عُمري
قبل أسبوعين ولدت مايا، زوجة أخي عنان، مولودًا أسمياه عُمري، وهو من تلك اللحظة عُمرنا جميعًا. ومع أنّني لم أرَ عُمري حتى اليوم إلا نائمًا، إلا أنني أعيش منذ تلك اللحظة تباريحَ العشق كَعمٍّ جديد: صُورُه في كلّ جهاز رقميّ يحمل ويرسل صورًا: على خلفية الحاسوب، في الهاتف النقال، في الكاميرا وفي ذاكرتي الجماعية-الرقمية (الإنترنت). وأنا من شدّة حبي له أبعث له مراسيلَ شوق، مع أنه لا يفقه من عالمه بعدُ، إلا وجبات الماتيرنا والسيميلاك (ما الفرق بينهما؟) وحمام الصباح الدافئ.
ومن غرائب الأمور أنّ الطفل في العائلة يُعيد جميع من حوله ليكونوا أطفالا، وعادة ما تتولى الأم سرد القصص عن الأبناء والبنات الذين كانوا يومًا أطفالا، فذاك فعل كذا، وذاك قال كذا، وكلهم مُتحلقون حول المولود الجديد، يضحكون تارة من القصص والطرائف، وينظرون تارة إلى الطفل الجديد الغاطط في نَوْمةٍ مُغمَّسة باليانسون والقرفة وزيوت التدليك الصحية وأربعة-خمسة أنواع من العطور. فغرفة عُمري أشبه بحانوت “السوبر فارم”، وتجدون فيها المراهم والزيوت والصوابين والشامبو والمُطريات والمُسليات والمُنعِّمات والطيّبات، وقد تجدون ربما قليلاً من السمن البلدي واللبنة المُدحرجة.
وقد اكتشفت والدتي أنّ مقولة العرب “أعزّ الولد، ولد الولد” هي مقولة صائبة دارية ثقّابة، وكلما رأيتُ عُمري بين يدي جده، خلتُه يقول لأخي عنان، كما قال الفضل بن الربيع عن حفيده:
مدّ لك الله الحياة مدّا حتى يكون ابنك هذا جدّا
مُؤزرًا بمجده مردى ثم يفدى مثل ما تفدى
كأنه أنتَ إذا تبدى شمائلا محمودة وقدّا
ثم يصير كل فعل غير جدير يبدر عن الحفيد الأول أعجوبة إلهية لا سابق لها، تستحق الصراخ والتطبيل والتزمير: فها هو قد ابتسم، أو ضحك، أو تجشّأ، أو نام، أو استيقظ، أو شخّ، أو تبوّل، أو أكل، أو شرب. يصطفّ الجميع في طابور مُزدحم كي ينظروا إليه وهو نائم، مثل الأحمقة، يتنافسون من سيراه وهو يفتح عينيه، وتندلع خناقة عصبية تتستّر ببعض الضحك والمزاح بيني وبين عمه الأصغر، عامر، حول الأسبقية غير المسبوقة في فلسطين التاريخية، التي يحاول أن ينفرد بها أحدنا، بشأن من نجح أولا في حمل عُمري على فتح عينيه والنظر إليه، وكأنه الشاعر الغريض يصف حالنا حين تغنى، فقال:
نظرتْ عيني إليها نظرة تركتُ قلبي لديها مُرتهَنْ
ليس حُبٌ فوق ما أحببتُها غير أن أقتلَ نفسي أو أُجنْ
ولا أحد يسألك إذا ما كنتَ تريد أن تصير عمًا. فلا طرح دولة جميع مواطنيها ولا الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ولا خطاب ناديا الحلو الأخير في الكنيست- لا شيء يمنحك حق الرفض أو القبول بهذا المنصب الجديد. تنام ذات ليلة ثم تستيقظ وأنت عم. وأول ما تشعر به هو أنك هَرمتَ دهرًا، فكل الأعمام الذين كبرتَ في ظلهم كانوا في الأربعينيات أو أكثر من أعمارهم، فتقف أمام المرآة في الصباح وتبحث عن العم الكهل الذي انتحل شبابك الذي تصارع على نهاياته، وتحاول أن تقود هذا الكهل بهدوء ومن غير مشاكل صوب باب الشقة، وتقول له برضًا مفتعل: أرجوك أن تعود بعد عشر سنوات، فأنا ما زلت في الثالثة والثلاثين، والأعمام عادة صُلعان وذوو كروش ويعلقون مفاتيح السيارة في قماشة البنطال التي حول الحزام ولهم أولاد من ذريتهم، وهم عادة “عايفين اللي عندهن” (باستثناء الكرش، وضعي تمام).
أخرج إلى الدكان وأحسب جميع مَن في الشارع ينظرون إليّ نظرة مختلفة، نظرة مليئة بالاحترام لمناسبة عموميتي الجديدة، وأخالُ البائعَ الغاضبَ دومًا قد صار يحترمني أكثر من العادة (أي عندما أشتري من عنده بأكثر من مئة شيكل)؛ فهو يسألني عن الأخبار ويتحدث عن ظلف العيش وسوء المعيشة والأولاد والهموم، فأشعر بأنني يجب أن أنغمس معه في الحديث، بصفتي عمًّا، فأفكر في جملة جيدة وذكية أقولها عن “الحفاظات” الغالية التي يُهدرها عُمري خمس أو ست مرات في اليوم، حسب شهيته، إلا أنّ قريحتي تخونني، فأعدِلُ، وآخذ الباقي وأنسحب بهدوء، ولكن برزانة واحترام للموقف. فالأعمام لا يخرجون من الدكاكين هكذا، أسوة بباقي الخلق؛ الأعمام يخرجون من الدكاكين مرفوعي الهامة، مشدودي الظهر. فقد زاد عدد أصوات العائلة في انتخابات المجلس للعام 2025 بصوتٍ واحدٍ!
القاتل
دهستُ قطة قبل نيّفٍ وأسبوعين. كانت تضطجع وسط الشارع عند مدخل عكا، ولم ألحظها إلا وقد رفعت رأسها قبل أن تنفرم بقسوة تحت عجلات السّيات إبيزا الزرقاء.
في الليل جاءتني القطة في المنام وقالت مُزمجزة: لا شكّ أنك تنام الآن قريرَ العين إذ تقول لنفسك لا بأس فالقطة بسبع أرواح. ولكنني بروح واحدة وأنا ميتة الآن، وأنت قاتل!
ولكنني بعد تلك الليلة نسيت أنني قتلت تلك القطة. لم تخطر في بالي إلا الآن، ومن أجل الكتابة، ليس إلا، وليس من أجل الحداد أو محاسبة النفس، حاشا وكلا.
إذًا، هكذا يصير المرءُ قاتلا محترفا؟
اء والقدر في هذه الحالة. ولا حاجة؛ فعُمري علّمنا كيف يكونُ الحبّ من جديد وكيف ترقص الدنيا على إيقاع نظرة منه وهو ينتقل بهدوء من ذراعي عمه إلى ذراعي عمته، ويعرف أنّ الأمير القطري يحسده على هذا الدلال.
وطبعًا، لجميع المُهتمين، وأولهم أمي وحماتي: “فش إشي عَالطريق، وبديش أشدّ حالي”!
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 13 كانون الاول 2007)