عرب الداخل خارج الصورة التي تحويهم!
علاء حليحل
“يجب الفصل بين الشعب العراقي وبين صدام حسين”. بهذه الجملة، مع بعض الزيادة أو النقصان، يمكن تلخيص ما يدور في الشارع العربي الفلسطيني في إسرائيل (عرب الداخل)، بشأن الحرب المتوقعة في كل لحظة في العراق. في العام 1991، عندما سُئل صدام عن العرب الذين يعيشون داخل الخط الأخضر، ومخاطر أن يتآذوا من إطلاق صواريخ “سكاد” على إسرائيل، أجاب بما معناه: سيُعتبرون شهداء. ولكن عرب الداخل لا يريدون أن يكونوا شهداء. لو أرادوا ذلك لكانوا انضموا إلى الفلسطينيين في الضفة وغزة. كما أنهم لن يرقصوا ويصفقوا على سطوح المنازل، مثلما فعلوا في الحرب السابقة، عند وقوع صاروخ “صدامي” على إسرائيل.
عرب الداخل لن يهلّلوا للصواريخ الآتية اليوم، لأن أسطورة صدام البطل، الذي بوسعه محو الجيوش الغربية “بكبسة زر”، إنهارت تمامًا. عندها، في تلك الأزمنة، لم يكن صدام قد هُزم بعد، ولم تكن إتفاقات أوسلو قد وُقّعت بعد، وكان هناك ما ينتظره عرب الداخل. هذان الأمران هما طرفان من أطراف المعادلة: الانتماء للشعب الفلسطيني وقضيته من جهة، والانتماء إلى الأمة العربية وقضاياها من جهة أخرى. الجهة الثالثة التي تلعب في ملعب إعتبارات عرب الداخل هي إسرائيل وإنتماء عرب الداخل إليها كمواطنين يسعون لتحقيق المساواة والعدل، كأصحاب أصليين لهذه الأرض.
ما يحدث الآن هو أن هذه الحرب تنشب وقد مرّتْ أكثر من سنتين ونصف السنة على إندلاع الإنتفاضة الثانية. العرب في الداخل أبدوا موقفًا حاسمًا وحازمًا في التضامن مع هذه الانتفاضة، خاصةً بعد إجتياح المدن الفلسطينية. أحدهم أخبرني في زيارة قمت بها لمخيم جنين بعد تدميره بيومين، أن “عرب إسرائيل” أثبتوا أنهم إخوتنا حقًا وحقيقةً. ولكن هؤلاء الأخوة الحقيقيين متعبون من الحروبات والأزمات، وهم يرون المجازر الاسرائيلية في الضفة وغزة، ويرون أشلاء الجثث التي تتطاير في الحافلات الاسرائيلية. عرب الداخل اليوم منهكون من الدماء، ومنهكون من الاقتصاد الذي ينهار، لأنهم أول المتضررين كشريحة إجتماعية وإقتصادية. في مثل هذا الوضع السيء الذي يعيشونه، لا مكان للأبطال، ولا مكان إلا لكراهية أمريكا وما تمثّله، مع التسليم الضمني بسيطرتها على العالم. منذ يومين تتنقل في الانترنت وفي البريد الالكتروني لعرب الداخل رسالة تطلب من متلقيها أن يبيعوا الدولارات التي بحوزتهم، وأن يشتروا اليورو الأوروبي، لأن هذه هي الطريق الوحيدة للقضاء على “الوحش الأمريكي”.
حتى أن الوقفة الفرنسية والألمانية بالأساس ضد بوش وعصابته، تحظى ببعض التحفظ أيضًا، لأن الجميع يطلب منك: إبحث عن الدوافع. والدوافع ليست بحاجة إلى الكثير من البحث، فهي المصالح النفطية والاقتصادية. في جلبة هذا المعمعان من التشكيك في كل شيء، لا يرى عرب الداخل في فرنسا أو ألمانيا مخلصتين. قد يكون في هذا الكثير من الصحة، ولكن سيكون من الظلم بمكان عدم الانتباه إلى أن الفرنسيين ملّوا من أن يكونوا تابعين لأمريكا، وأنهم في قرارة نفوسهم يسعون إلى أيام نابليون المنصرمة. من ناحيتنا، الأمر يتلخص في مستعمر جديد. ولكن من ناحية العالم الاسلامي فإن هذه بشرى غير قليلة: فحين يتخاصم الأسود على الفريسة، تستطيع الفريسة أن تضمن نجاتها من النيوب البارزة، ولو إلى حين.
