تقلص الشريحة الوسطى في إسرائيل بنسبة (15-17)% منذ 1988!
– هذا الاستنتاج الرئيس لبحث أجراه مركز “أدفاه” الاسرائيلي. وهذا يعني: في حال استمرار التقلص، تحوُّل إسرائيل إلى دولة فيها من التقطب الاجتماعي بين فقراء مسحوقين وأغنياء متخمين ما سيجعلها عرضةً لانهيار محتم!
إستعراض وتلخيص: علاء حليحل
“الشرائح الوسطى” في إسرائيل آخذةٌ في التقلص. هذا هو الاستنتاج الرئيس الذي توصّل إليه الباحثان د. شلومو سبيرسكي وأيتي كونور- أطياس من مركز “أدفاه” للمعلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل. لماذا “الشرائح الوسطى” الآن وما علاقتها بالعدالة والمساواة، وكيف يمكن أن يُدلل هذا الاستنتاج على وضع دولة إسرائيل اليوم، على المستوييْن الاقتصادي والاجتماعي؟
في مقدمة البحث المُنجز أخيرًا يكتب الباحثان أنّ “تعاظم اللامساواة في إسرائيل هو حقيقة لا يتناطح عليها اثنان. والسؤال هنا هو: هل تجد اللامساواة المذكورة تعبيرًا لها في المبنى الطبقي في المجتمع؟” منذ البداية علينا التنويه بأنّ أهمية هذا البحث تكمن في النظرة الاقتصادية البحتة التي يوفرها للقارئ بصدد هذه الشريحة (التي سنأتي على تعريفها بعد هنيهة)، من دون الولوج إلى التعريفات الاجتماعية للشريحة الوسطى (كطبقة برجوازية متشكلة تاريخيًا ووظيفيًا). فواضعا التقرير يستعملان تعبير “شريحة” وليس “طبقة” للتدليل على عيّنة البحث، لأنهما لا يلتزمان سلفًا –بل يتهربان في حقيقة الأمر- من الإسهاب في تعريفات هذه الشريحة ومدلولات مكوّناتها وصفاتها على سيرورة الحياة في المجتمع الاسرائيلي.
وقبل الإسهاب في النتائج والمقارنات التي ترد في البحث، والمتطرقة إلى الفترة الواقعة بين العام 1988 وحتى العام 2002، يجدر التنويه ولو بقليل بأنّ الطبقة الوسطى أو الشريحة الوسطى –سمُوها كما شئتم في هذا السياق- لم تنضج في المجتمع الاسرائيلي كفاية حتى اليوم لإنتاج برجوازية واضحة ومحددة تأخذ دورها التاريخي، كما في أيّ مجتمع غربي نموذجي (هذه مسألة جديرة بالبحث والتمحيص بحدّ ذاتها). ففي هذه المجتمعات تلعب البرجوازية دورًا حاسمًا في صقل وبلورة الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية كلاعب مركزي يراوح بين الطبقات الفقيرة وبين الشرائح العليا فاحشة الغنى، ضاربة في وسط هذين الطرفين “شبكة أمان” في وجه تدهور الدولة –أية دولة- إلى غياهب الفروقات الاجتماعية الفاحشة التي لا بدّ لها من أن تؤدي إلى انهيار إقتصادي حتمي. من هذا المنطلق فإنّ تقلّص الشريحة الوسطى في إسرائيل –وكما يشير الباحثان- هو مؤشر بالغ الأهمية على تردي الاقتصاد الاسرائيلي نحو هاوية قد تكون حتمية- فيما لو استمر الوضع كما هو عليه الآن.
ويوضح مُعدّا البحث السبب من وراء بحث هذه الشريحة بالذات بما يلي: “أولا، الحديث هو عن طبقة يُنظر إليها على أنها “الوضع الطبيعي” في الأزمنة السويّة؛ ثانيًا، تُعتبر الطبقة الوسطى في البلاد الغربية العمود الفقري للاقتصاد، إن كان كمزودة للعاملين والعاملات الذين يشغلون غالبية الأجهزة في القطاعين التجاري والعام، وإن كان باعتبار أفرادها المستهلك الرئيس لمنتوجات المرافق الاقتصادية؛ وثالثًا، يُنظر إلى الطبقة الوسطى، منذ أيام أرسطو، على أنها العمود الفقري للنظام الديمقراطي.
وسعيًا نحو فهم طبيعة تقلّص هذه الشريحة ومدلولات ذلك، لا ضير في تقسيم هذا البحث إلى خانات عدة تُعطي معًا الصورة الشاملة والوافية للبحث، من دون الإثقال على القارئ في تفاصيل تقنية وأرقام ونسب مئوية، تنفي الفائدة المرجوة من هذا الاستعراض.
تعريفات:
نهج تعريف “الشريحة الوسطى”: اتبع مُعدا البحث تسوية بين توجّهيْن في التعامل مع الشريحة الوسطى: منهج “معدل الأجور” في المرافق الاقتصادية ومنهج “الأجر الوسيط” بين تدريج الأجور في المرافق الاقتصادية. لن نخوض غمار الفروقات بين هذين التوجهين، ولكن يطيب القول في هذا السياق أن مُعدّا البحث قررا اتباع النهجين سوية للجسر على الاختلاف القائم في البحوثات الغربية لهذه الشريحة، التي تختلف في انتهاجها لأحد النهجين، وبالتالي التمكّن من المقاربة بين الغرب وبين إسرائيل، ضمن أبحاث استند بعضها إلى النهج الأول وبعضها الآخر إلى النهج الثاني.
