في عكا: عرب خلف الجدران بين مخططات التهويد ومقاومة الحرمان الاقتصادي والسياسي تاريخ النشر
كانت ليلة غفران، “كيبور”- يسمونها باللغة العبرية، لكن الغفران لم يكون شاملاً، فقبل انقضاء الليلة، اندلعت المواجهات وهاجمت مجموعات كبيرة من متطرفين يهود منازل العائلات العربية، وبالتحديد المنازل العربية في الحي الشرقي من المدينة، وكذلك بعض المنازل في منطقة المنشية، فهذه المناطق غالبيتها من السكان اليهود ومنازل قليلة تقطنها عائلات عربية.
الشرطة فرضت تعزيزات أمنية، وحولت عكا إلى مدينة حواجز، نفذت اعتقالات من الجانبين من العرب واليهود، لكن الأمور لن تهدأ حيث وتتواصل الهجمات على المنازل والممتلكات العربية.
لا يرى أحد من المواطنين العرب هذه الأحداث على أنها عابرة، من قادة سياسيين أو من المواطنين العاديين، أهل عكا بلد مثقف واع، يستطيع كل يافع أن يحدثك فصولا عن سياسات التمييز والقهر، تماما كما يحسن أن يحدثك عن أسوار عكا وتاريخها وصمودها.
سنوات من الإعتداء على المواطنين العرب وتهويد المدينة
يقول أحمد عودة، عضو بلدية عكا وأحد المرشحين لرئاستها: “ما جرى هو فصل من سلسلة أحداث، لكن ما يختلف هذه المرة هو حجم الاعتداءات ووتيرتها، فمنذ ستة أعوام والعرب في الأحياء المختلطة وفي الحارات الشرقية يتعرضون لتحرشات واستفزازات لا تنقطع”.
تقول رونزا رمال، سيدة أرملة، تعيش وأولادها في شارع القلعي في الجهة الشرقية من المدينة: ” ليلة الجمعة الماضي خرجنا من منزلنا بسبب التهديد الذين كان علينا حيث نسكن في بناية جميع سكانها من اليهود، لكن قبل هذه الحادثة والاعتداء على منزلين عربيين في نفس المنطقة، كانت هناك إعتداءات عديدة، فمنزلنا تعرض قبل أشهر لمحاولة إحراق، كما وتعرضت سيارتنا للتحطيم على يد المتطرفين”.
” لقد حذرنا من تفاقم الأوضاع في عكا، وناشدنا الشرطة والمسؤولين بضرورة وقف انفلات العنصريين على العائلات العربية، لكن تخاذل الشرطة كان أحد العوامل التي أوصلتنا إلى هذه الأوضاع اليوم”.
يؤكد عودة أن هنالك من عمل طوال سنوات على تأجيج الأوضاع في المدينة، وخاصة منذ استلام رئيس البلدية “شمعون لانكري” منصبه قبل نحو خمسة أعوام، بالإضافة إلى شخصيات دينية وسياسية يهودية، وذلك بهدف إعطاء طابع يهودي للمدينة، وإخفاء المعالم العربية الفلسطينية. يضيف: ” نحن حذرنا من أحداث الغفران قبل وقوعها، وإغلاق الأحياء بالحواجز، عشية الغفران كان عامل مساهم في توتير الأجواء، حتى أن انتظر بعض المتطرفين اليهود حجة للهجوم على المنازل العربية”.
أغربت الشمس مساء الأربعاء الماضي، وأخذت الظلمة في طياتها ملفات التمييز، “لا يمكن لأحد أن ينكر محاولات تهويد المدينة، ما حدث ليلا في مساء “الكيبور”،هو أمر نعيشه في وضح النهار وعلى مدار العام، محاولات تهويد واقتلاع للوجود العربي”، يقول أحمد عودة.
يقول إياد برغوثي، من إتحاد الجمعيات الأهلية “اتجاه”، صحافي من مدينة عكا إن “دخول سيارة عربية إلى حي يهودي كانت حجة لإشعال المواجهات والاعتداء على المواطنين العرب السكان الأصلانيين للمدينة، ويضيف: ” ما حصل ليلة الغفران هي خطايا ارتكبت بحق العائلات العربية، بغية تفريغ الأحياء الشرقية على وجه التحديد من المواطنين العرب، وهذا يتزامن مع محاولات تهويد البلدة القديمة، الذي حذرنا منه سنوات”.