ومن نافل القول، إن السياسيين العرب والصحفيين والمحللين يتعاملون مع هذه الحرب الوشيكة كحرب إستعمارية جديدة. كما أن التيار الاسلامي يعتبرها حربًا على الاسلام. في كلتي الحالتين، يبرز بين عرب الداخل خطاب “اللا حرب” و”اللا أمريكا” بوضوج وجلاء. لن تجد أحدًا يهلل لضرب العراق أو صدام، كما فعل عدد لا بأس به في 1991، لأن تلك الحرب جاءت بعد إحتلال الكويت “الشقيق”. ومسألة تطبيق قرارات الأمم المتحدة، والقضاء على الشّر وعلى أسلحة الدمار الشامل، لا تلقى هنا أذنًا صاغية. منذ تلك الحرب في 1991 وحتى اليوم، تعلّم عرب الداخل ألا يتضامنوا مع صدام كقائد، وألا يبرروا الهجوم على الشعب العراقي في نفس الوقت.
حرب “صدام الثانية” هي حرب مركبة ومعقدة. لا يمكنك أن تبدي رأيًا في جريدة أو منتديات إنترنت أو في مقهى، من دون أن تتحفظ من شيء ما. هذا خلافًا للحرب في الضفة وغزة، واضحة المعالم والنهج. الأبيض والأسود الموجودان في الانتفاضة الفلسطينية، غير موجودين في هذه الحرب. ومسألة “مع من نحن”، تتلقى جوابًا واحدًا، فيه من التهرب وفيه من الصدق القدر المتساوي: نحن مع شعب العراق!
كما أن عرب الداخل هم في خط النار. أي سلاح كيماوي أو بيولوجي سيقع هنا –مع التذكير بالاحتمالات الواهية لحدوث ذلك- سيقع على الجميع. الريح التي ستحمل الجراثيم والغازات لن تميّز بين عربي ويهودي. هذا يجعل الأمر معقدًا أكثر، من ناحية عرب الداخل. لذلك، ترى العربي هنا يذهب إلى محطة تبديل الكمامات، ليحصل على الكمامات الجديدة التي من المفروض أن تحميه من الموت، فيما لو إذا، ويخرج حاملاً العلب الكرتونية وهو يشتم أمريكا وإسرائيل في آنٍ. ليس من السهل أبدًا التعايش مع هذه الازدواجية المتعبة. ربما يكون هذا السبب من وراء الفتور المعيّن الذي يسود الشارع العربي بشأن هذه الحرب. في المظاهرة التي أجريت ضد الحرب في تل أبيب، قبل حوالي الشهر، وتزامنت مع المظاهرات العالمية، لم يحضر سوى بضعة آلاف قليلة (التقدير يصبّ في إتجاه خمسة آلاف). وهذا أمر عجيب إلى أبعد الحدود: في البقعة الأكثر سخونة في العالم، والتي تُعد طرفًا في الحرب، لا يخرج سوى خمسة آلاف متظاهر. وحتى لو افترضنا أن اليهود كلهم مع الحرب (وهذا ليس صحيحًا)، فأين العرب؟.. أين المليون عربي ليخرجوا إلى الشوارع ويهتفوا ضد قصف أخوتهم العراقيين؟..
لست في معرض التقريظ وإلقاء اللوم على العرب الفلسطينيين في إسرائيل. أنا ببساطة أحاول حصر بعض الأمور الهامة التي رافقت حياتنا هنا في الشهرين الأخيرين. وتعالوا لا ننسى أن العرب في الداخل هم جزء لا يتجزأ من “القرية الكونية” التلفزيونية التي نحيا بها. البائع العربي في البقالة المجاورة لمسكني في حيفا، عرض عليّ بفخر واعتزاز ما يمكن أن يلتقطه صحنه الفضائي الجديد من قنوات: أكثر من 800 قناة عربية وأجنبية، شدّدَ بفخر!.. “يمكنني أن أتنقّل بين ‘الجزيرة‘ و‘أبو ظبي‘ و‘العربية‘ الجديدة وغيرها بكبسة زر. هكذا أضمن أنني في الصورة على الدوام”.
عرب الداخل هم في الصورة، لأنهم يعيشون في إسرائيل، وما يضيرها قد يضيرهم (تبًا لهذه المعادلة!!). ولكن الصورة الوحيدة التي لم يدخلوا فيها حتى الآن، ويبدو أنهم لن يدخلوها أبدًا، هي صورة الفرحة العارمة التي تكتسح “شعب إسرائيل” لمناسبة الهجوم القريب على العراق. عرب الداخل لا يمكنهم أن يكونوا جزءًا من هذه الصورة. فأمريكا التي تقصف العراق، هي نفسها أمريكا التي تزود إسرائيل بأسلحة القتل في الضفة والقطاع. وفي حالة العجز العربي العام، تتحول الـ 600 كيلومتر التي بين العراق والضفة، إلى ثلاثة أمتار بين شاشة التلفاز وبين المتحكم عن بعد، في صالوناتنا الرقمية!
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في آذار 2003)