“جداريّة”: لبّيكَ يا مسرحُ، لبّيكَ!
علاء حليحل
على مخرجِينا ومُدرائِنا الفنيين وممثلينا وممثلاتِنا ومُصمّمِي إضاءاتِنا وملابسِنا وديكوراتِنا وموسيقانا أنْ يقفوُا وقفةَ الرجلِ/ المرأةِ الواحدةِ، وأنْ يخشعُوا أمامَ مسرحيةِ “جدارية” المستحيلةِ، وأن يُحنوا هاماتِهم ورؤوسَهم إجلالاً وتكبيرًا، وأن يهلّلُوا معًا وسويةً: لبّيكَ يا مسرح، لبّيكَ!
هذه تنغيمةٌ لمسرحيةٍ لم تحدثْ بعدُ، لا في الماضي ولا في المستقبلِ، وكأنَّ ما كانَ على الخشبةِ، قبلَ ساعاتٍ أو تزيدُ، هو إشارةٌ من عالمٍ آخرَ، من مسرحٍ آخرَ، من مَجرّةٍ فنيةٍ لم تتآكلْ فيها الهِمَمُ بعدُ؛ كأنَّ ما حدثَ على خشبةِ مسرحِ “الميدان” ليلة أمس الأول (الأربعاء) هو أعجوبة أتتْ بفرَمانٍ من السُّلطانِ وبأمرٍ من الموتِ الذي لم تهدأ فرائصُهُ للحظةٍ إلا ليتواقحَ من جديدٍ. هذه تنغيمةٌ من دونِ سلبيّاتٍ وليقُل القائِلوُنَ ما يَقُولونَ. هذهِ تنغيمةٌ للتاريخِ الذي سَجَّل مدائِحَه على لحظاتِ الزّمنِ الذي لن ينتهيَ قريبًا، وهذه تنغيمةٌ لكلِّ الكلامِ الجميلِ الذي يُمكنُ أنْ يُكتبَ عَن “جداريةٍ” جبّارةٍ ستهزُّ الأرضَ هَزًا. هذه تنغيمةٌ لحدثٍ تاريخيٍّ كانَ ما قبلُه وسيكونُ ما بعدُه. هذه تنغيمةُ فرحٍ وإعجابٍ لا ينتهيانِ بأولئكَ الذين قبضُوا على الشّمسِ وتطلّعُوا إلى عينيْها المتقدَتيْن بانتحارِ المؤمِنِ وصاحُوا: لبيكَ يا مسرحُ، لبّيكَ!
هذه أهزوجةٌ لعيني المخرج أمير (نزار) زعبي لأنه أشعَلَ الأملَ في عيونِنا وفي مآقِينا وفي دموعِ الفرحِ الخجلى وهي تبكي مع خليفة ناطور ومكرم خوري وريم تلحمي؛ مع دموعِ الحزنِ التي انهمرت على أيقاع “مونولوج الموت”، وأنتَ تعرفُ أنَّ الموتَ ليس قصيدةً ملحميةً تُلقى أمامَك على الخشبةِ، بل هو قطعةٌ من صدريِّ أبٍ وأمٍ جلسا خلفَكَ؛ ذهبتْ القطعة ولم تعُدْ… هذه أهزوجةُ مشاهِدٍ مسرحيٍّ نسيَ (وتناسى) كلَّ ما رآه حتى الآن (رغم الجيدّ والممتاز الذي فيه)، وتربّع على سذاجةِ غبطتِه البدائيةِ وهو يكتشفُ المسرحَ لأوّل مرةً بفرح طفل غضٍّ، مثل لحنِ الموتِ العصيِّ على الإدراكِ: أأنتَ جميلٌ أيّها الموتُ أم أننا نحن الذين حَيينا بعد أنْ غطَطْنا في سُباتٍ مسرحيٍّ دُبِّيٍّ؟.. هذه أهزوجة لرنينِ الوجعِ اللذيذِ في أطرافِ أصابعِنا وهي ترفضُ أنْ تتوقفَ عن التّصفيقِ، رافضةً كلَّ لحظةِ منطقٍ يُمكنُ أن تصرخَ فيكَ: مهما يكُن، إبحثْ عن السلبيات. هذه مقالةٌ عن أهزوجةٍ صافيةٍ لا نقدَ فيها ولا شوائبَ ولا توقفَ عند صغائرَ من أجلِ “الموضوعيّةِ”؛ هذه أهزوجةٌ للكمالِ المسرحيِّ يُمزّقُ صمتَ موتِنا وهو يصيحُ: لبّيكَ يا مسرحُ، لبّيكَ!
