“فإِن نَمَوْتُ في صدركَ كانت الثمارُ كلها لكَ”
لا شكّ أنّ هاتين المرأتين لا تزالان تحكيان –كلما سنحت الفرصة- عن اليوم الذي خبزتا فيه للرئيس، الذي “وقف فوق راسي وأكل رغيفين مش رغيف!” كما أنّ رواية القصة ستختلف: إذا روت “الخبازة ب” القصة بحضور “الخبازة أ” فإنها لن تجرأ على القول “خبزنا”، ستقول خبزت إم فلان. وإذا كانت إم فلان غائبة في المحضر فإنها ستقول بفخر “من إيدي التنتين”
علاء حليحل
هذه الزاوية
مع تحوّل الحياة اليومية المتسارعة إلى مشهد إعلامي مُستمرّ (الصّحف، التلفزيون، الانترنت، فيسبوك، تويتر) أخذت المضامين الإعلامية المنشورة تتجه بوتيرة أعلى نحو بلورة أفضل لـ “القصة الإعلامية”. صار الحدث قصة (story) تستوجب الجذب والتشويق، مجاراة لثقافة الرّيتينغ القاسية ولسرعة تبدّل العناوين السّريعة في الشبكات الاجتماعية. ستسعى هذه الزاوية إلى البحث عن الجذور الدرامية في القصص الإعلامية، التعقيب عليها، تطويرها ومحاكاتها بالرموز والمضامين المأخوذة من عالم الدراما.
الخبز الحافي
الصورة أعلاه نُشرت في صحيفة “هآرتس” يوم الخميس، 31 آذار من هذه السنة، بعدسة مصور الصحيفة موطي ميلرود.
نبدأ بالتقنيات ذات الدلالة: الصّورة حاولت حلّ أزمة يُدركها كلّ مصور صحافي وهي شمس منتصف النهار. مثل هذا الوقت عصيّ جدًا على التصوير، خصوصًا إذا كان ضوء الشمس الساطع يأتي من خلف الشخص المستهدف في الصورة (الخلفية البيضاء التي تشير إلى السماء السّاطعة). كما لا يمكن الامتناع في مثل هذه الظروف الضوئية عن ظهور الأشخاص أمام الكاميرا بطيف معتم، غير عادي، تمامًا كما يظهر جميع الواقفين فوق المرأة، ومنهم سلام فياض، رئيس الحكومة الفلسطينية. النتيجة في هذه الحالة: ألوان حادة و”كونتراست” (تبايُن) صارخ بين المعتم والبهيّ، يضفي جوًا من العتمة الخبيثة على الموقف.
فياض يحمل كأس شاي ورغيف خبز طابون (رْقاق) ويبدو عليه الفرح المكبوت: ينظر نحو شخص أو أفق مفترض ويتحدث بثقة الرئيس الذي يتواضع لدرجة الوقوف مع العامة وشرب الشاي معهم وأكل خبزهم الحافي. الرجال من حوله تتدرج تعابيرهم وفق توسع الدائرة: فالرجل الملاصق له ينظر إلى المرأة ويبدو أنه يعطيها أمرًا أو توجيهًا ما، وربما مديحًا على خبزها الحافي، لكنه بحكم المنصب والبدلة يوجه إطراءه بلهجة العاطي القادر. الشخص الملاصق لهذا الرجل يشرب الشاي وينظر إلى حيث ينظر فياض. يبدو أنّ “الفوكوس” لدى القيادة لا يتمحور في المرأة نفسها. إنهما يخاطبان مركز اهتمام آخر، ربما مسؤولاً آخر.
