فلسطين على نار!/علاء حليحل
رغم أنّ لا علاقة واضحة أو مباشرة، لا من قريب أو بعيد، بين فيلم “الناصرة 2000” لهاني أبو أسعد وبين فيلم “تل أبيب على نار” لسامح زعبي، إلّا أنّ رابطًا قويًّا يجمع بينهما على مستوى المضمون وعلى مستوى الصنعة السينمائية: الفيلمان ساتيرا اجتماعيّة تتخذ من الواقع السياسيّ/ الاجتماعيّ في فلسطين التاريخيّة (الناصرة، رام الله، القدس) مادةً للكوميديا السوداء، التي لا تخشى من تفكيك الواقع الفلسطينيّ ونقده- وأحيانًا تسخيفه. مرّةً بكتابة وإخراج من جانر الموكيومنتاري (الناصرة 2000) ومرة عبر كوميديا أخطاء ومواقف (تل أبيب على نار). وفي هذا السياق رأيتُ شريط “تل أبيب على نار” امتدادًا واثقًا وطبيعيًا لشريط “الناصرة 2000″، على الأقلّ في سياق التهكّم اللاذع على الواقع المُركّب والجديّ الذي نعيشه، وعلى مستوى النوايا والرؤيا الإخراجيّة.
هذه مهمّة مركّبة يخشاها الكثيرون من المبدعين الفلسطينيّين، انطلاقًا من أنّ الضحك على الضحيّة أو سرد قصّتها في إطار كوميديّ هو خطيئة قاتلة في وجه الحرب الدائرة مع الصهيونيّة وإسرائيل، وهي نقطة هامّة جدًا تنسحب على فهم وتذويت دور المبدع(ة) في نظر شعبه، لن ندخل غمارها الآن. لم يخَفْ صاحب “بدون موبايل” من هذه المهمّة بتاتًا، وأنجز شريطًا واثقًا بنفسه في هذا السّياق، اللهم باستثناء “مشهد تروما الحمّص” مع الضابط الإسرائيليّ في النهاية الذي بدا مُصطنعًا ومتكلّفًا ويأتي بالذات ليُبرّئ ساحة الفيلم بأنّه يحمل “عُمقًا سياسيًّا”. أعتقد أنّ العمق السياسيّ الكامن في الفيلم يأتي بالذات من العبثيّة الكبيرة التي يتّصف بها الواقع والأحداث، عبر التضامن المضمونيّ بينها، ولا حاجة لمشاهد تلقينيّة كهذه.
ولذلك، في ضمن القرار الحاسم لدى زعبي في سرد قصّة كوميديّة لا ترحم عن واقع سياسيّ مُركّب يُراوح بين رام الله والقدس، فإنّه قد نجح في مواقعَ كثيرة وأخفق في بعضها القليل. زعبي يحبّ السينما الكوميديّة وهو من أبرز السينمائيّين الفلسطينيّين والعرب في التقاط المواقف والصور التي تثير الضحك أو السخرية الذاتيّة الحادّة من باب “شرّ البليّة”. وقد تخللت “تل أبيب على نار” مواقع كثيرة تشير بوضوح كبير إلى مهارة زعبي كمخرج وكاتب في التقاط وتطوير هذه المواقف إلى “كوميديا مواقف” و”كوميديا أخطاء” تنسجم معًا في ضمن حبكة تتطوّر من تلقاء نفسها، مع فقدان الشخصيّة المركزيّة (وسائر الشخصيّات معها) لزمام الأمور، وانجرارها وراء تطوّرات ومحاولات تخرج عن سيطرتها وتزيد الطين بلّة، حتى النهاية المفاجئة وغير المتوقعة كما يقتضي هذا الجانر (المثال الأكبر الذي يحضرني الآن في سياق السينما هو A Fish Called Wanda، وفي المسرح “خادم السيّديْن”).
“تل أبيب على نار” فيلم متقَن وذكيّ ومُضحك للغاية في المجمل. هذه مهمة كانت صعبة للغاية في الإبداع الفلسطينيّ على مرّ السنوات (باستثناء طُفرة “المتشائل”)، إلّا أنّ الجيل الجديد في العقديْن الأخيريْن بدأ ينزع صوب الكوميديا والساتيرا لتصوير الواقع الفلسطينيّ، بعد أن أضحى أكثر غرابة من أيّ كوميديا، وأكثر سوءًا من أيّ تراجيديا. وفي هذا السياق ينجح الفيلم في أكثر مواطن قوّته التي رأيتُها: تحقيق المفاجأة والغرابة حتّى في سياق واقع ظننّا أنّنا فُوجئنا به بكلّ غريب عجيب. وهذه واحدة من مهامّ الإبداع الأساسيّة وفيها نجح زعبي نجاحًا كبيرًا.
في المقابل فإنّ “تل أبيب على نار” كان بحاجة –بنظري- إلى توليف (مونتاج) أكثر سرعة وأيقاعًا، لأنّ تطوّر الحبكة وجنوحها نحو الغرابة المطلقة يتطلّبان منذ منتصف الفصل الثاني إيقاعًا أسرع في تطوّر الحبكة وفي التصوير والتمثيل أيضًا. ومع وجود طاقم ممثلين جيّد جدًا في الفيلم (سليم ضو، ميساء عبد الهادي، عامر حليحل، أشرف فرح، يوسف سويد…) يبرز الضعف الأكبر والطاغي في الفيلم: أداء قيس ناشف السيئ والضعيف، لدرجة مُجرّد نطق جملة متكاملة مفهومة أحيانًا، في مقابل ما يُفتَرض ببطل “بيكارسيكيّ” أن يكونه: أن يحمل على ظهره بمهارة وذكاء حبكة تتطوّر بثقة واطراد نحو النهاية “المجنونة” البيزاريّة، الأمر الذي يستوجب فهمًا جذريًّا للجدليّة التي يجب أن تتوفر بين محاولات البطل إدارة الدفّة في وجه أمواج الواقع المتلاطمة التي تمنعه من ذلك. هذا الصراع بين المحاولات المضحكة وجدّيّة المأزق المتطوّر هو المفتاح الأساسيّ لبناء هذا النوع من الشخصيّات، وبدا واضحًا أنّ هذا بدا معدومًا تمامًا هنا.
في المحصّلة يسجّل زعبي إنجازًا جديدًا له، في ضمن سعيه الدائم لتقديم الجديد والمختلف الذي يعيش خارج المتوقّع والمفهوم ضمنًا في مسيرة الإبداع الفلسطينيّ بكلّ روافده.