“عمارة يعقوبيان”: الكتابة بالحبر المُعلن..
علاء حليحل
لولا أنّ رواية “عمارة يعقوبيان” للكاتب علاء الأسواني أتت مؤخرًا، بنَفَس روائي تأريخي سبق وأن طُرق في الرواية المصرية والعربية عمومًا، لكانت أهميتها مضاعفة بمرات، من حيث أسبقيتها ورياديتها، إلا أنه ورغم هذا، تظلّ هذه الرواية الجيدة محطَّ إعجاب وتقدير، لأسباب عديدة، ولو أنها حُرمت من شرف “البكرية” في مثل هذا النوع من الروايات التي تلعب على الخيط الرفيع غير المرئي أحيانًا، بين الواقع والخيال، بين التسجيليّ والوهميّ.
فرواية “عمارة يعقوبيان” هي رواية تطمح لتحقيق أمريْن أساسييْن نجحت فيهما نجاحًا محمودًا بالغًا في بعض المواقع، في نظري طبعًا، وهما: التأريخ لمرحلة من حياة مصر عن طريق سرديات تسجيلية لعمارة يعقوبيان في “وسط البلد”؛ والأمر الثاني هو صوغ حبكة روائية جذابة، متعددة الشخصيات، تنجح في شدّ القارئ إلى نهاية ستبدو طبيعية في مأساويتها للقارئ، إذا نجح في جهد قليل من خلال قراءة الرواية في تبيان مواقع الإرهاصات الأدبية التي تخللتها الحبكة، مُنبئة بما سيأتي.
ومن هذا المنظور يمكن القول إنّ نهايات الرواية (نهاية قصة كل شخصية فيها أو حدث) هي نهايات معلنة في جزئها الكبير، والجميل أنّ هذا “الإعلان” لم يُفسد للقراءة متعةً، تمامًا كما فعل ماركيز في رواية “تسجيلات لموت معلن”، مع حفظ الاختلافات طبعًا بين الروايتين، وهي اختلافات تقنية تصبّ في طرق الكتابة وتقنياتها. أي أنّ جمالية الرواية الأدبية ليست في الكشف المتوتر الذي يحدث في النهاية عن أسرار الحبكة، بل في السيرورة التي وصلنا فيها إلى هذه النهاية (المتوقعة)، وهي نهاية شبه تراجيدية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، من حيث أنّ نهاية البطل التراجيدي هي معروفة للجميع منذ السطر الأول، وتظل المتعة في مرافقة البطل إلى نهايته المحتومة.
(بعض الأمثلة من شخصيات الرواية ونهاياتها: الشيخ عزام، طه، عبدو، حاتم رشيد، العمارة نفسها).
أعود للأمر الأساسي الأول: عندما يصعب على الكاتب أن يسجل حلقات متعبة (بكسر العين وبفتحها أيضًا) أو مُظلمة في حياة شعبه وبلده، يلجأ في العموم إلى التشبث بتلابيب الواقع أو التاريخ (والبعض الآخر بتلابيب الترميز والتخييل والغموض)، بما يشبه الإعلان الضمني والصريح: هذا لستُ أنا، هذا التاريخ؛ هل ستحاكمون التاريخ؟ وهذه في نظري تقنية جيدة في بعض جوانبها وسيئة في أخرى، إلا أنّ فضيلتها الكبرى تظلّ المساحة الكبيرة التي تُتاح عندها للكاتب في أن يستفيض ويُبحر، من دون تحمُّل مسؤولية شخصية كاملة عمّا يكتبه، مع أنّ هذا النوع من الكتابة لا يُفصح علانية عن أنه كتابة تأريخية تسجيلية، ولكن الكاتب يزرع ما يكفي من الرموز والصياغات كي يكون بوسع القارئ أن يتقبل الكتابة على أنها ملتزمة بالأحداث الواقعية بعينها، بشخوصها وحيثياتها من دون أن يسبّ الكاتب أو يلعنه بشدة. مثال على صياغات “بيْن بيْن”، تزرع اليقين في نفس القارئ بأنه أمام تسجيلات تأريخية، من دون التزام الكاتب بهذا: “في عام 1934 فكّر المليونير هاجوب يعقوبيان، عميد الجالية الأرمنية في مصر آنذاك، في إنشاء عمارة سكنية تحمل اسمه فتخير لها أهم موقع في شارع سليمان باشا وتعاقد لبنائها مع مكتب هندسي أيطالي شهير ووضع لها تصميمًا جميلاً…” (ص 20).
وهذه في النهاية طريقة أخرى لتجاوز غضب الرقيب أو الرقباء الجدد باسم الدين، ولا بأس أن يتحوّل التأريخ إلى ذريعة شرعية لتأليب الجروح والمثالب، ما دمنا لم نتخلص من سماجة الرقيب وثقل دمه بعد.
وما هي الممنوعات التي تُجتَنَب عادةً في الكتابة بالعربية؟.. الجنس والسياسة. والرواية هدف مبحثنا هنا مليئة بالاثنين، حتى التخمة أحيانًا، ولا يتوقف الأمر هنا، بل يتعداه إلى توصيف عميق ومسهب لشخصيتين في الرواية، إحداهما من الشخصيات المركزية، هما لوطيان، أحدهما سلبي (“كوديانا” بالمحكية المصرية) والآخر أيجابي (“برغل” بالمحكية المصرية)، يعيشان معًا، ويحبان بعضهما البعض، ويمارسان الجنس بشهوة كبيرة، فتخال الأيجابي (عبده) ينام في مؤخرة السلبي (حاتم رشيد). كما أنّ المحظور الثاني، السياسة، حاضر في الرواية بقوة، في منتصفها الثاني بالأحرى، وهو متمثل في شخصية طه ابن البواب، الذي ترفضه كلية الشرطة لأنه ابن بواب، فيلتحق بجماعة الإخوان المسلمين في الجامعة، ثم يصير مجاهدًا رغبة في الانتقام من معذبيه الذين كانوا يدخلون العصي في مؤخرته، فيتحقق له ذلك في نهاية الرواية عندما يقتل مع خلية معه أحد الضباط الكبار الحاضر في التعذيبات.