في طرفي الصورة شابان: الأول من اليمين يلبس سترة وهّاجة ويحمل صينية بيضاء عليها كؤوس ممتلئة بالشاي، زائدة عن الحاجة. هكذا تكون ضيافة العامة للسادة: “يْزيد ولا ينقص”. الشاب الثاني في أقصى اليسار يوزع الخبز الحافي على الطوق الرجوليّ الواقف فوق المرأتين. إنه الوسيط بين الطبقة الكادحة وبين السلطة؛ يحمل “ثمار الأرض” إلى من يرغب بها، يعيش في منطقة رمادية، “بيْن بيْن”، مثل البقدونس كما تحب الوالدة أن تقول: “جذوره في الخراء ويعاشر الأكابر”.
الحلقة الثانية من الطوق الرجوليّ أكثر انسيابًا وتحررًا من الالتزام بالمسرحية: لا حاجة للابتسام والتقرّب من العامة من أجل الصورة. هذه الحلقة معفية من الطقس المفتعل-المرتجل، ولذلك فهم مشغولون بأنفسهم: أحدهم ينظر إلى أحدهم، الباقي ينظر كلٌ إلى شأنه. إنهم يلعبون الأدوار المُساعدة (الثانوية)، لا وظيفة لهم درامية سوى دعم الشخصيات الرئيسة.
المرأة الرّاكعة عند أسفل يمين الصورة منشغلة بتعزيز النار التي تشتعل تحت “الصّاج” الملتهب. بحسب كمية الخبز المنتشرة في الصورة فإنّ النار تقوم بعملها على أتمّ وجه، ولكن كيف يمكن الركوع أمام رئيس الحكومة من دون أن تبرر وجودها في المشهد؟ إنها “الخبّازة ب”، المرأة الأقل أهمية التي دحشت نفسها في الفـْريم (إطار الصورة) لأنه قد يكون الفريم الوحيد الذي ستندحش فيه طوال حياتها (إلا إذا استشهد ابنها في الانتفاضة الثالثة وتسابق المصورون عليها كي يصوروا أم الشهيد وهي تزغرد فجيعتها).
أما “الخبازة أ”، فهي النجمة المؤقتة، لأنّ النجم الدائم هو فياض. لكنه في قمة سخائه منحها هذه النجومية وعليها أن “تكون قدها”. لذلك تنكبّ على الصاج ولا تلوي على شيء آخر: نجوميتها في الصاج؛ في إنتاج ما يكفي من الخبز الحافي كرمال جلالة الموقف. يدها اليسرى تمسك الرغيف ساحبة إياه عن الصاج واليمنى تهمّ بتلقفه. الرغيف في لحظاته الأخيرة قبل الانتقال إلى الشاب “الوسيط”، المسؤول عن توزيع الخيرات.
لا شكّ أنّ هاتين المرأتين لا تزالان تحكيان –كلما سنحت الفرصة- عن اليوم الذي خبزتا فيه للرئيس، الذي “وقف فوق راسي وأكل رغيفين مش رغيف!” كما أنّ رواية القصة ستختلف: إذا روت “الخبازة ب” القصة بحضور “الخبازة أ” فإنها لن تجرأ على القول “خبزنا”، ستقول خبزت إم فلان. وإذا كانت إم فلان غائبة في المحضر فإنها ستقول بفخر: “من إيدي التنتين”. هل هناك حاجة أصلا للتحدث عن بُعد رجال-نساء الصارخ في هذه الصورة؟
إنها صورة مسرحية بجدارة. “الميزَنْسين” متقن بعفويته الحتمية من الناحية الاجتماعية والطبقية؛ الشخصية الرئيسة تحمل “الجمجمة” الافتراضية التي تصرخ “أكون أو لا أكون”، والشخصيات المساعدة ملتفة حول البطل، الذي يبدي في مشهد البرولوغ تواضعًا سخيًا لا ينمّ إلا عن الشخصيات “الكبيرة”. كما أنّ حصول مثل هذا المشهد في “يوم الأرض” يزيده مهابة ولمعانًا؛ هذا تواضع وطني، نضالي، محفوف برسميات وترسيمات حكومية رسمية إجلالاً وإكبارًا.
