علاء حليحل: العناوين الجيدة نافذة ممتازة لكلّ عمل أدبي
الصحافة تبحث عن النص الصريح والمكشوف والفوري والأدب يتطلب نصا خبيئا ■ يجب أن يتحرّر العرب من السعي المتواصل وغير المفهوم لإثبات أنهم ليسوا أقلّ من المتنبي والجاحظ ■ إذا كان مُقدرا للفصحى أن تموت فلندعها تموت
وحيد تاجا
يُعتبر الأديب والصحفي علاء حليحل، ابن الجليل الفلسطينيّ، أحد الوجوه الثقافية البارزة في أراضي الـ 48، حيث يربط بعض النقاد بين أدبه الساخر وأدب إميل حبيبي ومحمود شقير، ويرى البعض الآخر أنّ قصته “زوجي سائق باص” من أهمّ القصص الحداثية، ويذهبون إلى مقارنتها بقصة يوسف إدريس “النداهة”.
وهو يرى أنّ الصحافة والأدب يكمّلان بعضهما البعض، رغم أنهما يتضاربان في بعض الأحيان. ويعتبر في لقاء مع “أشرعة” أن الصحافة تبحث عن النص الصريح والمكشوف والفوري والأدب يتطلب نصًا خبيئًا (سَبْتكست) لا يخاف التورية والغموض والالتفاف على التفاصيل أحيانًا”. وحول تطرّقه إلى مسألة الهوية الفلسطينية في أراضي 48 في رواية “السيرك”، يشير إلى أنّ الرواية سيرة ذاتية له وللعديد من أصدقائه الذين عاش معهم في حيفا، وأنّ تطرّقه فيها إلى الصراع الذي يخوضه أبناء المجتمع العربي في “إسرائيل” من أجل المحافظة على الهوية العربية الفلسطينية ومحاولات أسرلة هذا المجتمع، كان الهدف منه طرح أسئلة ومقولات تخصّ الهوية الفلسطينية العربية في داخل مناطق 48. وحول قصة “كارلا بروني عشيقتي السرية” التي تحمل مجموعته القصصية الأخيرة عنوانها يقول: “هي قصة ثيمتها “ما بعد الاستعمار”، وبروني هي التجسيد الفعلي لظاهرة العولمة المعلوماتية ولظاهرة ما بعد الكولونيالية بتوجّهاتها الجديدة الناعمة”.
علاء حليحل من مواليد الجليل عام 1974، وهو كاتب وصحفي ومترجّم، مؤسّس ورئيس تحرير موقع “قديتا” الثقافيّ، حاصل على عدة جوائز منها جائزة مؤسّسة عبد المحسن القطان للرواية عام 2002 عن رواية “السيرك” وجائزة القصة القصيرة عن مجموعته القصصية “قصص لأوقات الحاجة” وله مجموعة قصصية باسم “كارلا بروني عشيقتي السريّة”. كما كتب حليحل السيناريو والنصوص المسرحية وترجم مؤخرًا مسرحية “الحفلة” لهارلود بينتر.
– ثنائية الإعلاميّ الناجح والأديب المبدع، كيف كان تأثير كلّ منها على الآخر عند علاء حليحل؟
“الاثنان يكمّلان بعضهما البعض، برغم أنهما يتضاربان في بعض الأحيان. لقد اكتشفتُ أنّ الانشغال بالصحافة لسنوات طويلة والعيش وفق نبض الخبر المتغيّر دفعني إلى الكتابة الأدبية الساخرة كتعقيب ربما على العمل الصحفيّ وتأثيراته على نفسيتي وشخصيتي. في نفس الوقت، المجالان يتشابهان من حيث اعتمادهما الكليّ على الصراع والدراما والتفاصيل الصغيرة التي تبني الحدث، ولكنهما يختلفان من جهة توظيف هذه الأمور في المُنتَج النهائي: الصحافة تبحث عن النصّ الصريح والمكشوف والفوريّ والأدب يتطلب نصًا خبيئًا (سَبْتكست) لا يخاف التورية والغموض والالتفاف على التفاصيل أحيانًا.”
