صمت “المرايا” من ذهب
علاء حليحل
تلومني زوجتي (العزيزة طبعًا) على الدوام لأنني قليلُ الكلام، مُستزيدٌ للصمتِ. حتى أنّ جملة طويلة مني، أو مبادرةً لفتح موضوع هما مناسبة لديها للتطبيل والتهليل، وكيْل الاستعجاب والاستفظاع للحدث النادر أشدّ الندرة، المشتهى أشدّ اشتهاء.
وفي أكثر من مرة تناقشتُ أنا ونفسي حول من الصادق: أهي أم أنا؟ الصمت أم الكلام؛ أم أنّ الجواب دائمًا في الوسط، كما تعودنا دائمًا أن نكون “وسطيين”، تيمنًا بالحديث النبوي “خير الأمور الوسط”- حتى صرنا شعبًا وسطيًا (في معظمنا)، لا “فاكهة فينا ولا مازية”- كقول أبي عنتر السّوري؟
فالوسطية عدوة التميّز والتفرّد- حتى لو قاد الأخيران إلى التطرف أحيانًا، وإلى الفشل أحيانًا أخرى. فالوسطية هي “الرأس الصغيرة” وهي “حُط راسك بين الروس” وهي “حامل السلم بالعرض”- تُقال تقريظًا ضد من يشهر سلاحه (أو قلمه أو لسانه) ضد الوسطية وضد “التلميّة” (من تلم) وضد الإعجاب بكل من “مشى الحيط الحيط وطلب السترة” واستراح.
ومسرحية “مرايا” الصامتة، إنتاج مسرح المغار الجديد، لا تمشي الحيط الحيط، وهي بالتأكيد لا تتوخى “السُترة”. فمسرحية من دون كلام أو حوارات تبدو للبعض ضربًا من ضروب عبث “المثقفين” أو تسلية برجوازية للشبعين (والنهمين) من صفوة القوم؛ أو أنها تبدو حتى مضيعةً للوقت والجهود وخسارةً على الموارد وثمن البنزين يُصرف للذهاب إلى مشاهدة المسرحية، والعودة منها. فالوسطيون سيقولون بالتأكيد: “أي إحنا على مسرح ناطق مش عارفين نجيب الناس، بدنا نجيبهن على مسرح صامت”؟
“مرايا” هي مسرحية تروي قصة ثلاثة شخوص (لنا زريق، ربيع خوري ورنين بشارات) يحاولون، كلٌ بدوره وقدراته وطريقته، الخروج من “حلقة” ما، تبدو لكل مشاهد ما يراه بعينيه الخاصتين. ففي تفسير هذه المسرحية التجريدية مكان كبير لاجتهاد المشاهد- وهذا أمرٌ غاية في الحُسن والجودة، وهو السبب الذي يمنعني من محاولة سرد “قصة” ما لهذه المسرحية. وهنا بالذات الحيّزُ لاقتباس ما كتبه صناع المسرحية عن المسرحية: “… ومن هنا فهي مسرحية جديدة في فضائنا الثقافي. شخوص تؤدي اللعبة المسرحية على الحدود الواصلة بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، المحلي والكوني”. إختاروا أنتم أيّ حيز يلائمكم وهاكم مسرحية لا نهائية الأبعاد، فضفاضة الرؤية والرؤيا.
وفي المراوحة بين الكلام والصمت تكمن المشكلة. فكما في الجدال المحتدم (في خُلدي) بيني وبين زوجتي (العزيزة، طبعًا)، أميل إلى الحسم لصالح “مرايا” ضد أغلبية مسرحنا “الناطق” الراهن. فعندما يثقل الكلام وتصبح الحوارات غمغمة غير مجدية، يصحّ الصمت. حين يصمت ثلاثة ممثلين لأكثر من ساعة ويستعيضون عن الكلام بالحركة والحوار الجسدي والإحالات التعبيرية- عندها نتيقّن كم كنا غارقين في يمّ الكلام واللغط والتبجح “الفني”، وكم كنا بعيدين عن الحقيقة المذهلة الساطعة الشهية: “إحنا مش عارفين نجيب الناس على مسرح ناطق لإننا مش عارفين ننطق”!
فعندما يفقد الممثل قدرة النطق، بأمرٍ من الكاتب (أنطوان شلحت) والمخرج (أكرم خوري)، فإنه يواجه أصعب امتحان في حياته: فهذه هي الفرصة الألمع لكي يستعيد الممثل ما تعلمه في درس الحركة وفي درس البنتوميما وفي درس الأغراض المرافقة وفي درس الحركة التعبيرية وفي دروس أخرى لا علاقة لها بالنطق. في هذه الفرصة النادرة على الممثل أن يتجشم غمار التجربة من دون سلاح رئيسي، أو “السلاح الرئيسي”، الذي يحارب به ممثلونا اليوم على خشباتنا المتصدعة جمودًا. وقد مرّ الممثلون بهذا الامتحان العصيب- بدرجات متفاوتة طبعًا.
ولأنّ الممثلة لنا زريق ذات باعٍ وخبرة أكبريْن في الرقص التعبيري والحركة الجسدية، فإنها برزت أكثر من زميلها وزميلتها في قوة أدائها وتفرغها لمنح المشاهد ما يلزمه من الفطنة و”الدهاء المسرحي التعبيري”، بعيدًا عن الجهود التي كانت تُبذل في بعض الأحيان لتجاوز مهمة “الصمود” على الخشبة في امتحان الحركة واللياقة البدنية.
