حلم السلتيّ: الكابوس الكولونياليّ
تنضمّ رواية “حلم السلتي” للكاتب البيرواني ماريو بارغاس يوسا إلى الإبداعات الأدبيّة والسينمائية الغربية التي عالجت موضوعة الكولونياليّة الأوروبيّة في أفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، والجرائم التي اقترفها الرجل الأبيض في سعيه المحموم إلى خيرات البلاد المستعمرة تحت غطاء التبشيرات الدينيّة المسيحيّة ونشر “الثقافة والوعي” لدى الأصلانيّين “المتخلّفين”. وتتركّز الرواية في شخصيّة الإيرلنديّ السير روجر كيسمنت، وهو الدبلوماسيّ الذي عمل في خدمة التاج البريطاني سنوات طويلة، وزار الكونجو وبيرو وأنجز تقريريْن كبيريْن شكّلا مدماكًا مركزيًّا آنذاك في توعية المجتمع الغربيّ بما يدور في الساحة الخلفيّة السوداء في العالم.
زار كيسمنت الكونجو برفقة الكاتب البولندي-البريطانيّ جوزيف كونراد، الذي كتب بدوره روايته الخالدة “قلب الظلام” والتي شكّلت مصدر الوحي والاقتباس للشريط السينمائي الرائع “أبوكاليبس الآن” للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، إذ نقل كوبولا حبكة الضابط الذي يخرج للبحث عن ضابط آخر “ضاع” في أدغال أفريقيا إلى فيتنام التي احتلتها أمريكا في واحدة من أشهر الحروب الضارية في القرن العشرين. إنّها سلسلة متراصّة من القسوة الغربية العنيفة ضدّ الشعوب الأصلانيّة، والتي تزامنت بكثير من المفارقة مع بداية تشكّل الوعي المناهض للكولونياليّة في تلك المجتمعات بالذات، وهو الأمر الذي ما يزال مستمرًا لليوم: الجامعات الغربية هي التي تقود تطور وتبلور تيار البوست كولونياليّة من عقر دار الكولونياليّة.
الرواية طافحة بالعنف والتوصيفات المرعبة. تفاصيل لا تبدأ في الجلد والتعذيب ولا تنتهي بإغراق أطفال القبائل في الأنهر عقابًا على هرب ذويهم من عبوديّة العمل في جمع المطاط المشتهى. وتشتدّ هذه التوصيفات حدّة في البيرو، إذ جنح الأمر أيضًا نحو عبوديّة الدعارة وسرقة البنات ليُكنّ خادمات/ أمات في بيوت المستوطنين البيض، إلى جانب تواطؤ الكثير من المحليّين في مسيرة القسوة والاستغلال ضدّ أبناء جلدتهم طمعًا بالمال والمكانة الاجتماعيّة.
يوسا هو روائي رائع وكبير. فصاحب “حفلة “التيس” غاص في عالم كيسمنت وخرج برواية ضخمة (نحو 560 صفحة) توزّعت على ثلاثة محاور: الكونغو، البيرو، أيرلندة. فبعد تجواله لسنوات طويلة في المستعمرات التي قامت أساسًا على تجارة المطاط، استقال كيسمنت من مناصبه الدبلوماسيّة في السلك البريطانيّ الإمبراطوريّ وانضمّ إلى تيار التحرّر الإيرلنديّ المناهض للوجود الإنجليزيّ في أيرلندة، وعاش لسنوات طويلة صراعًا مريرًا مع نفسه بخصوص التناقض الذي سيطر على حياته: من جهة موظف في خدمة الإمبراطوريّة، ومن جهة ثانية قوميّ إيرلندي يسعى لمقاومة هذه الإمبراطوريّة. لقد قاده الانكشاف على الظلم البريطاني الذي ساد في العالم إلى اكتشاف الظلم الذي كان يقع على شعبه وبلده، وبالتالي شكّل العالم “الأسود” بالنسبة له مصدر فهم عميق لواقعه “الأبيض” الأوروبيّ. تلك المعضلات التي يتورّط المرء فيها، والتي تؤدّي عادة إلى ثورة كبيرة على الماضي وما كان قبله. تمامًا مثلما أدرك غاندي الشاب وهو يدرس المحاماة في لندن أنه عازف كمان رديء وأنّه لن يصبح جنتلمان إنجليزيًّا حقيقيًا أبدًا.
الرواية تحفة أدبيّة تنجح في تكثيف زبدة حياة هذا الإنسان المثير وسط صياغة أدبيّة روائيّة تقوم على السرد الاسترجاعي من داخل الزنزانة التي ينتظر فيها البتّ بقرار الاسترحام الذي قدّمه ضدّ حكم الإعدام الذي صدر ضدّه. ويقوم صاحب “مديح الخالة” بتكثيف العوالم الأخلاقيّة والثقافيّة والدينيّة التي كانت سائدة وقتها قبل وأثناء وبعد الحرب العالميّة الأولى، وهو ينسج تفاصيل هذه العوالم عبر شخصيّة كيسمنت وتخبّطاته وتفتّح الأسئلة وتبلور الأجوبة عليها، انتهاءً بقراره الاستنجاد بألمانيا أثناء الحرب من أجل مساعدة الإيرلنديّين في نضالهم ضدّ الاحتلال البريطانيّ لبلدهم، ما جعله يخضع للمحاكمة بتهمة الخيانة.
إنّها رواية تحقّق الهدفيْن الأهمّيْن اللذيْن يسعى إليهما الأدب (برأيي الشخصيّ): المتعة والإفادة. وتتحقق المتعة عبر الكتابة المهنيّة والحرفيّة التي تصقل مركّبات العمل الأدبي وفق سريد متين ورشيق ومدروس، فيما تتحقق الإفادة عبر الثيمات الأخلاقيّة والحياتيّة التي تحققها هذه المتعة أثناء القراءة. بالطبع يمكن الاستفاضة في تحليل مركّبات هذه الرواية المتفرّدة من هاتين الناحيتين، ولكنّ هذه المهمة بحاجة لمقالة أطول بكثير من هذا الاستعراض الأوليّ الذي يسعى أولاً وأخيرًا إلى القول ببساطة: اقرؤوا هذه الرواية!
وكعادته، نجح المترجم المتمرّس صالح العلماني في تقديم الصيغة العربيّة بسلاسة ووضوح وبلا تكلّف، مبقيًا أحيانًا على عبارات ومصطلحات باللغة الأصليّة، ومفسّرًا أحيانًا جملاً ذات سياق ثقافيّ خاص. وتبرز جودة هذه الترجمة حين تنتبه أثناء القراءة إلى أنّك نسيتَ أنّ النص الأصليّ ليس بالعربيّة أصلاً.