– ما الذي كنت تبحث عنه في انتقالك من القصة إلى الرواية، وهل حققت لك الرواية ما لم تحققه لك القصة؟
“أول عمل نُشر لي كان رواية “السيرك” التي فازت جائزة القطان عام 2000. وبالتالي فإنني أطللتُ على القراء لأول مرة عبر رواية وليس عبر مجموعة قصصيّة، مع أنني كتبتُ القصة القصيرة قبل فترة طويلة من كتابة رواية “السيرك”. أنا أروح وأجيء بين الرواية والقصة القصيرة بحرية كبيرة وصار بمقدوري تصنيف كل فكرة جديدة تخطر ببالي واتخاذ قرار بشأن كتابتها: قصة قصيرة جدا، قصة قصيرة، رواية قصيرة أو رواية طويلة. أشعر دائمًا بأنّ الفصل بين القالبين عندي لا يتعدى كونه مسألة تقنية تتعلق بطول النص أو النَفَس المطلوب لكتابته. أنا صراحة لا أبحث عن شيء في هذا الانتقال سوى إيجاد القالب الصحيح لكتابة كل فكرة جديدة.”
– لعل أول ما يستوقف القارئ لأعمالك هو الأسماء: “السيرك”، “قصص لأوقات الحاجة”، “الأب والابن والروح التائهة” و”كارلا بروني عشيقتي السّرية”. سؤالي كيف تختار العنوان، وهل يكون الموضوع جاهزا في ذهنك أثناء هذا الاختيار؟
“هذا تأثير آخر (إيجابي) من عالم الصحافة: البحث الدائم عن عنوان جيد. العنوان الجيد في الصحافة هو أقلّ عدد من الكلمات وأكثر ما يمكن من التشويق. كيف يمكنك أن تحصر تقريرًا أو مادة صحافية طويلة في 8 كلمات؟ من هنا ربما توجّهي إلى هذا النوع من العناوين في الأعمال الأدبية. هناك حاجة لعناوين جيدة كي تثير فضول الناس. العنوان والتصميم هما أول ما يثير القارئ أو القارئة لقراءة كتاب جديد ما، وفي أحيان كثيرة يكون هذا الاعتبار الأول، خصوصًا إذا كنت تتجوّل في معرض فيه عشرات آلاف الكتب وعليك اختيار الكتب العشرة التي تسمح بها ميزانيتك. أعتقد أنّ العناوين الجيدة هي نافذة ممتازة لكلّ عمل أدبي.
“أما بالنسبة لحضور العناوين فأنت مُحقّ: إنها حاضرة طيلة الوقت وأحيانا تسبق النصّ. في المجموعة الأخيرة “كارلا بروني عشيقتي السرية” حضر العنوان وأصبح عنوانًا للمجموعة كلها قبل أن أكتب القصة نفسها. لقد وُلدت قصة كارلا من عنوان جذاب خطر لي فجأة.”
– تقول عن قصة “كارلا بروني عشيقتي السرية” إنها قصة ثيمتها “ما بعد الاستعمار”. هل يمكن إيضاح هذه النقطة، ولماذا كانت كارلا وليست مادونا مثلا؟
“إختيار كارلا وليس غيرها لم يكن فوريًا. فأنا فكرتُ في شخصيات نسائية غربية أخرى مثل جوليا روبرتس أو أنجيلينا جولي. لكنّ كارلا بروني تجمع الكثير من الأمور التي وظفتها في القصة: فهي عارضة أزياء ومغنية وزوجة الرئيس الفرنسي. بمعنى أنها تجيء بشحنة كبيرة ومضامين جاهزة كشخصية أدبية الهدف من ورائها مقولة سياسية ووجودية كبيرة مثل البوست كولونياليزم. ليس صدفة أنني ألبستُ كارلا في القصة برقعًا؛ فزوجها أراد سنّ قانون فرنسي يمنع ارتداء البرقع في الأماكن العامة. كما أنّ علاقة الشرق بالغرب مرّت بتساؤلات غير قليلة في سير القصة وتطوّرها: نظرة الغرب إلينا كمجتمع فيه إكزوتيك وأوثنتيكا والرغبة في السكن هنا وخوض المغامرات الجسدية والحسية، فيما يرغب الشرقي المهزوم بامتطاء واحتلال الأنثى الغربية كنوع من الانتقام لرجولته المفقودة. إنها قصة مؤلمة بنظري رغم أنّ المعظم يتعامل معها من باب التسلية الجميلة أو الكوميديا أو الجانب الفضائحيّ.”