أحد نجاحات هذه الرواية هو الغوص في متاهات هذه الممنوعات من دون ابتذال الكاشف السابق الراضي عن نفسه، بأنه تجرّأ على البوح بما يعرفه الجميع ولا يستجرئ أحد على قوله. فالأسواني كاتب ناضج، ما يُستشف من كتابته ومعالجته لقضايا الرواية، وهو يتخذ بالفعل موقف (المؤرخ) المُشرف الذي يُطلّ على ما يريد، فينتقي ما يريد. فكتابته لا تستدرّ الدموع، بل إنه بارد في نواح كثيرة ومواقع أكثر حين يصف أو يسرد حكاية لواقعة بائسة أو مؤلمة؛ فالرواية إذًا ليست ميلودرامية، بل هي صوغ حديث لتيار الواقعية المندحر مؤخرًا، أعتقد أنه مدموج بتيار الوعي الأدبي الصاعد مؤخرًا، ومعًا، نجح الأسواني في التأسيس لسردية روائية ممتعة وجذابة ورشيقة، في معظم نواحيها.
بدأ الشهر الماضي عرض فيلم يستند إلى الرواية وهناك من أسرّ لي، من دون مقدرة على التأكد من صحة المعلومات، بأنّ ميزانية فيلم “عمارة يعقوبيان” وصلت الثلاثين مليون جنيه! وإذا كان هذا صحيحًا، وحتى لو أنّ نصف المبلغ هو الصحيح فقط، فإنّ هذا باعث على التفاؤل بأنّ القيّمين على إنتاج الفيلم مدركون وواعون للإشكالية الهائلة في تحويل مثل هذا العمل إلى فيلم سينمائي، ويمكن تلخيص هذه الإشكالية باللكنة المصرية المداعبة: آكلك منين يا بطه؟!
كنتُ قد بدأتُ بالقول إنّ الأسواني لم يكن طلائعيًا في روايته التأريخية التلخيصية لمرحلة ولمكان، فقد سبقه نجيب محفوظ في ثلاثيته المعروفة وفي ملحمة الحرافيش، وعلى المستوى العربي الواسع قرأنا من قبل سلسلة “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف، و”شرق المتوسط” بجزئيه، كما أنّ الأدب العالمي مليء بسير طويلة سردية لأمكنة وأزمنة ولأشخاص، مثل “مئة عام من العزلة”. ولكن هذا ليس بالأمر الذي يجب أن يُنغّص على الرواية وإنجازها، لأنّ الأسواني بدأ من حيث توقف محفوظ، أو أبعد قليلاً، ويمكن القول إنه أتمّ المهمة على أتمّ وجه.
إلا أنّ الإشكالية تظل على حالها في الجانب السينمائي: فثلاثية محفوظ أنتجت للشاشة، ولكنها أنتجت على شاكلة مسلسل درامي كثير الحلقات (جدًا)، من ثلاثة أجزاء، وبالتالي فإنّ عملية إعداد سردية جيلية طويلة من حيث امتدادها الزمني للسينما، هي غير مسبوقة في السينما المصرية، وإن سبق ووُجدت، فهي لم تترك الأثر المُرتجى منها (أنظروا تجربة “باب الشمس” السينمائية غير الموفقة كثيرًا).
والإشكالية تكمن من الناحية السينمائية في الانتقاء والغربلة: فما هي الأحداث والشخصيات الأكثر جمالية التي يمكن حصرها في ساعتين أو ثلاث، هي مدة الفيلم السينمائي، وما هي الأحداث والشخصيات التي ستسقط في الإعداد السينمائي، وصدقوني أنني لا أحسد المُعدّ السينمائي على هذه القرارات، التي يمكن أن تصنع فيلمًا سينمائيًا غير مسبوق، ويمكن أن تحوّله بجرة قلم أو قرار متسرع إلى محاولة أخرى غير موفقة للارتقاء بالسينما العربية التجارية والرائجة إلى قدرات جديدة غير معهودة فيها على السرد الطويل الممتع. ما هو مؤكد حاليًا أنّ عادل إمام، أحد الممثلين في الفيلم، قال عنه إنه “تحفة سينمائية”.
كما أنّ هناك مشكلة لا تقل عن السابقة في أهميتها: فما قد تسمح به الرقابة في كتاب مطبوع، قد لا تسمح به في فيلم مُصوّر يُعرض على الملأ في دور السينما، مثل مشاهد التحقيق الوحشية الموصوفة مع عناصر الإخوان المسلمين، ومقاطع الحب الملتهبة بين المثلييْن العاشقيْن. هذه معضلة غير هينة بالمرة، وأعتقد أنّ القيّمين على الفيلم سيصلون إلى تسوية قد تكون مؤلمة مع الرقابة لأنهم لا يريدون أن تذهب الملايين المُستَثمَرة سُدىً، ولكن مثل هذه التسوية ستشلّ الفيلم في نظري، وستجعل منه “كباقي الوشم في ظاهر اليدِ”.
(نشرت هذه المادة في موقع ’’عرب48’’ بتاريخ 27 حزيران 2006)