في أعقاب مجزرة رفح: هل اجتمع الـ 150،000 متظاهر لدعم “اليسار” أم لدعم شارون؟
حاييم برعام: “يجب التحدث إلى “حماس” وعلى اليسار الاسرائيلي التحدث مع العرب في إسرائيل بدلا من شخصيات فلسطينية” * يوسي سريد: “إذا كان بيرس هو اليسار فأنا رائد فضاء!” * ماذا يحدث في “اليسار الصهيوني” في الأسبوعين الأخيرين، في ضوء عملية “قوس قزح” الاسرائيلية؟
علاء حليحل
قد يبدو للرائي أو للمتابع، في غمرة الجنون والهلع الأمني المُدجّجيْن بالأكاذيب، أنّ “اليسار الصهيوني” أو غير الصهيوني قد خرج، أو هو خارجٌ، من غيبوبته التي غاص فيها منذ انتخاب شارون رئيسًا للحكومة في 2001، والتي ذاب فيها وانصهر منذ الاجتياج الكبير في 2002. ذلك الاجتياح الذي قضى نهائيًا على أية فرصة لإحياء ما درجنا على تسميته تيّمنًا بـ “العملية السلمية”. في تلك الأيام احتضن شارون جميع شعب إسرائيل في إجماعٍ قومجي لا مثيل له في أية ديمقراطية حديثة. عن تلك الأيام يصحّ القول، على لسان شعب إسرائيل لشارون، وببعضٍ من السخرية: “في الاجتياح الكبير نحبّك أكثر”!
منذ ذلك الوقت وحتى اليوم جرت دماءٌ كثيرة تحت الدبابات. بوسع المتشددين أن يقولوا إنّ شيئًا لم يتغيّر من وقتها في الرأي العام الاسرائيلي، إلاّ أنّ البعض من المؤشرات قد تُفضي إلى تغيّرات ملحوظة في الشارع وأروقة القرار، أهمّها المظاهرة الكبيرة في الأسبوع الماضي في “ميدان رابين” تحت شعار “نخرج من عزة؛ نبدأ بالكلام”، وما قاله وزير القضاء (“شينوي”) يوسف (طومي) لبيد عن أنّ المُسنة الفلسطينية التي صُوّرت وهي تبحث عن أدورتها بين أنقاض بيتها “تذكّرني بجدتي”، التي قُتلت في “الهولوكوست” في أوروبا في الحرب العالمية الثانية! إليكم ما قاله لبيد في جلسة الحكومة الاسرائيلية، ما أدى إلى إثارة غضب شارون والوزيرين بنيامين نتنياهو وشاؤول موفاز: “على هدم البيوت أن يتوقف. هذا الهدم ليس إنسانيًا وليس يهوديًا ويسبب لنا ضررًا فظيعًا في العالم. المُسنة التي بحثت بين الأنقاض ذكّرتني بجدتي. في النهاية سيطردوننا من الأمم المتحدة وسيمثل المسؤولون للقضاء في المحكمة الدولية في هاغ، ولن يرغب أي أحد بالتحدث معنا. بعد أن نهدم البيوت المئة الأولى في رفح سيوقفنا العالم.”