– تطرقت في روايتك “السيرك” إلى الصراع الذي يخوضه أبناء المجتمع العربي في “إسرائيل” من أجل المحافظة على الهوية العربية الفلسطينية ومحاولات أسرلة هذا المجتمع. كيف ترى هذه حقيقة هذه الإشكالية، وكم في هذه الرواية من السيرة الذاتية للكاتب علاء حليحل؟
“في رواية “السيرك” الكثير من السيرة الذاتية لي ولعدد من الأصدقاء الذين عشت معهم تلك الفترة (منتصف التسعينيات وحتى نهاياتها من القرن الماضي) في مدينة حيفا. لكنها مع ذلك ليست رواية توثيقية أو تسجيلية أو تاريخية بالمعنى المرجعيّ. إنها توليفات متقاطعة لعدة شخصيات، ولكن من ورائها أسئلة ومقولات تخصّ الهوية الفلسطينيةـالعربية في داخل مناطق 48: ما هي حدود اندماجنا في المجتمع الإسرائيليّ وما هي علاقتنا مع الإسرائيليّ كقوة استعمارية وكوجود اقتصاديّ واجتماعيّ وثقافيّ. أنا لا أملك أجوبة شافية ولا يبدو أنني سأملكها يومًا، ولذلك أرى في مهمتي الأساسية طرح الأسئلة، الصعبة منها خصوصًا.
“أعتقد أنّ هذه الرواية أربكت الكثيرين لأنها تعاملت مع هذه المسألة خارج الكليشيه الجاهز. فالفلسطينيون فيها ليسوا أبطالا بالمرّة، بل بعضهم نذل وبعضهم جبان وبعضهم غارق في الملذات. إنه كسر للنموذج الفلسطيني الذي اعتاد عليه القارئ الفلسطيني والعربي. ولذلك اُتهمت الرواية بالتطبيع مثلا لأنّ سمير (البطل) يقيم علاقة مع مهاجرة روسية جديدة (العلاقة لم تكن جنسية في النهاية). يمكن بسهولة اتهام هذا الشخص بأنه متواطئ مع الهجرات الصهيونية إلى بلد الآباء والأجداد، ولكن المهمة الأصعب لدى أيّ قارئ هي أن يتخيل نفسه للحظة في حيفا أو عكا أو يافا اليوم: كيف سيتدبر أمره ببطاقة هوية إسرائيلية ومنظومة حياتية متكاملة تعمل ضدك كمواطن.”
covers- الرواية كجنس أدبي لها إشكاليتها الخاصة دائماً من حيث اهتمامها الأساسي بأحداث وأبطال لهم أفكارهم ومعتقداتهم، وللكاتب أيضاً أفكاره ومعتقداته. السؤال هو: هل ترى أنك كنت محايدا في تسيير أحداث أبطال روايتك لاسيما وأنّ البعض رأى أنها أقرب إلى السيرة الذاتية؟
“أنا أكره كلمة موضوعية. أعتقد أنها نكتة تافهة. أنا منحاز كليًا لأدبي ورغباتي وأهوائي ولا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن تضبطني بفعل مُحايد. الحياد هو موقف أساسه الجُبن. إذا قرّرتَ أن تكون محايدًا في وضعية إشكالية فإنك في النهاية تتخذ موقفا مع القويّ والمهيمن. أنا أومن بمقولة جميلة مفادها: نحن نروي كذبة كي نقول الحقيقة. الكذبة هي كل رواية أو قصة خيالية أو مختلقة أو غير واقعية مئة بالمئة نرويها كي نقول حقيقة ما عن عالمنا. يجب على الكذبة أن تكون محبوكة كما يجب ويجب على الحقيقة التي أرغب بقولها أن تكون قوية وواضحة وبالأساس ذاتية وتأتي من عمق تجربة الكاتب. الناس لا تبحث عن موضوعية مفتعلة. الأدب الموضوعي والمهادن هو تفاهات ساقطة غير جديرة بأن تُقطع من أجلها أيّ غابة لطباعتها.”