هذه مَغناةٌ للكبير مكرم خوري (ولزملائه محمد بكري ويوسف أبو وردة وسليم ضو) الذين حملونا على أكفٍّ من عطاءٍ وإفناءٍ للروحِ وللجّسدِ كي نجلسَ أمسَ بثقةٍ ونجترعَ أكسيرَ المسرحِ بشبقٍ. هذه مَغناةٌ للجّيلِ الذي ثقّفَنا وربّانا وهذَّبَنا وأخرَجَنا إلى نورِ هذا العالمِ كي نستعدَّ للقاء الموتِ وجهًا إلى وجهٍ، من دونِ أن تنطفئَ عينانا. هذه مَغناة لمنْ كانَ مسؤولاً عن بلورةِ ذائقتِنا الفنيةِ، مُشاهِدينَ ومُمثلينَ، لنجلسَ قلقينَ كأنّ الريحَ تحتَنا، ترفعُنا وتُنزلُنا كأنَّ الشعرَ الذي يُقالُ هو لنا شخصيًا، لكَ ولكِ ولي ولها وله، ولمن لم يأخذْ جرعةَ القصيدةِ قبلَ النومِ، وبعدَه، وقبلَ الأكلِ وبعدَ، وبيْنَ بيْنَ، وخِلالَ خِلالَ، وفي غضونِ في غضونِ. هذه مَغناةٌ لمنْ حفِظوا لنا الإنجيلَ في مشهدٍ تراجيديٍّ والقرآنَ في مشهدٍ مَلحميٍّ وسيرةَ بني فلسطينَ في مشهد كوميديٍّ- تراجيديٍّ. هذه مَغناة لريم تلحمي المُتألّقة وربى بلال المتجددةِ وجميل خوري القادمِ من عرينِ الأسدِ. هذه مَغناةٌ للشِّعرِ يُرقّص مَعانيَ لم تَجِدْ غيرَ الشعرِ ليقولَها، ولم تَجِدْ غيرَ أمير (نزار) زعبي وخليفة ناطور ليصرخا في وجه أقنعتِنا المهترئةِ ضجرًا وسأمًا: لبّيكَ يا مسرحُ، لبّيكَ!
هذه مُنمنمة لمُخرجٍ لم يَتلوّث بداءِ الكسلِ الذهنيِّ. هذه مُنمنمةٌ لمخرجٍ لم يتعثر بفضاءاتِنا المُتعبةِ وبقيَمنِا المتخبطةِ بينَ الانحلالِ وبينَ الأصالةِ، فلا غالبَ ولا مغلوبَ. هذه مُنمنمة نثرية ودّتْ لو كانتْ شعريةً لتقولَ ما قاله الشاعرُ: “هَزمتُك يا موتَ الفنونِ جميعَها/ هزمتُكَ يا موتَ الأغاني في بلادِ الرافِديْنِ/ مِسلَّة المصريِّ، مِقبرةِ الفراعنةِ / النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هزمَتْكَ / وانتصرتْ وأفلتَ من كمائنِك الخلودُ/ فاصنعْ بنا، واصنعْ بنفسِك ما تريدُ”… هذه مُنمنمة لمُخرج يعودُ من بلادِ الضبابِ ليبدّدَ ضبابَ الموتِ الجاثمِ على الخشبةِ وعلى النصِّ وعلى الأيقاعِ وعلى الموسيقى وعلى براثنِ الخمولِ الذهنيِّ والفكريِّ والإبداعيِّ. هذه مُنمنمة تشتكِي وجعَ الموتِ المجازيِّ لدمعةِ الحياةِ المجازيةِ، وتحتفي بطالعِ نيسانَ يحبُو كطفلٍ صغيرٍ لم يُولدْ إلا فكرةً في مُخيّلة التي أحبّها وهي تهمسُ في ظلامِ القاعةِ المسرحيةِ، بحُبٍّ مُنفعلٍ: “تع نجيب محمود الليلة”… هذه مُنمنمةٌ للسنابلِ التي خاطَ منها المخرجُ عباءةً للحياةِ وكفنًا للموتِ، هذه مُنمنمة لعينيِّ المخرجِ الذي سَهِرَ الليالي على الليالي ليستخرجَ المعانيَ، وفَقَأَ عينَ البلادةِ بيديهِ الطريّتيْنِ وبسنيّه القليلةِ، ويقولُ للجداريةِ التي تحملُ أسماءَ موتانا المَجازيينَ: لبّيكَ يا مسرحُ، لبّيكَ!
