم وأثناء هجيجهم من بلدهم، ولكنني أتقيأ الآن إذ أرى هذا البورنو الكريه الذي وصل ذروة جديدة من ذروات النظام الأسديّ الشيطانيّ.
(المعضلة هائلة وثقيلة: هل ننشر الفيديو هنا كي تفهموا السياق اللازم لقراءة المقالة، أم أننا سنتحوّل حينها إلى مروّجين لهذه الشيطنة السافلة؟.. لا أعرف. الحُكم لكم.)
كنت أرفض كلمة شيطانيّ حتى هذه اللحظة كتوصيف للأسد ونظامه وأذرعه، على اعتبار أنّ لا ملائكة في هذه الثورة. الشياطين والملائكة هنا وهناك، ولا يظلّ من أجل الحسم في الموقف إلا حقيقة واحدة صغيرة: مَن يثور على مَن ولماذا.
الفيديو يبعث على الخوف الشّديد. أعترف أنّ دقات قلبي تسارعت مع مرور الثواني وتبدّل الصور حتى وصلت كلبة الأسد التي تحمل الميكروفون إلى السّيارة التي يقبع في مؤخرتها أطفال وامرأة مغطاة بالأسود. “الأطفال أحياء” تقول الحقيرة، وتقترب من الطفلة كي تجري معها حديثًا “صحافيًا”، فيما الطفلة ملتصقة بجثة أمها! قتلتني نظرة الطفلة. هنا أطلقت الشتيمة الأولى والغضّة الأولى. هذه الطفلة التي فقدت أمها تتطلع غير مدركة لما يحدث. منذهلة ولكنها باردة. لا تبكي وتصرخ كما يجب أن يتطور المشهد الدراماتيكيّ. جثث من حولها تقلّد بنجاح كبير صور صبرا وشاتيلا. وهي تجلس في الصندوق الخلفيّ تحاول أن تفهم ما تريده كلبة الأسد منها.
أبكي لأنّ وجه ابنتي لم يفارق هذه اللقطة. وجه بناتكم جميعًا. “مين هاي اللي حدك؟” تسأل كلبة الأسد، وتجيب الطفلة التي بلا اسم: “إمي”. تستزيد: “وين كنتو رايحين؟ بتعرفي شو صار معك؟” تجيب الطفلة التي بلا طفولة: “لأ…” هكذا ينتهي التحقيق الصحفيّ. ولكن في غمرة الحزن الداهم الكبير، يستيقظ الصحفي الذي ماتت أحاسيسه: هل يعمل جيش الأسد على إخلاء قتلى المجازر أمام الكاميرات ويفسح المجال للتصوير وطرح الأسئلة على طفلة لم تُقتل وهي ملتصقة بأمها؟.. هل يزيح جنود الأسد الجثث عن بعضها البعض كرمال عدسة قناة “الدنيا” بدافع نخوة لحظوية أم تعليمات عُليا؟.. الموسيقى المسرحية الدراماتيكية في الخلفية، هل هي جانر ما بعد حداثوي جديد في الإعلام المتلفز؟.. وأسئلة “تافهة” في سياق ما يحدث في سوريا: ألم تسمعوا بحرمة الميت؟.. بحقّ الأطفال الذين قتلت أمهاتهم بأن لا يتحوّلوا إلى مقطع ساخن في هذا البورنو الدعائيّ التهييجيّ للغرائز الأكثر انحطاطًا؟
ثم تأتي جمل اختتامية ضرورية لإبعاد ما قد يتبادر إلى الذهن من مشاهد صبرا وشاتيلا. تستلّ كلبة الأسد محمد الدرة وصراعه مع الصهاينة. بمعنى: نحن نظام الممانعة والوطنية وأكبر مُحبّي الفلسطينيين، وتل الزعتر كان هفوة، والدليل: هذه المرأة التي تنام على جثة ابنها الصغير… ألا تذكركم قليلا بمنظر والد محمد الدرة وهو يجلس إلى جانب محمد أثناء تبادل الرصاص؟.. ثم يصرخ الجندي، كلب الأسد: “خلي العالم كلو يشوف!” هكذا تَدرّب الكلب على أيدي كلاب الأسد الأكبر، مع أنّ الحقيقة معاكسة: الأسد هو الذي يمنع العالم كله من أن يشوف. دعِ الإعلام يدخل ليغطي أفعال “الإرهاب” وعندها سيحتضنك الغرب والشرق إذا كنت مُحقًا. لماذا يمنع الأسد العالم من أن يشوف ثم يرسل كلابه لتستبيح وتغتصب جثث القتلى وهم يصرخون بعهر: خلي العالم كلو يشوف؟
في هذا الفيديو الكريه كلبة صحفية وجنود كلاب يغتصبون طفلة أمام الكاميرا، ثم يغتصبون طفلا آخر انتشلوه من تحت أمه، ثم يصلون ذروتهم في نهاية “تلخيصية” للعالم. بورنو أطفال. الأسد البودوفيل!
لم أكتب يومًا بهذا الحقد والغضب. لا يستثيرني أمر ما بهذه السهولة. رأيت من قبل جثث القتلى والموتى مكوّمة في الحارات. أنا مثلكم، ابن السّايبر والفيرتوال والبيكسلات المتلفزة. أرى كل شيء وأونلاين. لكنّ هذه الطفلة قتلتني! أعتقد أنها لو بكت وصرخت لما غضبتُ وبكيتُ. برودها الصاعق المنذهل هذا مثال واستعارة لعجزنا أمام الشاشات. عاديّة الدم، السّهولة غير المحتملة في الانتقال بعد الأخبار إلى فيلم أجنبيّ أو مسلسل عربيّ.
موتنا أمام الموتى.
جثثنا المتعفنة أمام الجثث الباردة.
لا بطوليتنا أمام لا بطولية من قُتلوا عُزلاً أبرياء فارّين من المعركة.
ثم تأتي طفلة واحدة، لم تُقتل: لا تصرخ، لا تبكي، تنظر إليك ببرودة الفجيعة وانهيار القيم كلها، وتقول لك بعينين زجاجيتين: أيها الكلب!
تقول لنا جميعًا،
تقول الطفلة التي اغتصبوها أمام الكاميرا:
يا كلاب، يا قحاب…
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 29 آب 2012)