– في ذات السياق كيف ينظر أدباء ومثقفو أراضي 48 إلى العلاقة مع الآخر (اليهودي) ببعدها الإنسانيّ، وارتباط مسألة الهوية الفلسطينية في ظلّ وجود هذا الآخر؟
“ليس هناك إجماع تامّ في هذا الشأن. تشكيلة الآراء والممارسات تبدأ من تواطؤ مع اللغة العبرية والثقافة الإسرائيلية حدّ الخنوع، إلى النقيض الآخر الرافض كلية لأيّ حوار أو انشباك مع الثقافة الإسرائيلية. هذه مسألة إشكالية ولا جواب واضح عليها. مع ذلك، على المرء أن يتلمّس طريقه دائمًا بين النقاط. هذا يعني أن تتبنى موقفًا يرفض الهيمنة الثقافية الإسرائيلية والعيش في ظلها، من دون معاداة اللغة مثلا أو القلة القليلة من اليسار الحقيقيّ في إسرائيل. هذه مهمة غير سهلة بتاتًا وفي أحيان كثيرة لا يفهمك العربيّ في العراق أو الجزائر. ولكن من يعيش هنا في قلب الكيان الإسرائيليّ يكون على دراية أكبر بالتفاصيل والحيثيات والسياقات المختلفة، وبالتالي يستطيع أن يطوّر لنفسه آليات بقاء وحياة في هذا الوضع المُركّب.”
– وكيف تنظر إلى الروايات الصهيونية الجديدة التي تحاول إظهار الرغبة في التعايش مع العرب، وأين يمكن تصنيفها؟
“هناك البعض منها صادق بهذه النوايا وهناك كتاب شباب من اليهود الإسرائيليين اتخذوا قرارًا مبدئيًا بنبذ الصهيونية كإيديولوجية والتطلع إلى منظومة أخرى للتعايش مع الفلسطينيين والعرب. ولكنهم قلة قليلة جدًا ويظلّ التعايش في الأدب الإسرائيلي مبنيًا على نظرة مشوّهة لمفهوم التعايش: أن تكون عربيًا جيدًا وجديرًا بالتعايش. والعربيّ الجيد في دولة إسرائيل هو العربي الخنوع أو الذي لا يثير الكثير من المشاكل السياسية.”
– يغلب الطابع الإيديولوجي على مجمل أعمالك الأمر الذي يدفعني للسؤال عن مفهومك للالتزام، وما الذي تريد أن تقدّمه من خلال أعمالك بشكل عام، وما هو المطلوب من الأدب (قصة أم رواية) أساسًا، تشخيص الواقع وطرح الأسئلة أم إيجاد الحلول؟
“لا أعرف إذا كان يمكن نعت أدبي بالإيديولوجيّ، ولكنه أدب متجند. وأنا أميز بين الأدب المُجنّد والأدب المتجند. الأول يأتي بتعليمات ومراسيم من قيادة الثورة أو الحزب أو الحركة. هذا أدب سيئ ونحن الفلسطينيين أنتجنا منه كميات لا بأس بها كأقلّ ما يُقال. الأدب المتجند هو الأدب الذي يعي أهمية دوره على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي ولكنه لا يخدم أي توجهات فكرية وإيديولوجية. إنه يخدم ما يراه الكاتب قضية جديرة بالكتابة عنها. فيمكن أن تكتب عن اللجوء وفي قصة أخرى عن علاقة حبّ طفولية. الأمران لا يتعارضان ويجب أن يظلّ الكاتب وأدبه حُرّيْن طليقيْن لا يأتمران بأوامر الإجماع الوطنيّ أو بمتطلبات المرحلة أو بالشعارات الرنانة. الأديب الفلسطيني الجيد هو الذي يحبّ فلسطين ويمدح جمالها في قصة واحدة، ثم يشتمها ويشتم أباها وأمها في قصة أخرى.
“على الإبداع ككلّ أن يتحرّر من طرح الحلول لأنّ طرح الحلول هو ممارسة إيديولوجية. هنا الخطر. إفعل ولا تفعل. دعنا نترك هذا لبيانات المكتب السياسي للأحزاب. طرح التساؤلات هو الأساس. السؤال هو حجر صغير يرميه الكاتب في مستنقع راكد، فيُنتج دوائر تكبر وتكبر وتكبر. هناك مقولة أخرى أحبّها في هذا السياق: وظيفة المبدع أن يأتي إلى شخص يعيش بجانب البحر طيلة حياته ويمنحه إمكانية جديدة لسماع صوت الموج الذي نسيه.”
