خارج الشرعية، خارج السياق (1)
سلسلة قراءات في الأبواب المتعلقة بالمُحذّرين العرب ولجنة المتابعة في تقرير “لجنة أور”
توطئة
فاخر عدد من الوزراء الاسرائيليين في الأيام القليلة الماضية، وبعد نشر تقرير لجنة التحقيق الرسمية “لفحص الصدامات بين قوات الأمن وبين مواطنين إسرائيليين في أكتوبر 2000″، بأن إسرائيل تندرج ضمن قائمة قليلة من الدول “المتنورة” في العالم، التي تملك آلية “لجان التحقيق الرسمية”، الآلية التي تثبت من غير تأتأة عِظَم الديمقراطية الاسرائيلية وتنوّرها. في هذه السلسلة من القراءات محاولة لفحص هذا الادعاء وسبر لأغوار وبواطن المنطق الذي سيّر عمل اللجنة في تعاملها مع العرب كأقلية من جهة، ومع قيادتها من جهة أخرى.
منذ البداية أنوّه إلى أن هذه القراءات لا تهدف بالضرورة للتهجم على اللجنة وعملها، وإنما تهدف بالأساس إلى تبيان دوافع عملها وتوجهاتها تجاه العرب، على الرغم من أن تطرقها المسهب إلى العرب، الضحية، كمتهمين في أحداث “أكتوبر 2000″، يضع اللجنة في موقف محرج للغاية من ناحية التخويل القضائي الذي حصلت عليه في كتاب التعيين. فكتاب التعيين يحدد عمل اللجنة بما يلي: ” على اللجنة أن تحقق في حيثيات تسلسل الأحداث وأن تتوصل إلى نتائج وأن تستخلص الاستنتاجات بشأن ما وقع فيها، وبشأن العوامل التي أدت إلى حدوثها أيضًا، ومن ضمن ذلك، تصرف المحرضين والمنظمين والمشاركين في الأحداث من كل الأوساط، وقوات الأمن؛” (1) من هنا بدأت الخطيئة الأصلية. فليس من مهمة لجان التحقيق الرسمية إلا التحقيق في عمل السلطة التنفيذية وأذرعها. المنتخبون والمتظاهرون ليسوا موضع تحقيق في عمل لجان التحقيق. وبالتالي، فإن رسائل التحذير التي أصدرتها اللجنة للنائبين د. عزمي بشارة وعبد المالك دهامشة وللشيخ رائد صلاح هي رسائل “غير شرعية”، قانونيًا وجماهيريًا. في هذا الموضوع قدم مركز “عدالة” إلتماسًا إلى المحكمة العليا لإلغاء هذه الرسائل، إلا أن الالتماس رُفض في قرار إمتد على صفحة ونصف الصفحة فقط! وقد جاء في طلب إلغاء الرسائل الذي سبق الالتماس والذي قدمه “عدالة” للّجنة ما يلي: “… من المفروض أن تقوم اللجنة كما هو معروف بفحص أعمال السلطة التنفيذية والتحقيق فيها بشأن عمل أو قصور من قبلها، تسبب بعدم الثقة بها من قبل الجمهور. التسويغ الأساسي لذلك هو الحفاظ على مبدأ فصل السلطات. في نهاية التوجه، طلب الموقع أدناه من رئيس الحكومة تغيير التفويض من أجل ملاءمته من الناحية القانونية الى مهمة لجنة التحقيق الرسمية.” (2)
وبما أن كتاب التفويض لم يتغيّر، تبدو الآن نتائج التقرير وتطرقه إلى المُحذرين العرب والمتظاهرين العرب أشبه ما يكون بتسجيلات لموت معلن سلفًا. في القراءة الأولى هنا تطرُق إلى ما ورد في التقرير عن النائب د. عزمي بشارة. في القراءات الآتية سيتم التطرق إلى ما ورد عن: الشيخ رائد صلاح، النائب عبد المالك دهامشة، لجنة المتابعة والاستعراض التاريخي الذي ثبتته اللجنة في محاولاتها لاستعراض “التصعيد والتطرف” في المجتمع العربي منذ يوم الأرض في 1976 وحتى أكتوبر 2000.