يشكل المواطنون العرب نحو ثلث سكان مدينة عكا، يرتكزون في البلدة القديمة ( عكا القديمة)، وحي “فولفسون” الذين يشكلون فيه نحو 94% من مجموع السكان، كما ويعيش أعداد قليلة منهم في الحي الشرقي، وفي “الشيكونات”، وفي “المنشية”، ومناطق متفرقة أخرى.
التحريض على العرب وتحويلهم إلى مجرمين
بعد اندلاع المواجهات، أغلقت الشرطة الأحياء العربية ومداخل المدينة، وما زالت الحواجز الشرطوية قائمة على مداخل المدينة، مجموعات من “حرس الحدود” منتشرة في كل شارع، وعناصر من الوحدات الخاصة منتشرة في كل زقاق داخل المدينة. أربعة أيام مضت منذ يوم “الكيبور” موعد اشتعال النيران، لكن النيران لن تخمد، والتصريحات العنصرية تشعل النيران أكثر.
رئيس البلدية يتهم القيادات العربية في عكا وأئمة المساجد بالتحريض على اليهود، وتشجيع العنف، ويتهم الشرطة بالتقصير في وضع حد ” للمشاغبين العرب” .
في هذا الزمن كل شيىء يكاد يكون جائزا، وقلب الحقائق كما يقول أهل عكا أصبح فناً، و”لانكري” وزمرته يتقنون هذا الفن جيدا.
” نحن لا نحرض على أحد بل سعينا طوال الوقت للعيش مع جيراننا بهدوء، لكننا نحذر وهذا واجبنا من التمييز وتبعاته، ولن نقبل به يوماُ”، يقول أحمد عودة.
أما إياد برغوثي فيقول: ” التحريض على المواطنين العرب لا يتوقف، العرب تعرضوا للاعتداءات ورئيس البلدية وأطراف اليمين، يريدون أن يجعلوا من الضحية مجرما، لكن هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة والواقع، الحقيقة ان هناك محاولات متواصلة لنزع الشرعية عنا، لذلك يجب ان نلاحق اولئك السياسيين المتطرفين قانونيا، ومحاسبة رئيس البلدية” لانكري ” يجب أن تكون قريبا في صندوق الاقتراع وعدم التصويت له، كي يتعلم رؤساء البلدية القادمين كيف يتعاملون مع العرب”.
على إيقاع التحريض المتواصل، وتصريحات رئيس البلدية شمعون لانكري، وزيارات الاستفزاز والتصعيد التي يقوم بها نواب اليمين الإسرائيلي، تواصل الشرطة محاولات التهدئة، وتحاول فتح قنوات حوار بين القيادات العربية وبين القيادة اليهودية الدينية، لكن شهادات بعض الشخصيات القيادية في عكا، تؤكد عدم تجاوب اليهود مع مبادرات الشرطة، والتوقف عند كيل الاتهامات للقيادات العربية وتحميلها مسؤولية ما حصل.
تخاذل الشرطة وكيل الاتهامات للعرب
الشرطة وعلى الرغم من الجلسات العديدة مع الممثلين العرب، وشخصيات أخرى من العرب في عكا، لم تعلن انها نجحت في عقد إجتماع واحد مع رجالات الدين اليهود، وان فعلت ذلك فهو ليس بالشكل الكاف ولا بشكل متواز لما يحدث في الجانب الآخر
” القيادات الدينية ورجال الشرطة، لا يريدون فتح حوار، في إحدى الجلسات معهم، كان هناك أجواء عامة معكرة للغاية، والشرطة اكتفت بتوجيه الطلبات والتعليمات لنا”، حتى أن أحد رجال الدين اليهود ترك المكان بحجة انه لم يأت للتحاور مع العرب”، يقول أحد المواطنين العرب الذي شارك في الجلسة.
في ظل هذه الأجواء، لا تزال الإشاعات تروج في المدينة، من قبل الجانب اليهودي، على أن هناك أمام مسجد قام بحث الشبان العرب على مهاجمة السكان اليهود، فيما أعلنت الشرطة أنها ستقوم بالتحقيق مع رجال دين مسلمين حرضوا على العنف “.
الشيخ محمد ماضي، إمام وخطيب مسجد الرمل في البلدة القديمة في عكا، قال في حديث معه “ان التحريض أمر مرفوض بالمرة، انا دعوت وأدعو للتسامح الديني، لكن بدلا من التحقيق مع المحرضين من رجالات الدين اليهود والسياسيين، يعيدون الكرة مرة أخرى إلى ملعبنا ويتهموننا بالتحريض، وهذه أصبحت ظاهرة معروفة”.