– تعتمد في رواياتك كثيراً على الحوارات الداخلية للشخصيات وسبر نوازع النفس البشرية بشفافية وعمق. وقد لفتني بصراحة هذا الربط المتماسك بين الخاص والعام وبين السياسي والاجتماعي في كل أعمالك…
“لا يمكن الفصل بين العام والخاص. الانغماس الكلي في الخاص سيأخذك إلى الانغماس في اللذات أو الآلام الفردية المطلقة، والانغماس في العام وحده سيحولك إلى كاتب عقيم لا شيء جديرًا لديه ليقوله رغم أنه يعتقد أنه يكتب عن هموم الناس. الكتابة عن هموم الناس تستوجب البحث في نفوس الناس ومحاولة اكتشاف المناطق المعتمة في شخصياتهم، وهذا يستدعي مراوحة دائمة بين الخاص والعام. إذا كان العامّ مثلا الأيام الأولى من الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فإنّ الخاص يجب أن يكون شخصية شاب أو فتاة يقعان ضحية لحظة أمنية أو عسكرية والقصة يجب أن تكون عن اللحظات الشخصية الحميمية التي عاشتها الشخصية، وليس كتابة الشعارات عن صمود الشعب الفلسطيني في وجه الدبابات. هذا الصمود سيفهمه القراء ممّا ستمرّ به الشخصية على المستوى الشخصي الحميميّ. “
– بقدر ما يبدو الاعتناء باللغة واضحًا في رواياتك، بقدر ما تبدو اللغة عندك بسيطة، وربما منحازة أكثر إلى المستعمل اليومي، حتى نكاد نرى الشخصيات عندك تتكلّم بلغاتها اليومية وانفعالاتها الذاتية وثقافاتها الخاصة دون إقحام أو تصنّع.
“صدقت. في بداياتي كنت مهتمًا بالزخرفات اللغوية لدرجة السجع. كنت على ما يبدو أرغب بأن يرى العالم كم أنا كاتب ماهر ومُتقن للغة. ثم بدأ هذا السعي يخف لدرجة أنني اليوم ألقي أيّ قصة يكون كاتبها أو كاتبتها مهتمًا بشدّ عضلاته اللغوية. لو أنني أرغب بالإثارة اللغوية لفتحت “لسان العرب”. أعتقد أنّ العرب يجب أن يتحرّروا من هذا السعي المتواصل وغير المفهوم لنثبت أننا لسنا أقلّ من المتنبي والجاحظ. ولكننا ننسى أنهما كانا جيديْن لعصريهما. أيّ محاولة اليوم للكتابة مثل الجاحظ أو جبران خليل جبران أو المنفلوطي هي قمة التفاهة. لكلّ عصر لغته، ولغتنا اليوم سريعة ورشيقة ولا تحتمل الإنهاك والرتوش والزخرفات. لذلك أحاول أن أكتب بأكبر قدر من البساطة وأبتعد عن أيّ كلمة أو مصطلح أو تعبير يُمكن أن يُشتمّ للحظة أنه قديم أو إعجاميّ. أنا ابن لحظتي، وقرائي كذلك، فلماذا نتظاهر بأننا أبناء لحظات سابقة؟ ولا ننسى طبعًا حقيقة في غاية الأهمية: الكتابة بلغة بسيطة وعميقة أصعب بألف مرة من الإنشاء والديباجات العربية العصماء. هذه سهلة جدًا وهي حكر على من يكتب الأدب الأجوف.”
