طعام سيئ
علاء حليحل
حدثتني صديقة ليلة أمس، بعد بثّ الأفلام الانتخابية ضمن الدعايات الحزبية، في القنوات التلفزيونية الاسرائيلية الثلاث (1، 2، 10)، فقالت: “كانت جدتي تقول لي دائمًا إنه إذا ذهبتِ إلى مطعمٍ واشتريتِ طعامًا واكتشفتِ أن الطعام سيء، فلا تأكليه. ألا يكفي أنك دفعتِ ثمنه؟”. بمعنى: ألا يكفي أنه لا يوجد أمن ولا سلام ولا اقتصاد ولا أبسط المكونات لحياة محتملة، ليضطر الاسرائيليون أيضًا لرؤية الدعايات الحزبية، لرؤية السياسيين يحاولون أن يلقّنوهم درسًا في السياسة والاجتماع، ببطء وبتشديد على مخارج الأحرف، كأن المشاهدين أطفال في الروضة ما زالوا لا يعرفون التمييز بين “شارون” وبين “عُمري شارون”…
الناس ملّت من هذه الأفلام القصيرة المتتالية. أمس الأول، في الليلة الأولى لبثّ الدعايات الحزبية، شاهدها نصف العدد الذي شاهدها في العام 1999. أصلاً، الأحزاب تقول إنها توجه الدعاية المتلفزة (وغير المتلفزة) للمترددين، للأصوات “العائمة” (هل الذي يعرف لمن سيصوت هو غريق؟). فلماذا إذًا على الجميع أن يشاهدها بدلا من مشاهدة “فسفوسيم” أو دودو طوباز. الاسرائيليون يريدون دودو طوباز لأن طوباز يبيعهم الأحلام والأوهام دون أن يتستر بستار الفعل والتنفيذ. شعب إسرائيل يبحث عن الأوهام، خاصةً اليوم، والافلام الدعائية القصيرة توفر لهم بعضًا من هذه الأوهام. المشكلة أن هذه الأفلام تتعامل مع نفسها بجديّة مفرطة، تجعل المشاهد يسخر ممن صنعها وممن سيصدقها.
“ميرتس” مثلا تخلت قليلا عن الجدية المفرطة، فأنتجت أفضل دعاية إنتخابية ليلة أمس، بحسب رأيي. في دعاية “ميرتس” هناك رجل إسرائيلي في منتصف العمر يدقّون رأسه بالحائط: بطالة، دماء، حرب… وبعد كل ضربة في الحائط يطلب: “المزيد”. “ميرتس” تود أن تقول للاسرائيلي المتوسط إنه تحول إلى مازوخي من دون أن يعي ذلك. الأحزاب الكبرى تضرب رأسه بالحائط وهو يطلب المزيد. “كمان!” بلغتنا الدارجة، “كمان” يصيح الاسرائيلي المتألم. و”ميرتس” تريد أن تخلصه مما هو فيه. كيف؟.. لا يهم.
في كل الدعايات التي كانت أمس، “كلهم أنذال وسيئون إلا نحن”. لم ينتقد أحدٌ نفسَه إلا يوسي بيلين، في فيلم انتخابي آخر لـ “ميرتس”. بيلين قال إنه كانت هناك بعض الأخطاء في أوسلو، أنهم لم يحلوا كل شيء في الاتفاق، أنهم لم يعينوا طرفًا ثالثًا لفضّ الخلافات. ولكنه قال للمشاهد إنه انضم إلى “ميرتس” لأن “ميرتس” هي الوحيدة التي ما زلت تعطي الأمل وتسعى وراءه. من الطبيعي أن يرى بيلين (الذي قذف به مركز “العمل” إلى الجحيم) في “ميرتس” الأمل الوحيد. ليس في السلام، ولكن في دخول الكنيست!
بكأس الدعاية الأسوأ لليلة أمس، فازت بدون منازع قائمة “التحالف الوطني” برئاسة هاشم محاميد. فليعذرني “أبو إياد”، ولكن هل هذا ما بوسعه أن ينتجه للمنتخِبين بعد عشرات السنوات في معترك السياسة والاعلام؟.. فيلم “التحالف” الانتخابي هو قمة الانتاج الهاوي، السطحي، غير المهني. التصوير تحت المستوى، النص مغلق وتحت العادي، الشعارات مملة ومجترة، النص الذي قاله “محبو” هاشم محاميد من الشارع هو نص غير جذاب ولا يشجع المشاهد العربي على الاستماع لما يقولونه. الفيلم الانتخابي شدّد على أن محاميد هو مع الشعب دائمًا حتى في أحداث أكتوبر. لماذا إذًا بثّوا مقطعًا في مفترق طرق أثناء الاحداث، ليس فيه إلا محاميد وشاب واحد يقف بدون أي هدف؟.. ألم يجدوا له مقطعًا والاحداث ملتهبة؟..
أفيغدور ليبرمان كان يلعب البينغ بونغ في بيته، مع إبنه على الأغلب. يرون الشخص من وراء السياسي. أحدهم قال عنه إنه “إنسان قبل أن يكون سياسيًا”. لكن أحدًا لم يقل ما إذا ظلّ إنسانًا بعد أن أصبح سياسيًا!
حزب “العمل” خلع الأكف الحريرية وبدأ بهجوم ناري وحاد على شارون وقضية (قضيات) الرشاوى التي تندلع مرةً في الأسبوع. “العمل” قالوا إن شارون قال طيلة الوقت إنه لم يعرف شيئًا، عن أي شيء. “العمل” تركزوا في إبنيْ شارون، عُمري وغلعاد، وقالوا إن شارون هو “العرّاب” (الفيلم المشهور) رجل المافيا، وهو يدير الدولة من خلال العائلة. في الحلقة القادمة: “من سيربح المليون؟”.
“شاس” وجدت من المناسب أن تتركز في التهجم على الهجرة من الاتحاد السوفييتي سابقًا. منذ أن أتوا، قالت “شاس”، كثرت الكنائس المسيحية وازداد عدد الخنازير وصار العديد من اليهود يتعمدون في طبريا على أيدي المهاجرين المسيحيين. “شاس” تريد أن تبقى إسرائيل دولة يهودية، ولذلك فهي تحذر من النية لجلب مليون آخر منهم! ميخائيل كلاينر وأيبي أيتام وأغودات يسرائيل- كلهم يريدون أن تبقى إسرائيل دولة يهودية. البعض يخاف من الروس المسيحيين، البعض يخاف من الفلسطينيين الذين يتكاثرون “بكثرة” والبعض الآخر يخاف من ذوبان القيم والتراث اليهوديين. كان من الممتع وأنا أشاهد هذه الأفلام الانتخابية أن أطمئن إلى أنني لست العدو الوحيد لدولة اليهود. على العكس تمامًا: في الدعايات الانتخابية القادمة سنسمع الراف عوفاديا يوسيف يطالب بتجنيد العرب للخدمة الوطنية، ليطاردوا الروس المسيحيين ويلقوا بهم خارج البلاد، كما يفعلون مع العمال الأجانب اليوم.
حاليًا، كلاينر يرغب بطرد الفلسطينيين وتشجيعهم على الهجرة، من منطلق “إما نحن وإما هم”. على المدى البعيد قد تكون هذه المقولة صحيحة. ولكنني لا أريد أبدًا أن أكون لحظتها في مركب كلاينر!!
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في آب 2003)