عند خط التماس المستحيل، بينكَ وبينكَ
لقد مات جوليانو واقفًا. مثل الأشجار ومثل برقوق نيسان. لم ينحنِ ولم يُهادن. كان على المرء أن يتابع تفاصيل المسرح اليومية كي يعرف حجم العناد الذي تتطلبه حياة مثل حياة جول. أن تنتقل مع عائلتك إلى مدينة أخرى خارج الراحة الإسرائيلية التي كان من السهل جدًا أن يستسلم لها نجمًا في مسرح “الكاميري” أو بطلا في الأفلام السينمائية الإسرائيلية
“أنا لن أخرج من جنين إلا بطلقة في رأسي”- قال جوليانو خميس في الاجتماع الليلي المتأخر الذي جمعَنا هو والمخرج أودي ألوني وأنا. منذ أشهر عديدة نعمل على فيلم روائيّ طويل تحت عنوان “أنتيغونا في جنين”. قصة مُمثلة من المخيم في المسرح تلقى حتفها في النهاية لأنها لم ترضَ أن تعيش وفق ما يطلبه المجتمع منها. وها هو بطل الفيلم يُقتل قبل بطلته.
كان جُولْ (هكذا نسمّيه تحببًا) يعي التهديدات التي عليه وعلى المسرح، لكنّ المثير لديه أنه كان يفكر بعقلية صاحب البيت، وليس بعقلية فنان ضيف من “الداخل” جاء ليساعد أبناء المخيم وسيمضي لاحقًا إلى شؤونه. هذا هو الفارق الصغير-الكبير الذي لا زال يفصلنا جميعًا عن جول. بيته في جنين ملازم لبيت رفيقه وصديقه زكريا زبيدي، وفي هذا البيت نمْنا وتناقشنا حتى الإنهاك. كان مشغولا بما يحدث في فلسطين وبحملة المقاطعة ضد إسرائيل، التي كان هو وألوني من رموزها المعروفين. يحلل الواقع من وجهة نظره الثائرة دائمًا، يدور في البيت كأسد هائج، يحمل ابنه “جيه” ويُهدهده وهو يصرخ عليّ وعلى أودي: “عن أيّ أفق تتحدثان؟.. ما هذه السذاجة؟!”
لكنه كان ساذجًا في حبّه للمسرح وللمخيم لدرجة الخيال أحيانًا. يروح ويجيء بسيارته الحمراء المعروفة التي قتل فيها، يتوقف في الأزقة، يمازح ويقبّل ويحتضن. “جول مِننا” يقول الشباب من حوله وهو يصرّ على التنكيت على العرب واليهود، فيبادلونه الضحك. جول “يهودي فلسطيني” صافٍ ونقيّ. إنه من أوجد هذا المصطلح بحذافيره. لم ينسَ يومًا أنه ابن آرنا اليهودية (اليسارية، المناضلة) ولكنه لم ينسَ أنه ابن صليبا خميس (المناضل). كان يراوح بينهما، ويبحث بصمت ومن دون كلمات عن مكان ينتمي إليه. تل أبيب لم تعد
خيارًا، وخياراته في الداخل أيضًا تقلصت.
إنه ذئب وحيد، عاش وحيدًا في داخل أسئلته وانتماءاته، وقُتل وحيدًا أمام مدخل المسرح الذي بناه بالدّم والفرح. في الأيام الأخيرة كان يواجه أزمة كبيرة مع بلدية جنين ومحافظها حول المبنى الجديد للمسرح الذي بناه في مركز المدينة. منعوه لدواعٍ تخطيطية من الاستمرار، ولكنه في ابتسامة واحدة (مغيطة جدًا) قال لنا ببساطة: “مش مهم، أنا بعرف قطعة أرض أحسن…” هكذا، يعرف قطعة أرض أفضل لبناء المبنى ثانية!
لقد مات جوليانو واقفًا. مثل الأشجار ومثل برقوق نيسان. لم ينحنِ ولم يُهادن. كان على المرء أن يتابع تفاصيل المسرح اليومية كي يعرف حجم العناد الذي تتطلبه حياة مثل حياة جول. أن تنتقل مع عائلتك إلى مدينة أخرى خارج الراحة الإسرائيلية التي كان من السهل جدًا أن يستسلم لها نجمًا في مسرح “الكاميري” أو بطلا في الأفلام السينمائية الإسرائيلية.
