على هذه الأرض ما يستحق الذمّ!
لا يصمد فيلم “كما قال الشاعر” في امتحان الزمن؛ فمخرجه نصري حجاج اعتمد على انفعال اللحظة بعد موت الشاعر محمود درويش وحاول أن يعبّر عن غياب الشاعر بشريط وجدانيّ شبه تجريديّ، يعتمد على صوت الشاعر وشعراء آخرين يتلون شعره، وفي الخلفية فيديو صُور في محطات درويش الأساسية: البروة، الجديدة، حيفا، رام الله، بيروت، باريس، تونس… إلا أنّ التصوير والإخراج العادييْن (في أحسن الأحوال) حوّلا هذا الشريط التلفزيوني إلى ما يشبه الراديو المتكلم.
لا يصمد هذا الشريط الذي بثته قناة “أخبار المستقبل” ليلة اليوم السبت (7 آب) في امتحان الزمن لأنه وليد اللحظة، ابن السرعة غير المفهومة في تصوير مثل هذا الفيلم بعد موت الشاعر مباشرة، من دون التمتع (والاشتعال ببطء) بموقدة الزمن والنظرة الهادئة عن بُعد. إنه شريط قصير النفس، خالٍ من العمق السينمائي (الشكليّ والمضمونيّ) الذي كان من الممكن أن يرفعه إلى مرتبة فنية أعلى بكثير. الأثر الذي تركه الشريط ربما على المشاهدين بعد موت الشاعر بقليل انتهى واختفى، وظلّ الامتحان الآن سينمائيًا لا غير. بلا “خصوصية اللحظة”.
لهذا، تُضحي مشاهدة الشريط بعد الدقائق الأولى معاناة تُثقل على المرء صورة بعد صورة، وتجعل المشاهد (أنا في هذه الحالة) يتساءل عن سبب صنع هذا الشريط: أهو استذكار نوستالجيّ أم محاولة سريعة وغير ناضجة لإنتاج ما يشبه أيقونات (رسمية) للذاكرة عن الشاعر؟ كما أنّ المشاهدة التراكمية، دقيقة بعد دقيقة، تحوّل هذه المحاولة السينمائية إلى كيتش دبق يمنعك في بعض لحظات الفيلم (المرأة التي تتجول في مكتب مجلة “شؤون فلسطينية” في بيروت، مثلا) من التضامن حتى مع موضوع الفيلم.
لا يشفع للشريط أنّ نخبة ممتازة من الشعراء حول العالم قرأت قصائد لدرويش مترجمة إلى لغات الشعراء المختلفة، حيث أنّ أقوى لحظات القراءة كانت لجوقة الفتيات في بداية الشريط وللشاب الذي ألقى قصيدة بلغة الإشارات. وبموازاة هذيْن المثاليْن، لا يمكنني الإشارة إلى أية لحظة درامية في الشريط، رغم الإمكانيات الكامنة المحتملة الكثيرة فيه. لقد قتل هذا الشريط أيّ مَجاز مُمكن، وصارت الصورة فيه ترجمة حرفية للنصّ المَلقيّ، حتى لتخال الفيلم في لحظاته السّيئة جدًا دعاية تجارية لحُرج جميل أو لفندق فاخر.
إنه شريط بلا هوية أو مُميز يُذكر. يتخبط في أسئلة حبّذا لو أنه طرحها على الشاشة بقوة: كيف يُمكن تخليد الشاعر وصورته؟ هل الشاعر هو شعره أم جميع التفاصيل الأخرى التي تحيط بشعره؟ كيف يمكن الحديث عن درويش بصوته من دون الوقوع في فخ الاستسلام السّهل لإلقائه الساحر، وبالتالي التكاسل البائن والظاهر في المعالجة السينمائية؟
وإذا كان القصد تأليف قصيدة سينمائية لدرويش، أي كتابة الشعر بالكاميرا كما يحبّ عشاق وصُناع السينما “الفنية” أن يقولوا، فأين هي القصيدة السّينمائية؟ التصوير عاديّ وتحت العاديّ في الغالب؛ الأفكار الإخراجية “صغيرة”، لا تحمل أية بشرى سينمائية؛ القصة معروفة للجميع فأين ما وراء القصة؟
(وتُعسًا للعالم: متى سيتوقف مخرجونا عن لقطات “البانوراما” التي تبدأ بكاميرا ثابتة ثم تبدأ الكاميرا بالدوران كي “تلتقط” المشهد؟ أليست هذه اللغة التصويرية-الإخبارية-التقريرية-الملائمة لتقارير الفضائيات عكس كلّ ما هو سينمائيّ وإبداعيّ شكلانيًا؟)
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 7 آب 2010)