الفلسطينيون يعانون؟.. حقًا؟؟
بالاضافة إلى كل ذلك ظهرت خلال الأسبوع الماضي وما سبقه العديد من المقالات والتقارير الصحفية التي أبرزت وللمرة الأولى، ومن دون تغطية، الواقع الفظيع الذي يرزح تحته الفلسطينيون في رفح وفي غزة. على رأس هذه القائمة كانت صحيفة “هآرتس” التي بعثت بمراسلتها الشجاعة عميره هس إلى رفح، وهي تكتب من هناك، منذ دخول جيش الاحتلال إلى المدينة، “يوميات رفح”، وهي زاوية يومية تسرد فيها معاناة أهل رفح في هذه الأيام. كما أنّ موقع “واي نت” التابع لجريدة “يديعوت أحرونوت” و”يديعوت أحرونوت” نفسها نشرا مقالات لألكس فيشمان، المعلق العسكري المعروف، وغيره، الذي كتب: “حتى لو صدقنا الجيش بروايته بأنّ ما حدث (قتل متظاهرين أبرياء بقذيفة صاروخية) كان خطأً، فإن الساعة الرملية لوجود الجيش الاسرائيلي بدأت بالنفاد”. هذه نغمة جديدة بين أوساط المعلقين العسكريين الذين دأبوا طيلة السنوات الثلاث الماضية على تفسير وتبرير التواجد الاحتلالي وعملياته الإجرامية ضد الفلسطينيين، في أيّمكان وفي أي ظرف. كما أنّ الكاتب الجريء ب. ميخائيل قال إنّ إسرائيل لم تجتَز في هذه العملية أية خطوط حمراء، لأنها ببساطة لم تعد تملك أية خطوط كهذه، وهي بالتالي تتحول إلى دولة من دون أية روادع! والأمثلة عديدة لا مجال لحصرها هنا.
وإذا سألتم الصحفي اليساري غير الصهيوني، حاييم برعام، عن مدلولات هذه الأمور، فإنه سيقول لكم أمريْن مختلفيْن. تمامًا كما قال في حديث معه لـ “المشهد الاسرائيلي”، أمس الاثنين: “هذه المظاهرة تبعث فيّ اليأس بعض الشيء. ما الفائدة من جمع هذا العدد الكبير من الناس لكي يستمعوا إلى شمعون بيرس! فهو لا يقل نذالةً عن (أريئيل) شارون. ناهيك عن أنّهم لم يمنحوا حق الكلام لأيّ عربي”.
سألته عن العلاقة التي يجب أن تكون بين “اليسار” الصهيوني وبين العرب في إسرائيل. برعام: “ما دام هذا “اليسار” يتنازل عن مليون عربي فخسارة على الوقت. في اعتقادي أنّ على “اليسار” الاسرائيلي أن يعود إلى التعاون مع العرب في إسرائيل كما فعل رابين. وفي اعتقادي أنّ على يوسي بيلين أن يتحدث مع العرب في إسرائيل وليس مع ياسر عبد ربه أو غيره. فهؤلاء فقدوا تأثيرهم وهم يُحسبون على السلطة الفلسطينية المنهارة، التي ما زالت تتفاءل خيرًا بالورقة الأمريكية.” كما أنّ برعام، من رموز اليسار الحقيقي في إسرائيل وصحفي مسيّس وعنيد ومبدئي من الدرجة الأولى، يهزأ مما يُسمى تجنيًا باليسار الصهيوني: “عن أيّ يسار يتحدّثون؟ كل ما كان في البلاد حتى الآن لم يكن يسارًا. كان هناك مركز قومجي مع بعض اللبراليين، ولم يكن هذا يسارًا اجتماعيًا، لأنّ المشكلة الاجتماعية هي مشكلة قومية، والموضوع الطبقي ينعكس من خلال المنظور القومي.” حتى “أوسلو” في نظر برعام هو أمرٌ بعيد عن اليسار، “فما حدث في أوسلو هو محاولة لإقامة حوار بين البرجوازية الاسرائيلية وبين البرجوازية الفلسطينية والأمريكية”.
جنة المُغفّلين!
في المقابل يرى برعام ما قاله الوزير لبيد عن جدته والمُسنّة الفلسطينية أمرًا هامًا جدًا.