وإذا كانت هذه التجربة تجربة خاصة ومتفرّدة في مسرحنا، فيجب التطلع إليها من باب التشجيع والاستحسان لسببين: المُنجز الفني والتقني؛ والسبب الثاني: التمهيد لأعمال أخرى كهذه.
وبدءًا بالجانب الفني التقني يُشار بدايةً إلى شجاعة مسرح المغار بإدارة عدنان طرابشة في إنتاج مثل هذا العمل، ويبدو أن مسرحًا بعيدًا عن ضجيج التنافسات والتناحرات المسرحية التي تدور رحاها في محور حيفا- الناصرة، فقط، هو المسرح القادر حقًا على كسر قوانين اللعبة ووضع أجندة فنية جديرة، تُخرج المشاهِد والممثل من أزقة البلادة والجمود، وتحيُّن الفرص لقنص هذا أو ذاك، على مذبح “الأنا” المتضخم بورم سرطاني خبيث، عند غالبية الممثلين أو المخرجين.
ولا مجال أبدًا لاستسهال هذه التجربة، كتابةً وإخراجًا. وسيكون من المثير حقًا محاورة الكاتب أنطوان شلحت حول التقنية التي كتب بها هذه المسرحية، ومدى ضلوعه في تصميم الحركات وضبط الإيقاعات، وحجم تدخله في المنتوج النهائي على الخشبة. فالذي يطرق الكتابة المسرحية -والدرامية- يعرف حجم الصعوبة الكامن في مثل هذا النوع من التأليف. ويعرف أيضًا صعوبة بناء دراما جيدة تنطلق من تعابير وصفية ليس إلا، تاركة التفسير والاجتهاد للمخرج والممثل.
كما أن المخرج في هذا العمل، أكرم خوري، لم يؤلُ جهدًا في إعطاء تفسيرات للحالات والمواقف التي وضعها الكاتب في نصه (العصيّ، أكاد أقول)، وفي محاولة (ناجحة في غالبيتها) لخلق “فضاء مسرحي” صامت، لا يعتمد على الدراما الفميّة، متخليًا بذلك عن 80% من الأدوات المتاحة لدى كل مخرج، في أي عمل مسرحي. فالمسرح الصامت ليس بدعة محلية؛ على العكس تمامًا: المسرح الصامت هو أكثر أنواع المسرح كونية وشمولية. وإذا كان كتاب السينما (الجيدون) يحاولون دائمًا الاقلال من الحوارات وتغليب الحدث “الآكشن” عليها، فإنّ كتاب المسرح لم يتعلموا هذه الخدعة بعد. عندنا على الأقل. من هنا أهمية نبذ الوسطية في هذه التجربة والذهاب بعيدًا وعميقًا في الفكرة؛ فلو اختار المؤلف تضمين المسرحية ببعض الحوارات “الرمزية” لكانت أضعفت المسرحية أيّما إضعاف. وهنا بالذات نجاح هذا العمل، وأيضًا، في ترك مساحة “الصوت” لموسيقى بشارة الخل المتقنة والرشيقة والحوارية، بإصرار مسبق يأتي لتثبيت حوار أممي شامل يفهمه الجميع (الموسيقى).
ومن حسن حظ الممثلين أنهم ممثلون جُدد، تخرجوا قبل سنة أو اثنتين على الأكثر. فهم لم يُطحنوا بعد في ماكنة التأليف (والترجمة على الأغلب) والاخراج المحلييْن ولم يتحولوا (بعد) إلى جنود “صامتين” على رقعة الشطرنج المسرحية المحلية؛ فكان باستطاعتهم إذًا أن يستوعبوا ماهية العمل وأن يتعاملوا معه بحرية شبه مطلقة. وهنا المكان للتطرق إلى لعبة الجسد على الخشبة، ودور الأيروسية في مثل هذه الأعمال؛ وسأكتفي بالتحسر على الأيروسية المفقودة في هذه المسرحية، لأنّ هذه التجربة هي الأولى من نوعها وهي طلائعية تتدثر بغطاء الجديد وستار مقدامية البتول.
ولكن هذا لا يعني أنّ على التجربة القادمة أن تتجاهل التوتر الحاصل على الخشبة بين أجساد فواحة معطاءة، أكسامها مكشوفة وتفاصيلها حاضرة طاغية. فإن لم تكن مثل هذه الأعمال حلبة شرعية لمثل هذه الصراعات الأيروسية (التي تدور حياتنا اليومية حولها)- فأين إذًا؟؟
“مرايا” هي مسرحية ممتعة، وهي امتحان عصيب للمشاهد المسرحي المحلي في قدرته على نبذ المتداول وفتح عينيه وأذنيه على وسعيهما، لتلقي ما حضّره لنا طاقم المسرحية من مفاجآت وتحديات لبلادتنا الذهنية، المسؤول عنها وبشكل قاطع مسرحنا المحلي.
(نشرت هذه المادة في موقع ’عرب48’’ بتاريخ 11 تشرين الثاني 2004)