هذه مدائحُ لخليفة ناطور، الذي هزّ النصّ في حنجرتِه فاهتزّتِ الحناجرُ. خليفة ناطور الكبيرُ الكبيرُ، ينكمشُ على نفسِه المسرحيةِ، مثلَ عبورِ النهرِ إلى ضفّتِه، فيتقلصُ النهرُ ويفيضُ على شطآنِه المُقحلةِ اليابسةِ، يهشُّ اليَبابَ عن بُوارِ أرضِنا ويقولُ للمُرابطينَ مِن خلفِ السِّتارِ المسرحيِّ: أهرُبوا، فخليفة قد أتى. خليفةُ الممتدةُ قامتُهُ نحوَ شُروقِ شمسٍ جديدةٍ؛ خليفةُ الذي عادَ بالناموسِ بعد أنْ أحرقْنا جميعَ الكتبِ وجميعَ النصوصِ وجميعَ مسارحِنا بنيرانِ جهلِنا؛ هو ذا خليفة قادمٌ، يحملُ على كتفيْهِ مئةَ سَنةٍ من العُزلةِ ويقولُ للمتعطّشين لمُمثلٍ كبيرٍ يهزُّهُم: “كلُّ شيءٍ زائلٌ. فاحذرْ/ غدًا وعِشِ الحياةَ الآنَ في امرأةٍ/ تُحبّكَ. عِشْ لجسمِكَ لا لوهمِكْ”. خليفةُ المتعانقُ مع آلهة الكلمةِ وآلهةِ الدراما الشعريةِ والملحميةِ، المُبحرُ من دونِ ريبٍ في يمِّ المتاهاتِ المسرحيةِ: يمخرُ عبابَ الشّعرِ ويتلوُه فُرقانًا مُوجعًا من شدّةِ صِحَّتِه. خليفةُ البطلُ الذي يدّعي أنه ليس بطلاً. خليفة اللؤلؤةُ السوداءُ النادرةُ، ينسجُ على الخشبة شبكةً من زعانفَ سمكةٍ خرافيةٍ تسبحُ بخفةِ قلمِ الشّاعرِ وبدقةِ قواعدِ لغتِه. بِوِسعِ خليفة ناطور أنْ يعتزلَ بعد هذا الدّورِ، فالصُعودُ من هنا ليس مُمكنًا، كما أنه ليسَ مُستحيلاً، عليهِ وعلى غيرِهِ. بِوسْعِ خليفة ناطور أنْ يضطجعَ في مَخدَعِهِ المظللِ برائحةِ الخشبةِ المسرحيةِ العنيدةِ وأنْ يرفَعَ نخبَ أنخابِنا ويُغني للأزلِ: لبّيكَ يا مسرحُ، لبّيكَ!
وهذه قصيدةٌ غير مكتوبةٍ لمحمودَ درويش، الذي زوّدنا بأبجدياتِ اللغةِ وبأبجدياتِ المعانِي وبأبجدياتِ الحكمةِ المُهاجرةِ دوْمًا كالعصافيرِ اليتيمةِ تبحثُ عن زنبقةٍ تستمعُ لتذمِّرِه المُزمِنِ مِن حالةِ الطقسِ. هذهِ قصيدةٌ لشاعرٍ عَلَّم الشعرَ كيفَ يكفُّ عن مراهقتِه وكيفَ يكتبُ اسمَ حبيبتِه على رملِ الغيابِ، فلا يمّحِي. هذهِ قصيدةٌ للّذي هَذَّبَ الفلسطينيَّ في داخلِنا فصارَ جميلاً مثل دمِ العصفورِ الذي صَبَغَ الوردةَ البيضاءَ بدمِه لتُصبحَ حمراءَ، كما تُحبُّ حبيبتُه. هذه قصيدةٌ للّذي وطنُه حقيبةُ سفرٍ، ولنا، نحن الذين وطنُنا في دواوينِ شعرِه.
عَلى مُخرجينا ومُدرائنا الفنيّين ومُمثلينا ومُمثلاتِنا ومُصمّمي إضاءاتِنا وملابسِنا وديكوراتِنا وموسيقانا أن يُجيلوا النظرَ في عبثِ المشهدِ الذي يؤلّفونَه، وأن ينهَلُوا ما استطاعوا مِن النبعِ الذي تفجَّر على ركبتيِّ نكبتِنا المسرحيةِ المعاصرةِ. عليهم أنْ يُطيلُوا النظرَ صوبَ ما رَأوْه، وعليهم أنْ يعتزِلُوا إذا لم يَرَوْا أو لم يَهتمّوا بالرؤيةِ. عليهم أنْ يَحفظُوا عن ظهرِ قلبٍ كلَّ ما قالته العرّافةُ المسرحيةُ لـ “جداريةِ” الموتِ، كي تصيرَ الأخيرةُ “جداريةً” للحياةِ. على مُخرجِينا ومُدرائِنا الفنيّين وممثلينا ومُمثلاتِنا ومُصمّمي إضاءاتِنا وملابسِنا وديكوراتنا وموسيقانا أن يتعلّموا فنَّ الرقصِ من دون البكاءِ بيْن يديّ زرقاءِ اليمامةِ. عليهم أنْ يُغَربِلُوا كلَّ ما كانَ، وأنْ يأتوْا بكلِّ ما بقيَ وأنْ يُقدّمُوه قرابينَ لهذِهِ الأعجوبةِ، في زمنٍ صارتْ فيه أعجوبةُ الأعاجيبِ أن يُنتِجَ مسرحُنا عمليْن اثنيْن يشاهدُهُما ألفان، أو ينقصان!
(نشرت هذه المادة في موقع ’عرب48’’ بتاريخ 26 أيار 2005)