مستوطنين من الضفة وغزة داخل الأحياء العربية
من جهتهم يؤكد السكان العرب في حي فولفسون ذات الأغلبية العربية، أن مئات العناصر شبه العسكرية من طلاب المدرسة الدينية اليهودية “يشيفات ههسدير” والتي تجمع بين تعلم التوراة والخدمة العسكرية ، تتواجد في الحي وتقوم بأعمال التحريض واستفزاز المواطنين العرب، حيث يقوم هؤلاء بالإزعاج في ساعات الليل المتأخرة، ويتجولون بأسلحة ورشاشات أوتوماتيكية طوال ساعات اليوم بشكل إستفزازي. وعلم أن هؤلاء تم استقدامهم من أوساط المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة وكذلك من مدينتي صفد وطبريا وغيرها.
يرى إياد برغوثي من سكان عكا، أن هنالك حالة خطر حقيقي على الوجود العربي في المدينة، فالمخططات جارية منذ سنوات للتضييق ومحاصرة الوجود العربي في المدينة، ولذلك على القيادات العربية والهيئات الفاعلة على الساحة العربية تمكين ودعم المجتمع العربي في المدينة.
مقاطعة العرب اقتصاديا وضربهم اجتماعيا وتربويا
إلى ذلك فقد سرى منذ أمس، السبت، مفعول مقاطعة المصالح والمحال التجارية ، بعد الإعلانات التي وزعت في الأحياء اليهودية والمواقع الإلكترونية، والتي تدعوا إلى عدم دخول الحوانيت والمطاعم العربية. حيث جاء في أحد المواقع، الذي وصف العربي بأنه إبن كلب واليهودي ابن ملك، بأن على اليهود مقاطعة العرب اقتصاديا من أجل ضربهم اجتماعيا وثقافيا، حتى يخرجوا من عكا على القرى المجاورة.
لا أستطيع ان أقول إلا أن المشهد مؤلما، عكا البحر والسوق، خالية خاوية، دكاكين أغلقت أبوابها يوم السبت، يوم المبيعات الأقوى، وتجار آخرون اضطروا إلى إغلاق محالهم عند الظهيرة لأن نسبة المببيعان لم تتجاوز ألـ 5% مقارنة مع أيام السبت العادية.
نبيل سعدي، بحار وتاجر أسماك منذ 11 عاما، وجدناه يقفل متجره مدخل السوق. ماذا يجري سألناه: يضرب ( كفا بكف)، “على حطت ايدك” يقول، “منذ الصباح وأنا اجلس في متجري ولم أبع إلا القليل القليل من الأسمال لأن اليهود الذين يحضرون بأعداد كبيرة إلى عكا للتسوق، يقاطعون اليوم السوق، وقسم آخر يخشى أن تتسع المواجهات لتصل البلدة القديمة”.
في الجهة المقابلة، هذا هو منير عيسى، يشكو حاله، لم أبيع أي شيء، فمنذ ساعات الصباح الباكر فتحت الدكان، لكن لم يدخل أي زبون إلى هنا”، هم يريدون شن حصار اقتصاديا علينا، وهذا الأمر ليس وليد اليوم، بل أنه موجه من قبل البلدية التي تفرض ضرائب كبيرة على محالنا التجارية ” ضريبة الأرنونا”، ، ولهذا نأمل من المواطنين العرب أخواننا أن يحضروا إلى على عكا للتسوق بها ودعمها”.
صاحب محل أخوان “جارحي” للتوابل داخل السوق، له رأي مماثل يقول: ” لقد أغلقوا مدخل عكا القديمة، واليوم يضعونا حاجر على شرطوي، وهذا الأمر يعطي صبغة أن الحي القديم يشهد مواجهات، وهذا الأمر يمس بنا كثيرا، من ناحية أخرى فان المرشحين اليهود يحرضون علينا، من اجل كسب أصوات الناخبين اليهود في الانتخابات المقبلة للبلدية.
يقول هاني أسدي، رئيس لجنة التجار في عكا، وصاحب ” ستوديو الأهرام”،: “بعد نشر بيانات المقاطعة لمحالنا التجارية، توجهنا على الشرطة التي قامت بإغلاق الموقع الإلكتروني”، ويضيف: ” هنالك عل ما يبدو مجموعة من التجار اليهود في مناطق أخرى مثل شارع بن عامي واليوتسريم، يروق لها هذا الوضع، وهي تكسب من هذه المقاطعة، التي نأمل وسنعمل على إبطال مفعولها”.