– حتى لو أنه تراجع عما قاله؟
“طبعًا. ما قاله يساعد جدًا الرأي العام في إسرائيل لإعادة التفكير فيما يحدث. أصلاً، كل التغيّرات في الرأي العام الاسرائيلي نابعة من الثمن الباهظ الذي دفعناه وندفعه في هذه الدولة في خدمة الاحتلال. صحيح أن هناك البعض ممن يستفظعون ما يحدث عند الفلسطينيين جراء الاحتلال، إلا أنّ الغالبية العظمى من الاسرائيليين لا يهمّها أبدًا ما يحدث هناك. الاسرائيلون يريدون “احتلالاً دي لوكس”. يريدون الاحتلال من دون ضحايا. وكلما زاد الثمن كلما زادت المعارضة. المجنزرات التي انفجرت في غزة وراح ضحيتها الجنود (الـ 11) كان لها دور كبير في تأليب الرأي العام والصحافة الاسرائيلية ضد ما يفعله الجيش الاسرائيلي في رفح.”
من الجهة الأخرى يؤيد برعام الانفصال الذي يبادر له شارون، “لأنه يعطي فسحة أمل وحرية لكل فلسطيني يسكن في القطاع. إلا أنّ هذا غير كافٍ ولا يشكل بديلاً لاتفاق وحلٍ جذرييْن. من جهتي أنا أنظر إلى حدقتيّ الواقع بشجاعة: لقد جاء الوقت لكي نتحدث مع “حماس”! أنا لا أومن مثلاً بأن كل المسلمين في المناطق الفلسطينية هم كما تصورهم إسرائيل، وليس كل من هم في “حماس” كذلك أيضًا. فللجميع رغبة في الحياة. ومن الجهة الأخرى هذا هو الحل الوحيد اليوم، لأنّ التحدث إلى “أبي علاء” مثلا يشابه الأمل الصناعيّ الذي يربيه الاسرائيليون لكي يستمروا في حيواتهم العادية والسفر إلى خارج البلاد مرتين في السنة- ما أسمّيه أنا جنة المغفلين!”
ما يفكر به برعام في هذا السياق سيكتبه بالعبرية في زاويته الأسبوعية في محلية “كول هعير” المقدسية، يوم الجمعة في نهاية هذا الأسبوع. لا أحد يعرف كيف ستكون الردود على دعوته للتحدث الآن وبالذات مع “حماس”.
قُل ليوسي سريد، عضو الكنيست عن حركة “ياحد” ورئيس حزب “ميرتس” سابقًا، إنّ اليسار يُبدي علائم انتعاش- ولن يدعك تُكمل السؤال! أمس الاثنين بدا سريد غاضبًا بعض الشيء على مثل هذه الادعاءات: “أنا لا أحبّ هذه الترهات. في كل شهرين يكتبون أنّ اليسار الاسرائيلي استفاق من غفوته. السؤال هنا عن أيّ يسار يتحدثون، إذا كان (شمعون) بيرس هو اليسار الذي تقصده فهو عليه أن يستيقظ حقًا. نحن لسنا حزب المعارضة الأساسي مثله وبيرس جلس ردحًا طويلاً في حكومة شارون. وحتى الآن الوضع معقد جدًا لأنه يودّ في كل لحظة الانضمام إلى حكومة شارون. إذا كان بيرس هو اليسار فأنا رائد فضاء!”
وماذا مع المظاهرة، استفسرتُ. سريد: “لا يمكنك أن تعرف بالمرة إذا كانت المظاهرة التي ينظمها ويتحدث فيها بيرس هي مع الحكومة أو ضدها أو تمهيدًا للانضمام إليها.”
– ومعارضة الرأي العام لشارون أليست في ازدياد؟
“ما يحدث عندنا في هذا المنحى يحدث في الجانب الفلسطيني أيضًا. هنا بدأوا بالسأم من شارون وهناك من عرفات. شارون وعرفات هما المأساتان الكبيرتان.”