خارج السياق
لعل أكثر الأمور دلالة للبدء بها في هذا الاستعراض هو الجملة الفاتحة للمقطع الذي يختتم الفقرة 157، والملاحظة التي أوردتها اللجنة على هذه الجملة(3). الجملة تقول: “يّذكر، أن تصريحات قياديي “التجمع” في هذا الموضوع والتي قيلت في الإعتصام السياسي الذي نظمه “التجمع” في 23-6-2000، أقتبست في “فصل المقال”. 211″ وماذا تقول الملاحظة رقم 211 في أسفل الصفحة؟ تقول كالتالي: “من المثير للاهتمام القول إن أقوالا مشابهة أقتبست من منشور أصدرته “حماس” في المناطق (المحتلة) في أعقاب إنسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان. وورد في عنوان المنشور “اليوم لبنان- غدًا فلسطين”. وإستمرارًا كُتب أن “النصر يثبت أن لا طريق أخرى للنصر غير طريق الجهاد والتضحية والكفاح الدموي. هذا هو الدرس الذي يجب أن يتعلمه شعبنا الفلسطيني وعليه أن يسير في نفس الطريق.” (4)
القارئ لما كتب أعلاه يستنتج بالضرورة أن “التجمع” و”حماس” يعملان سوية وينسقان بينهما المناشير والبيانات. اللجنة، في هذا الموضع وفي مواضع أخرى، تتعامل مع بشارة و”التجمع” وكأن كل ما يُقال ويُفعل خارج عن أي سياق، خارج عن أية علاقة بالواقع، خارج عن أية حيثيات وظروف تتطور يوميًا وتحظى بردود من مختلف القوى السياسية، محليًا، قطريًا وعالميًا. فانسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوب اللبناني تطبيقًا للمهلة التي ضربها أيهود براك آنذاك، أتى على خلفية خلافات ونقاشات داخل المجتمع الاسرائيلي اليهودي. وكان من بين الآراء وقتها من تحدث عن الموت سدىً وعن أن إسرائيل لا تفهم إلا بالقوة وعن أنه لا يمكن الانتصار على حرب صعبة كالتي أدارها “حزب الله” ضد إسرائيل. تمامًا مثلما قال بشارة و”التجمع” وقياديون عرب آخرون. ما فعلته اللجنة في هذا السياق هو أمر بسيط للغاية، ولكنه غاية في الديماغوغية: بشارة يهلل ويكبر لـ “حزب الله” ويشمت بإسرائيل، لأنه عدو إسرائيل، وليس لأنه جزء شرعي وفعال ومؤثر في مجمل الخطابات السياسية المختلفة داخل إسرائيل وخارجها. وإذا لم تصدقوا فهاكم الدليل: “حماس” توافقه على ذلك!!
“التجمع” في الأحداث
من أجل إثبات العنصر التحريضي المُدّعى على بشارة و”التجمع” أورد التقرير أمثلة لأحداث سبقت “أكتوبر 2000″ ودور بشارة و”التجمع” فيها. هذه الأحداث هي(5): المبادرة لنشاطات إحتجاجية ضد هدم البيوت (أبرزها: اللد وأم السحالي)؛ مظاهرة “عيد الاستقلال” في شفاعمرو؛ مظاهرات وإعتصامات إحتجاجية في 30-9-2000؛ ونهاية، والأهم، تواجد قيادة “التجمع” وبشارة في كل مكان، أثناء أحداث أكتوبر، وبحسب إعتراف بشارة نفسه! اللجنة ترى في هذه الأمثلة برهانًا على دور بشارة و”التجمع” التحريضي والتصعيدي، أو كما كتبت: “يتضح من الأدلة أن “التجمع” رأى من واجبه “شحن” الجماهير عن طريق دعوة متكررة للنضال”(6) ولتدعيم هذا الادعاء أورد التقرير إقتباسًا لعوض عبد الفتاح، سكرتير “التجمع”: “شهد سكرتير “التجمع” في مداولات لجنة التحقيق بأن “التجمع” يرى من واجبه ومن حقه دعوة الجمهور إلى الكفاح؛ وهو يقول إن هذا تحريص أيجابي، مع أنه يعرف أن الأمور تخرج عن السيطرة في بعض الأحيان”.(7)
كما في أي حزب في العالم، وهنا، إبتداءً من “الليكود” وانتهاءً بحزب بنينا روزنبلوم، فإن من واجب “التجمع” شحن الجماهير طيلة الوقت. أعتقد أن اللجنة نسيت أننا نحيا في دولة ديمقراطية، تستند إلى التعددية الحزبية، التي تستند هي بدورها إلى الدعوة للتغيير، للكفاح، للمطالبة بالحقوق وبالصبوة إلى التأثير. إذا كانت نزعة “التجمع” لشحن الجماهير للمطالبة بحقوقها، مثل أي حزب آخر فاعل في الوسط العربي وغيره، مستهجنة في نظر اللجنة، فعلى إسرائيل أن تعيد حساباتها في نوع الديمقراطية التي تريدها. مرة أخرى يُقتبس “التجمع” وقياديوه خارج أي سياق وخارج أية ظروف وخارج أي منطق. وللتدعيم، كما أسلف، أوردت اللجنة في نهاية الفقرة ما قاله عبد الفتاح. وإذا كان عبد الفتاح إستخدم مصطلح “التحريض الأيجابي” معطيًا اللجنة بذلك طرف خيط للتلويح به أمام نوايا “التجمع”، فإنه كان من المفروض على اللجنة أن تكون حذرةً جدًا في التعرض لهذا المصطلح. فهي، اللجنة، في تقريرها، تستند بشكل مطلق في توصياتها إلى التحريض الأيجابي (فيما يخص الشرطة والوسط العربي). من يقرر إذا كان تحريض اللجنة الأيجابي أفضل وأكثر شرعية من تحريض عبد الفتاح الأيجابي؟ الذي يقرر بالطبع هو من يملك كتاب تعيين من الحكومة!