– أيضا يسجل لك “توظيف اللهجة المحكية الفلسطينية بتشكيلاتها المختلفة، سواء من خلال الألفاظ أو التعابير أو الأمثال أو من خلال استيحاء الأجواء الشعبية في القصة الفلسطينية في البلاد عبر عناوين هذه القصص، ولكن ألا ترى أنّ استخدام اللهجة المحكية أصبح شبه سائد في معظم القصص والروايات العربية المعاصرة مما قد ينعكس سلبا على الفصحى؟
“سأقول جملة قد تبدو غريبة لأنها تصدر من كاتب أدبيّ: إذا كان مُقدّرًا للغة الفصحى أن تموت فلندعها تموت. لا شيء سيبقيها على الحياة إذا كان تطوّر اللغة في هذا الاتجاه. مع ذلك لا أعتقد أنها ستموت. إنها لغة الأكاديمية والإعلام والنصوص الرسمية. وقد ينحصر وجودها في نهاية الأمر هناك. لا أعرف إذا كان هذا أمرًا إيجابيًا أم سلبيًا، ولكنني بالتأكيد لا أتعامل معه على أنه نهاية العالم ولا أحبّ كلّ خطابات الرثاء والبكائيات على وضع اللغة العربية. كلّ لغات العالم في تغيّر وتشكّل دائميْن والعربية ليست أفضل من غيرها. إنها في تشكل وتغير وهذا أمر جيد وممتاز. وأنا أعتقد أننا يجب أن نخرج من دوائر سيبويه وغيره وأن نبدأ بتبني كلمات أجنبية واحتضانها وتعريبها مئة بالمئة. لماذا لا تكون كلمة “إس إم إس” مثلا عربية ومنها فعل سمّس يُسمّس فهو مُسمّس؟ كلما أمعنا في الجمود والحرص الشديد على اللغة أفلتت من بين أيدينا. ثم أنّ اللغة للناس. دعوا الناس يحبونها ويغيرونها ويشكلونها كما يريدون. من نحن لنخرج ضد هذا الفعل الأساسي والديمقراطي العميق؟ اللغة لمن يتحدث بها في السوق والشارع والسرير وليست لبعض المومياءات المعجمية والأكاديمية.”
– لفتني في قصتك “كاتب قصة” اعتمادك على الحدث والحبكة القصصية في ظل تغييب مقصود للزمان والمكان، وهي التقنية التي تعتمدها في أغلب قصصك بشكل عام.
“هذه القصة بالمناسبة هي من أحبّ القصص إلى نفسي وقد تراجعتُ في اللحظة الأخيرة عن ضمّها إلى مجموعة “كارلا” الأخيرة رغم أنها نشرت في مجموعتي “قصص لأوقات الحاجة” في 2003. إنها قصة عن مفهوم الكتابة: الحدث، التشويق، الغموض، الكونية مقابل المحلية. ولكنني أعتقد أنّ مجموعة “كارلا” الأخيرة مليئة بمكان وزمان معينين. قصص مثل “كارلا بروني عشيقتي السرية” و”باسبورت” و”الخيمة” و”قهوة وكروسون” و”فيديو” و”خيانة” وغيرها. كلها معروفة المكان والزمان وأعتقد أنّ هذا نابع من رغبتي في ربط الأحداث بخصوصية زمانية ومكانية تجعلها أكثر ارتباطًا بالقارئ.”
– تميل كثيرًا إلى الأسلوب الساخر في معظم أعمالك الأمر الذي يذكّرنا بإميل حبيبي ومحمود شقير.
“المثالان اللذان أوردتهما ممتازان. حبيبي وشقير هما بالفعل مصدر تأثير عليّ، بسخريتهما وذكائهما الكبير في الكتابة. السخرية هي آخر ما نملك. البلد ضاعت بما فيها وليس لنا والله إلا السخرية والضحك المُرّ. إنهما سلاح الضعيف وسلاح المحارب وسلاح الباحث عن مكان تحت الشمس. نحن ندقّ الخزان لو شئتَ بقبضات ساخرة. ندقّ ليسمع غيرها ولنسمع ارتداد سخريتنا بآذاننا. إنها “ثيرابي” لا غنًى عنها. السخرية تُشكّلنا ونشكّلها، ننقذها وتنقذنا منذ عشرات السنين.”
– تناولك للجنس في قصة “زوجي سائق باص” يطرح سؤالا عن الاتجاه في القصة أو الرواية العربية الجديدة نحو الغوص في محرّمات الجنس والسياسة، هل تراها موضة أم ضرورة؟
“هي ضرورة بالطبع. ولكن يظل السؤال: كيف؟ غالبية الكتابات العربية الجنسية إما كتبها رجال أرادوا استعراض فحولتهم أو نساء رغبن بأن “يُجنّنَ” العالم بمدى وقاحتهن وجرأتهن. في هذه الحالة الكتابة عن الجنس والحميمية سيئة بنظري. الجنس كأيّ موضوعة في النص الأدبي يجب أن يكون ذا وظيفة وهدف وتكوين أدبي ملموس ومُقنع. إذا لم تكن كذلك فهي مجرد فعل فضائحي لا يزيد في قيمته عن أي شريط مبتذل. أما السياسة فهي فخ كبير نقع جميعنا فيه: فخ المباشَرَة والشعاراتية والارتكان إلى أنّ الموضوع ساخن بما يكفي وهو لا يحتاج إلى الكثير من التفكير في كيفية كتابته.