كان يرى في مشروع الفيلم الجديد عصارة له، لتجربته، لما يرغب بقوله للعالم ولمخيم اللاجئين في جنين. فهذا الفيلم استمرار لمسرحه الشقيّ، الشجاع، العنيد الذي أصرّ على صنعه. قبل سنة أخرج “العذراء والموت” لمسرح “الميدان” في حيفا وخرجت من بين يديه مسرحية عاصفة، ملتهبة، صافعة مُدويّة. ثم أخرج قبل أشهر قليلة قصة “أليس في بلاد العجائب” ليحوّلها إلى قصة فتاة من جنين يجبرها أهلها على الزواج فتجد خلاصها ومهربها في عالم العجائب. لقد كان هاجس المجتمع يسيطر على كلّ ذرة منه. كنا نصرخ متفقين في الثالثة صباحًا وزكريا زبيدي معنا: لا يمكن تحرير الأرض من دون تحرير الإنسان! كان هذا ما أخافهم، أخاف قوى الظلام (كانوا من كانوا) التي رأت في المسرح والسينما “بدعة” وداسوسًا على المجتمع الفلسطيني.
لقد حاولوا في السابق أن يحرقوا مسرح “الحرية” ثم قبل أقلّ من شهرين أن يحرقوا سينما جنين. إنها حرب ضروس على طابع وهوية الفلسطينيّ الذي نريده لأنفسنا. نحن ندير معركة شرسة ضد الاحتلال والصهيونية، ولكن معركتنا الاجتماعية لا تقلّ ضراوة. علينا أن نجاهر بذلك، علينا أن نقول إنّ مناضلا مثل جول مات على مذبح فلسطين، ولم يمت لشأنٍ أقلّ أهمية من محاربة الاحتلال: لقد مات في حربه على مستقبلنا جميعًا، وهو لذلك شهيد للحرية.
قد يضحك جول الآن من هذه الكنية، هو الذي لم يستسلم في حياته لأية تسميات شعاراتية أو مبالغ فيها. في إحدى جلساتنا في مطلع السنة، قلنا له، أودي وأنا، إنه يقوم بأهم عمل ثقافي وسياسي في فلسطين التاريخية منذ الانتفاضة الثانية. ضحك بخجل. كان يضحك بخجل حين تُسمعه إطراءً ويغيّر الموضوع فورًا. ولكننا لم نسمح له هذه المرة. كان يهمّنا أن نقول له ذلك، أن يسمع هذه الكلمات منا وقتها، لأنه كان على شفا الانهاك. الإداريات الصعبة والتهديدات ومشاكل البلدية كلها بدأت تؤثر عليه، لكنه قبل شهر أو أكثر استقبلني بمرح كعادته وسألني فورًا من دون مقدمات: “بتستحيش على حالك تيجي كل جمعه من عكا ومتجبش سمك لأهل المخيم؟.. إنتي وطني إنتي؟”
لم أجلب سمكًا بعد لأهل المخيم، ولا أعتقد أنني سأجلبه لهم قريبًا. إنكسر فيّ (وربما فينا) بعض من الحنين الفوريّ غير المشروط للمخيم. أعرف أنه سيعود، لا شكّ، ولكننا الآن مثل الأب الغاضب على ابنه البكر لأنه آذى الابن الصغير. يحبّ الاثنين، و”يكره” الأول لساعات قليلة، ولكنه سيغطيهما بنفس الغطاء في الليل وسيقبّلهما نفس القبلة.
أقبلك جول لأنك أنرتَ لنا الكثير وكشفت الكثير من عوراتنا في سعيك المستمرّ والحثيث على خط التماس المستحيل، بينكَ وبينكَ. وها نحن الآن، نجهّز لمراسم دفن صديق آخر، مناضل آخر، فنان آخر، وسننكمش على أنفسنا أكثر. لقد انكمشنا بما فيه الكفاية في السّنوات الفلسطينية الأخيرة حتى تضاءل حلمنا حجمَ بذرة خردل. لكنك جول (المولود في يوم النكبة، المقتول في يوم قتل مارتن لوثر كينغ) زرعتَ فينا بدلا منها بذرة عباد الشمس، كي لا نتوقف عن النظر إلى الشمس واحتضان وجهك فيها.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 7 نيسان 2011)