في الأسبوع الماضي نشر سريد في صحيفة “هآرتس” مقالا كتب فيه عن اللاجدوى في موت الجنود الاسرائيليين في رفح وغزة. وهو مقال يُعد بلا شك جريئًا في خضم حملة عسكرية إسرائيلية مسعورة، ولم تتأخر الردود الغاضبة. سألتُ سريد إذا كانت مثل هذه المقالات تساعد في زحزحة الرأي العام الاسرائيلي. سريد: “أنا أكتب ما أفكر به، وأفكّر ما أكتبه. أنا لا أهتم بالردود أبدًا. الردود كانت متفاوتة ولكنها لا تهمني أبدًا.”
– وماذا مع التحدث مع “حماس” كما يدعو برعام؟
“أنا لا أوافق حاييم برعام على كل آرائه. لا أعتقد أننا يجب أن نتحدث مع “حماس”.
– ولكنهم الأغلبية اليوم في الشارع الفلسطيني…
“جيد، ممتاز. ولكن هل ترغب “حماس” في التحدث معي؟ فهم لم يغيّروا أبدًا آراءهم الأساسية والمركزية في تدمير دولة إسرائيل وتدميري.”
– إذا قرأ هذا اللقاء قياديون من “حماس” وقالوا لك إنهم يريدون التحدث معك على أساس الانسحاب مقابل دولة فلسطينية، فهل هذا جيد بالنسبة لك؟
“إنسحاب مقابل دولة والاعتراف بدولة إسرائيل. ما يهمني هنا هو الاعتراف بدولة إسرائيل. هذا كان الأساس عندما تحدثنا مع منظمة التحرير الفلسطينية وهذا سيكون إذا تحدثنا مع “حماس”.”
– وحساب الدماء؟ ألن تتحدثوا عن القتلى والعمليات؟
“كلا. إذا اعترفت “حماس” بحق دولة إسرائيل في الوجود فإنها تتحول إلى عنصر شرعي بالنسبة لي. لا يوجد حساب دماء.”
وقد يكون ما صرّح به أفيف غيفن، المغني الاسرائيلي الاحتجاجي، حول عدم رغبة منظمي المظاهرة المذكورة في أن يشارك بها من على المنصة، بعضًا من التدليلات على نزعات وتوجهات منظميها. غيفن: “رغبت في المشاركة في المظاهرة، إلا أنهم فضلوا في النهاية أن تكون المظاهرة في الوسط، معتدلة، من دون قول أمور متطرفة… فضلوا “إتنيكس” (فرقة روك إسرائيلية- ع.ح.) وهذا خطير جدًا في نظري. يبدو لي سخيفًا أنهم يخشون الأقوال الواضحة. ولو مكّنوني من الظهور في المظاهرة لكنت قلت: يجب الخروج من هناك وبسرعة، فكل حائط المبكى والقدس لا يساويان نقطة دم واحدة من جندي… المستوطنون ليسوا جزءًا من شعبنا، لقد خلّفونا وراء الحدود، وهم يرتكبون الجرائم وحوّلوا الله إلى عقارات غير منقولة. هذا مقرف وسخيف وغير مسؤول ووقح.”
هذه هي آراء اليسار الحقيقي. ولكن منظّمي المظاهرة يوم السبت الفائت لم يرغبوا في أن تُسمع هذه الآراء من فوق المنصة. لماذا؟ قد يكون السبب الحقيقي هو ما يدعيه برعام وسريد: هذه المظاهرة هي تمهيد واضح من طرف بيرس للدخول إلى حكومة شارون. أي أنّ 150،000 متظاهر ممّا يُسمى بـ “اليسار” الصهيوني” جاءوا إلى “ميدان رابين” لكي يدعموا بيرس في تقوية حكومة شارون وليس لإسقاطها. بكلمات أخرى: المركز السياسي في إسرائيل (مع نزعاته اليسارية اللبرالية) لم يتوقف حتى الآن عن دعم شارون. كل ما في المسألة أن الشعارات تغيرت والظروف تبدلت وبيرس -كما كان- لا يزال يخطط للقفز إلى قاطرة هذه الحكومة.
(نشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” عام 2003)