هذه قصة أبدية: الحاكم الذي يشعر بأنه يقدّم معروفًا للمحكوم عندما يتودد له. يعده بابتسامة وعطية، بل ويعده باستمرار الحال ورونقه (الازدهار) بل وربما يعدهم بوريث ناصع مثله. الراكب يتفضل على المركوب برضاه عنه، بحبه له مركوبًا. والراكع على الأرض ينتظر مكافأة، نقودًا أو عطايا أو “شرف أن تأكل من خبزي” (الحافي، الزهيد، البالي). وإن لم يفعل هذا كأضعف الإيمان، فقد يردّ له الصّاع صاعيْن!
هكذا كتب شكسبير في الحوار بين مكبث وبين الملك (دانكان):
مكبث
تكفيني القدرة على خدمتك والتعبير عن ولائي لك. فما على مولاي إلا أن يتقبل منا ما هو واجب علينا أن نؤدّيه. وما واجبنا تجاه عرشك ودولتك إلا كواجب الأبناء والخدم: إن بذلوا كل ما في وسعهم لنيل رضائك والذود عن شرفك فإنما يفعلون ما ينبغي عليهم فعله.
دانكان
مرحبا بك هنا.. فأما ما صنعتُه أنا حتى الآن فهو أني بذرتُ بذرة مجدك التي سأتعهّدها بالسقاية والرعاية حتى تغدو دوحة باسقة. (لبانكو) وأنت أي بانكو النبيل، ما أراك أقلّ جدارة، وما ينبغي أن يحسب الناس صنيعك دون صنيعه. دعني أعانقك وأضمّك إلى صدري.
بانكو
فإِن نَمَوْتُ في صدركَ كانت الثمار كلها لك.
دانكان
يبدو أنّ سعادتي الغامرة وقد تضخّمت حتى ما عاد بوسعي أن أتحكّم فيها، تحاول إخفاء نفسها في صورة تلك الدموع التي تنهمر من عيني. (للجميع) أبنائي، أقاربي، أيها النبلاء وأنتم أيها السادة القريبون من العرش، لتعلموا أني سأجعل من ولدي الأكبر مالكولم وريثًا لي في المُلك، وسندعوه من اليوم بلقب أمير كمبرلاند. ولن يكون التكريم قاصرًا عليه دون غيره، وإنما سيعمّ كافة من تثبت جدارتهم حتى يلمعوا كما تلمع نجوم السماء. (لمكبث) سنتوجّه من هنا إلى قصرك في إينفرنيس، فيزيد إكرامك إيّانا فيه من ديْننا لك.
مكبث
كل عمل لا يستهدف خدمتك هو عبء على النفس.. سأنهض أنا نفسي بمهمة الرسول، فأُسعد زوجتي بخبر سيرك إلى قصرنا. فأذن لي بالانصراف.
دانكان
أجل أي كودور النبيل.
مكبث (جانبا)
أمير كمبرلاند! هذه لعمري عقبة في طريقي إما أن أعثر بها أو أقفز من فوقها.. فلتخفي أيتها النجوم ضوءك حتى لا يكشف مطامحي السّوداء الدفينة. ولترخِ عيناي جفنيهما حتى لا تريا ما تصنعه يداي. غير أنه لابدّ من إتمام الفعلة التي ستستبشعهما عيناي. (يخرج)
دانكان
صدقت يا بانكو. إنه كما ذكرتَ امرؤ باسل، وأنا أدرك تمامًا صفاته الحميدة التي هي بمثابة وليمة عامرة أمامي.. فلتتبعه إذن، ذلك الذي سبقنا من أجل الإعداد لاستقبالنا.. إنه قريبي الذي لا أجد له بين الناس مثيلاً.
(صوت أبواق- يخرجون)
(“مكبث”، وليام شكسبير. ترجمة حسين أحمد أمين، دار الشروق المكتبة الكلاسيكية، ص 36-37)
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 17 آب 2011)