“إحدى المقولات الساخرة التي كانت متداولة عن الأدب العربي إنه لا يتناول المحظورات الثلاثة: الجنس والدين والسياسة. فماذا تبقى؟ أعتقد أنّ علينا كسر هذه المحظورات الثلاثة وتحدّيها بلا مهادنة، ولكن علينا أن نكون مهنيين وأذكياء وحرفيين في هذا التحدّي وإلا فإنّ هذه المحظورات ستسجل نقطة على حسابنا.”
– اعتبر بعض النقاد قصة “زوجي سائق باص” من أهم القصص الحداثية ومن أجمل ما كتبت، وقارنها البعض بقصة يوسف إدريس “النداهة”. ما قولك، وما حقيقة تأثرك بإدريس؟
“أنا سعيد طبعًا بهذا. ومن قال هذا أصاب أيضًا بشأن تأثري بيوسف إدريس كقصصي من الطراز الأول بكل المعايير. الحقيقة أنّ هذه القصة ما تزال تثير ردودًا انفعالية أكثر من أيّ قصة أخرى كتبتها. وأنا دائمًا أُعجب بهذا لأنني لم أكن على الجرأة الكافية في البداية لنشرها. فقد كتبتها وظلت سنة كاملة في الحاسوب بدون أن يقرأها أحد. كنت خائفًا من الوقاحة في كتابة قصة امرأة وبصوتها، وأنا رجل. بعد سنة أعطيتها لزوجتي لقراءتها وأحبتها فنشرتها. إنها امتحان مستمرّ يذكرني دائمًا بمستوى معين في الكتابة يجب أن أحافظ عليه وأتجاوزه.”
– استوقفتني كثيرا قصتك “الخيمة” ورصدك للتفاصيل الإنسانية للاجئ الفلسطيني بهذه الدقة، وكأنك عشت طويلا بين هؤلاء..
“هذه القصة نبعت من مقالة لأسعد أبو خليل قرأتها في جريدة “الأخبار” اللبنانية وتحدّث فيها عن طفل كان يثقب الخيمة في المخيم كي يرى النجوم التي تذكّره بقريته. أخذتُ هذه الصورة المحزنة والمليئة بالحياة والتفاؤل في نفس الوقت واعتمدتها كأساس لقصة الخيمة. إنها أفضل قصة في المجموعة برأيي وحاولت فيها أن أكتب عن الفلسطينيين خارج كليشيه اللاجئ الجاهز. خارج الصورة النمطية التي من المتوقع أن يُكتب عنها في مثل هذا السياق، ودخلت في تفاصيل حياتية للحياة في خيمة صغيرة بعد أن خسر المرء أرضه وبيته وبلده. لا وجود للألم بدون التفاصيل الصغيرة وأحيانا المفرحة التي تشحن لحظات الألم بحزن صادق وعميق.”
– أين مكمن الاختلاف برأيك بين كتاب القصة والرواية في داخل الأراضي الفلسطينية (الضفة والقطاع وأراضي الـ 48) وبين كُتاب الشتات؟
“لا أعرف.”
– سؤال أخير، على الصعيد الإبداعي، هل تعتبر وجودك في أراضي 48 ميزة، أم أنه حرمك من ميزة ما؟
“ميزة بالتأكيد. عندما كنت صغيرًا كنت أبحث عن أمجاد متوهَّمة في لندن وباريس، ولكنني اليوم أرى أنّ عكا التي أسكن فيها مثلا هي أهم مدينة في العالم. حيثما أسكن يكون عالمي الكبير. ومناطق 48 مليئة بالتعقيدات والاختلافات والتناقضات التي تصلح لمئات الروايات. بمعنى معيّن أنا محظوظ أنني وُلدت هنا وأكتب هنا. تصور أنني أعيش في النمسا فماذا سأكتب؟”
(عن “الوطن” العُمانية، ملحق “أشرعة”)
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 7 حزيران 2013)