إحذروا الأسرى
برهان آخر تورده اللجنة لتدعيم توجهها نحو “خطورة” تصريحات بشارة و”التجمع” هو قضية الأسرى السياسيين (أو الأمنيين). ففي التقرير إقتباس لبشارة يقول عنهم إنهم “.. رمز للبطولة في موروث الكفاح الوطني”.(8) واللجنة تعقب على الفور: “في هذه الأقوال ما يضع الأسرى الأمنيين موضع القدوة للجيل الشاب”. مرة أخرى: خارج أي سياق، خارج أية موضوعية، خارج أي تعقيد للواقع الذي نحياه. الأسرى السياسيون هم جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية ومن حياة الفلسطينيين في فلسطين، وهنا في الداخل. لا يمكن الحديث عن معركة للمساواة أو للحفاظ على الأراضي أو للدفاع عن البيت من دون الحديث عن نتائج مثل هذه المعارك. من المؤسف أن تنتهج اللجنة نهج المعلقين العسكريين في الصحف العبرية الذين يحبون دائمًا تذكيرنا بأن الأسرى السياسيين هم قتلة لا غير. أي أنهم ليسوا جزءًا من سيرورة تاريخية وسياسية ونضالية ضاربة الجذور وعميقة الحضور. كان على اللجنة أن تطور هذه النقطة إلى حيثياتها المطلوبة وأن ترى إلى السجناء السياسيين نتيجة مؤلمة للاحتلال وعدم المساواة والرغبة في كبت الفلسطينيين أينما كانوا. كان من المتوقع من اللجنة أن ترقى إلى هذا المستوى من التعامل ولكنها على ما يبدو إرتكنت إلى ما تقرؤه في الصحف العبرية السطحية.
إنتفاضة أم هبة؟
يبدو الآن أن الاستحواذ الذي سيطر على اللجنة، في تطرقها لما إذا كان بشارة وصف أحداث “أكتوبر 2000” على أنها إنتفاضة (شعبية) أم لا، ومن خلال القراءة في التقرير، يبدو محاكمة ميدانية الحُكم الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنها هو الإدانة مع سابق الإصرار والترصد. ففي محاولة “لمحاصرة” بشارة وتثبيت التهمة عليه، تورد اللجنة عدة إقتباسات في أماكن وسياقات عدة تثبت أن بشارة وصف أحداث “أكتوبر 2000” بأنها “إنتفاضة شعبية”. المثال الأول الذي تورده هو من تاريخ 10-7-1998 بالذات، في تطرقه في إجتماع للجنة المتابعة، لأحداث “الروحة”.(9) ألا يمكن التعامل مع هذا الاقتباس، في حالة صحته، بما يليق من عدم الاستخفاف بعقولنا؟ أليست أحداث الروحة إنتفاضة شعبية حقيقةً؟ ألم يخرج المسنون والشباب للدفاع عن مصادرة أراضٍ من دون دعوة أحد ومن دون تحريض أحد؟ ألم يواجهوا قوات الأمن بأيديهم الفارغة وصدورهم المكشوفة؟ هذه إنتفاضة شعبية مئة بالمئة! ولكن لماذا تورد اللجنة هذا الاقتباس الذي سبق “أكتوبر 2000” بسنتين لكي تثبت أن بشارة إستخدم المصطلح في أكتوبر 2000؟ أعتقد أن هذا جاء من باب الانشغال بالصغائر وبمحاولة تدعيم إدعاءات لم تكن لتبدو منطقية لولا مثل هذه الأحابيل.
