عين وصابتك يمّا يا حبيبي!
ماذا يفعل المرء بنفسه بعد عملية جراحية؟ لا قدرة على الخروج أو الأكل أو التحرّك بأكثر من لفتة لليسار ثم لفتة لليمين؛ سفر طويل من الكنبة في الصالة إلى المطبخ لـ… لا شيء. مجرّد اطمئنان أنّ الثلاجة تعمل. فالعملية تمنعني من الأكل الطبيعيّ وتشترط أيّ لقمة تدخل عبر حلقي بأن تكون طريّة وطيّعة وباردة. نعم، باردة (هل جربتم حساء الخضار وهو مطحون وبارد؟). وكلّ هذا يحدث وسط الاستعدادات الحثيثة (في غرفتي) لفتح فرع جديد من شبكة السوشي والآسيوي في مجمع عكا التجاري، وتوعّدات عالية وملتهبة مني بفشّ غلي ومحنتي الأسبوع القادم بأربعين ساعة من السوشي ومن حوله، لا تنقص ساعة.
ثلاثة أطباء نصحوني باستئصال اللوَز (بنات الذّنين)، وأنا كأيّ شخص مهذب ومطيع خضعت للنصيحة. العملية نفسها لم تكن صعبة، والانتعاش بعد البنج كان سهلا، بشهادة أخي عامر والطبيب الذي يعمل بالمخدرات كلّ النهار (المُخدِّر). كان كلّ شيء يبشّر بالخير والممرضات يمتدحنَ هدوئي وقدرتي على التحمل. لكنّ هذه العملية غدّارة لئيمة، خصوصًا للكبار في السنّ. فهي للأطفال “شربة مي” و”شكّة إبرة” و”شربة سيجارة”، أمّا لمن يحاشر على الأربعين بوقاحة فهي جهنم وبئس المصير. يتحوّل الحلق إلى ساحة وغى مزروعة بالأسلاك الشائكة (القُطب) ومليئة بالقتلى والجثث على شكل طبقة سميكة من البياض اللزج الكريه. إنها مؤامرة كونية بكلّ تشكّلاتها، هجوم كاسح على أكثر الأجزاء حساسية في الجسم (بعد اللوزتين السفليتين) ومناطحة يومية سيزيفية لا تنتهي مع أكثر المهام بساطة وسهولة على الأطلاق: ابتلاع الريق.
إنها من المناسبات التي تمتحن بها إيمانك. لا يجب أن يكون بالضرورة إيمانًا بقدرة الاستغفار على انتشالك من “شاعوب” الشيطان الإبليسيّ، بل الإيمان بقدرتك على تجاوز هذه الأميال الطويلة من دون أن تنهار. أصعب المهمّات على الإطلاق هي الجفاء الذي يسود علاقتنا أنا والدشدوشة الشقية. فظروفي الصحية تمنعني منذ يوم الأحد من التشقبع والتجحشن والزناخة والدلاعة طيلة اليوم، حيث لا صراخ يعكّر صفو القيادة الحاكمة ولا طفشات سريعة في العصر على الدراجة الهوائية لتناول الكريب الفرنسي الملتهب عند أمواج عكا العنيدة. إنها أقسى ما يمكن للمرء أن يعيشه: الانسلاخ عن توأم الروح، عن الإنسانة التي تختزل كلّ ما هو جميل في الحياة وما هو جدير بالحياة. كيف يمكن أن يعيش المرء في جفاء طويل ومؤلم مع ما يربطه بالسعادة في هذه الدنيا؟
أمّا المهمة الأشقى والأكبر –ابتلاع الريق- فهي مدعاة لسبّ كلّ الموشحات والأهازيج الطربية التي تتناغم وتتمايل على ريق الحبيب. فليذهب للجحيم هذا الريق، وليأتِ صباح فخري ليبتلع بعضًا من الرّيق بعد عملية استئصال اللوز! ثم هناك الجوع. لا أعني الآلام المبرحة في المعدة أو ما شابه. إنه فقر غذائيّ. فحياتي محصورة منذ ستة أيام في تناول المياه الباردة والبوظة (الباردة) وأنواع المَمعوسات على اختلافها. الحق الحق أقول لكم إنني تفاجأت بقدرتي على التماسك، خصوصًا أنني من مشجّعي الطعام وروائحه وملذاته، لكنني –لسبب ما- قادر حتى الآن على التماسك، وغالبًا ما أتعامل مع الطعام كمهمة قاسية يجب التخلص منها سريعًا للعودة إلى محاولاتي المتكرّرة لابتلاع ريقي.
كم نحن سخيفون- نحن وأجسادنا الفانية (باستثناء جسد مونيكا بلوتشي). يستأصلون منا عضوًا فتضحي الحياة جحيمًا لا يُطاق. تتحول الأفعال العادية الساذجة (النوم لأكثر من ساعتين متواصلتين) إلى مهمة عسكرية لها مخططاتها وعناصر تنفيذها والمعوّقات والأسلحة الضرورية ثم الهجوم. كم أشتاق لسيجارة أو لباغيت محشوّ بالشاورما أو لهامبورغر يُصلي على النبي. أشتاق لها لا لأنني أشعر برغبة لا تقاوم في تناول هذه الأمور، بل لأحسّ ثانية بعاديّتي، بابتذالي البشريّ المُخدّر الذي يجعلني أشتاق إلى كومة من اللحم وبعض الجرعات النيكوتينية. نحن نمارس “بشريتنا” و”إنسانيتنا” في الأفعال العادية المبتذلة. نعم، العادي المبتذل هو الدليل الوحيد على إنسانيتنا المفقودة. ما تبقى من “الضمير” و”الأخلاقيات” والجمل الكبيرة لا تصلح إلا لستاتوهات استمنائية في “فيبسوك”، نكتبها عادة كنصّ “طوباويّ” يخفي انعدام إنسانيتنا. نعم، ونسيت أن أقول لكم إنّ استئصال اللوز يزيد من منسوب الحقد في نفوسكم ومن رغبتكم في قسم رقبة كلّ من يتنفس في محيط 10 كيلومترات منكم، وشتم أمه وأبيه وخالاته وأعمامه.
أستلقي ممدّدًا مثل جثة وأفكر في برافر. كنتُ أرغب جدًا بالمشاركة هذه المرة ولكنني سأرسل “السّيكرابور” إلى مقرّ قيادة الثورة لعلهم يصفحون عني. “أنا أكره برافر” أتمتم وأنا أبلع ريقي بصعوبة باحثا عن علبة الدواء المُسكّن للأوجاع. ثم أبتسم: أفضل حلّ يمكن أن نبادر له لمنع برافر من المرور هو استئصال لُوزه، من فوق ومن تحت. تصوّروا: لن يستطيع برافر ابتلاع ريقه فكيف سيشرّد النقب وأهله؟
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 29 كانون الثاني 2013)