من مهرجان المسرح “الآخر” إلى مهرجان “عربي” بديل
إلى ذلك عملت مجموعة مع الفنانين والمثقفين العرب والناشطين الاجتماعيين ومجموعة من الفنانين اليهود اليساريين، خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، من أجل إقامة مهرجان المسرح الآخر ، وإرغام البلدية على العدول عن قرارها إلغاء المهرجان وافتتاحه كما كان مخططًا عشية عيد العرش اليهودي، 14 تشرين الثاني الجاري.
يقول الكاتب والصحافي علاء حليحل: ” الفكرة من وراء الدعوة لعدم إلغاء المهرجان هي منع العقاب الجماعي ضد العرب في عكا، العرب في عكا يفضلون إقامة المهرجان ولكن ليس بأي ثمن، وإذا كانت البلدية ويهود عكا يريدون معاقبة أهل عكا العرب فنحن لا نريد مهرجانهم”.
ويضيف علاء حليحل: هنالك طاقم مؤلف من فنانين ومثقفين عرب يقوم بفحص إمكانية الإعلان عن نشاطات مسرحية وثقافية نهاية الأسبوع الجاري، هذه الفكرة جاءت كبديل للمهرجان، نود أن تشارك فيها المسارح والمؤسسات العربية، حيث سنقوم بحملة جماهيرية واسعة للتجنيد لهذه الفعاليات كرد على محاولة فرض إملاءات سياسية على العرب في عكا عن طريق العامل الاقتصادي. في هذا الموضوع رأى المجتمعون أن استجابة عرب الداخل لهذه الفعاليات وحضورها هو الرد الأمثل والأولي الذي نطلبه منهم.”
وترجح أوساط سياسية وفنية وشعبية كثيرة أنّ إلغاء المهرجان جاء رضوخًا للقوى اليهودية المتطرفة في مدينة عكا، التي طالبت منذ ليلة الأربعاء-الخميس الماضية بإلغاء المهرجان لعقاب عرب عكا بواسطة ضربهم اقتصاديًا!
اذا في عكا، كل أمر متعلق بالسياسة، إدارة البلدية برئاسة رئيسها الحالي “شمعون لانكري” عضو حزب الليكود اليميني الذي يرأسه بيبي نتانياهو، له مخططاته وغاياته، وجماعات المتطرفين اليهود تلتقي معه في هذه المخططات. بدلا من ان تعمل البلدية على خدمة المواطنين وإثراء حياتهم ثقافيا وتمكينهم اقتصاديا، أعلنت البلدية على وجه السرعة ولحسابات انتخابية تتعلق برئيس البلدية بإلغاء مهرجان المسرح الآخر، لضرب المصالح التجارية العربية، وضرب البرامج الثقافية، على الرغم من الشكوك عند المواطنين العرب في مصداقية وأهداف هذا المهرجان أصلاً.
الحفاظ على وجودنا قبل البحث عن التعايش
يتواصل الحديث عن مصير مهرجان المسرح ، فيما يواصل المتطرفون اليهود اعتداءاتهم على الأسر العربية في مختلف المناطق في المدينة، وتواصل الشرطة تخاذلها في وقف هجمات المتطرفين اليهود، وتوجه أصابع الاتهام إلى المواطنين العرب واتهامهم بالتحريض وتأجيج الأوضاع في المدينة.
يقول الشيخ محمد ماضي، نريد أن نعيش بحسن جوار مع اليهود، لكن ليس وفق نظرية السيد والمذلول، لأننا نرفض الذل ولا نساوم على حقوقنا، مهمتنا الحفاظ على وجودنا قبل البحث عن التعايش”.
ويشدد أحمد عودة،عضو البلدية، أن المواطنين العرب، وقياديتهم السياسية والدينية يريدون أن تعود الحياة إلى طبيعتها، وتنتهي هذه الأزمة، لكن حسب رأيه لا يمكن للهدوء أن يدوم، طالما أن هناك مظلومين، فواجب على السلطات وقف الاعتداءات على المواطنين العرب ، والتعامل بمساواة معنا في وليس التعامل معنا من منظور أمني وتهويد المدينة.
(نشرت هذه المادة في موقع ’’عرب48’’ بتاريخ 12 تشرين الأول 2008)