لا للعنف؟
لجنة أور كتبت أن “مجرد كيل المديح من جانب بشارة على أحداث إحتجاجية وقعت فيها أعمال عنف، يُشتق من ذلك دعم هذا النوع من النشاطات”.(10) وأضافت إقتباسات لبشارة عن رؤيته الأيجابية لأحداث الروحة وأم السحالي وإرتباطها بيوم الأرض. هل الدعوة إلى مواجهة هدم بيت أو مصادرة أرض، عن طريق التواجد الجسماني في المنطقة، تعني بالضرورة الدعوة لـ “إطبح اليهود!”؟ في هذا تسطيح وتَبَنٍ للمنظور الضيق في حصر السبب والمسبب في خانة الخط الوحيد الأعمى الأصم الذي يربط بين نقطتين؛ بمعنى: رؤية بشارة الأيجابية هي دعوة للضرب والتكسير. نقطة. لا يهم ما الذي تشعر به العائلات التي هدمت بيوتها، لا يهم ما يحسّه أصحاب الأراضي التي سلبت، لا يعني أحدًا ما يختلج في صدور المتظاهرين الآتين من قرى ومدن منكوبة؛ ما يهم هو ما قاله بشارة أو غيره في ذاك الإجتماع أو تلك الصحيفة. لماذا؟ لأن اللجنة تبحث عن الموازنة. تبحث عن ملاذ من المأزق الذي وقعت فيه، في محاولتها الواهية على طول التقرير المساواة بين الضحية والجلاد.
لائحة إتهام
الأمثلة في الباب المخصص للنائب بشارة كثيرة ويمكن الاسهاب فيها، ولكنها تندرج تحت باب واحد رئيسي: لائحة إتهام مجحفة وخطيرة. فإذا كان بشارة يُحاكم اليوم بسبب تصريحاته السياسية ومواقفه المعلنة، فإن اللجنة أتت لتزود المحكمة والرأي العام الاسرائيلي بذخيرة من الرصاص الحي (مع أنها أوصت بمنع إستعماله). لا يمكن لأي قاضٍ في العالم أن يتجاهل تقرير لجنة رسمية في بتّه في موضوع يتعلق بهذا التقرير. القضاة ليسوا قديسين أو ماكنات جامدة تدخل إليها المعطيات لتصدر النتيجة. صحيح أنهم أكثر الناس أهلية للنظر في الأمور بموضوعية وحياد، ولكنهم خاضعون مثلنا كلنا لاعتبارات سياسية وأخرى تسيطر عليهم أحيانًا.
التقرير موضوع الحديث هو أكبر مثال. فمن جهة يورد التقرير لوائح إتهام قاسية ضد المحذرين العرب، ولكنها لا توصي ضدهم أية توصية لأنهم “منتخبو جمهور”. بمعنى: نحن جهزنا لكم الأرضية وما عليكم سوى الإجهاز على المطلوبين. من المهم جدًا ذكر هذه الأمور والتشديد عليها يوميًا لكي لا ننسى. فبعد قليل من الزمن ستندلع المعارك الانتخابية المحلية، وستنهمر الميزانيات بحكم توصيات اللجنة، وسنجد الكثيرين يرطنون بأيجابية التقرير وإنصافه للوسط العربي. في خضم كل ذلك يجب الا ننسى أن هذا التقرير دقّ واحدًا من المسامير الأخيرة في نعش شرعية القيادة العربية. إنتظروا وسترون كيف ستتعامل المحكمة العليا مع ما ورد في التقرير عندما تنظر ثانية في قرار لجنة الكنيست شطب “التجمع” في الانتخابات القادمة!
(يتبع)
(نشرت هذه المادة في “فصل المقال، نيسان 2003)
ملاحظات:
القرار الحكومي رقم 2490 الصادر بتاريخ 8-11-2000.
“دفاتر عدالة”، العدد الثالث، “القانون والعنف”، ص 104.
تقرير “لجنة أور”، المجلد الثاني، الصفحة 527.
نفس المصدر، الملاحظة رقم 211.
نفس المصدر، الصفحة 521.
نفس المصدر، الصفحة 522.
نفس المصدر، الصفحة 522.
نفس المصدر، الصفحة 522- 523.
نفس المصدر، الصفحة 523.
نفس المصدر، الصفحة 523.