وقد عرّف الباحثان هذه الشريحة بحسب نهج “معدل الأجور” على أنها الشريحة التي تجمع من 75% إلى 125% من العائلات والمرافق البيتية التي يراوح مجموع دخلها الشهري بين هاتين النسبتين. وفيما يخص النهج الثاني وهو ” الأجر الوسيط” فالحديث هناك عن العائلات أو المرافق البيتية التي يقع معدل الدخل الشهري فيها في المساحة المحصورة بين 75% وحتى 125% من قيمة الأجر الوسيط في المرافق (الأجر الوسيط هو الواقع في منتصف تدريج الأجور وهو ليس بالضرورة معدل الأجور).
سنوات البحث: وفيما يخص اختيار السنوات التي تركّز بها البحث يورد الباحثان التعليلات التالية: ” تعكس السنوات التي اختيرت عددًا من التغييرات الكبيرة التي مرّ بها الاقتصاد الاسرائيلي في هذه الفترة: 1988 هي السنة الأخيرة قبل موجة الهجرة الكبيرة من دول الاتحاد السوفييتي سابقًا؛ 1992 هي السنة التي كانت فيها هذه الموجة في أوجها؛ 1997 هي السنة التي تعكس الازدهار (النموّ) الذي بدأ في أعقاب الهجرة، وهي ترمز في نفس الوقت لنهج التباطؤ في الازدهار الاقتصادي، الذي بدأ في السنة التي سبقتها في أعقاب تقلص الهجرة؛ وسنة 2002 هي السنة الثانية لتقلّص النشاط الاقتصادي في أعقاب الانتفاضة التي اندلعت في نهاية سنة 2000.”
الاستخلاصات:
خلص معدّو البحث إلى استخلاصات عديدة، فيما يلي تلخيص لها:
* بين السنوات 1988 و 2002 تقلّصت الشريحة الوسطى بشكل ظاهر؛ وإضافةً إلى ذلك تقلّصت حصتها في “كعكة المداخيل” (كعكة المداخيل هي مجموع المداخيل غير الصافية في الدولة في سنة واحدة) أيضًا. وبحسب نهج “الأجر الوسيط” تقلصت هذه الشريحة في السنوات المذكورة بنسبة 15% (من 33% وحتى 28.1%) من مجمل المرافق البيتية في إسرائيل. وقد خسرت هذه الشريحة هذا التقلّص لصالح الشرائح الضعيفة ولصالح الشرائح الفوقية- على السواء، بينما ذهبت غالبية التقلص في حصة الشريحة الوسطى من “كعكة المداخيل” إلى الشرائح الفوقية.
بناءً على نهج “معدل الأجور” فإنّ الاستخلاص مشابهٌ ، مع أنه يختلف قليلا في الأرقام: فنسبة التقلص في هذه الشريحة كانت 19% (من 32.9% إلى 26.6%)؛ واختلاف آخر يكمن في وجهة المرافق البيتية التي خرجت من هذه الشريحة: غالبيتها تحدّر نحو الشرائح الضعيفة. وهنا أيضًا خسرت هذه الشريحة من “كعكة المداخيل” ما نسبته 20% وغالبية هذه الخسارة ذهبت لصالح الشرائح الفوقية.
مقارنة دولية واستعراض:
تدل النتائج في هذا البحث على تعاظم التقطّب الاجتماعي-الاقتصادي، بحيث تتآكل الشريحة الوسطى، بين فكي الشرائح الفوقية التي تتزايد حصتها باطراد في “كعكة المداخيل”، وبين الشرائح الضعيفة التي يتسع نطاقها من سنة إلى أخرى، إلا أنها تملك القسم الأصغر من “الكعكة”.
وقد درجت -وما زالت تدرج- شخصيات جماهيرية على القول إنّ التعاظم في اللامساواة في إسرائيل هو جزء من نهج دولي شامل. ولكن الرسم رقم 1 يُظهر أن تقلص الشريحة الوسطى ليس ظاهرة كونية “جبرية”؛ فهناك دول منها السويد والنرويج وألمانيا وفرنسا وهولندا وكندا تقوّت فيها بالذات الشريحة الوسطى، في الفترة موضوع البحث. كما ويظهر الرسم أيضًا أنّ هناك العديد من الدول التي يزيد فيها حجم الشريحة الوسطى بكثير عن حجمها في إسرائيل، وتبرز في هذا المجال دول غرب أوروبا، وعلى رأسها السويد. مقابل ذلك تنتمي إسرائيل في هذا المضمار إلى دول تتراوح فيها نسبة هذه الشريحة من 26% وحتى 29%- أي أقل من الدول المذكورة قبل هنيهة.
ماذا تعني هذه المقارنة الدولية؟ في الحقيقة تدلل هذه المقارنة على ثلاثة أمور أساسية:
إسرائيل هي دولة تخلت نهائيًا عن فكرة “دولة الرفاء” أو “دولة الضمانات الاجتماعية” التي كانت تميّزها حتى مطلع الثمانينات، وبدأت بالنزوح قدمًا نحو دولة رأسمالية صرفة، لتصل ذروتها اليوم، وذلك –وبالأساس- عن طريق ضرب النقابات المهنية والعمالية والتقليل من حجم وشأن “الهستدروت” (نقابة العمال العامة). وهذه العلاقة قائمة وواضحة بين التنظم المهني وبين طابع الدولة: ففي المجموعة الأولى التي أسلفنا ذكرها قبل قليل، حيث تقوت واتسعت الشريحة الوسطى، توجد نقابات مهنية وعمالية قوية ولها دور فاعل ومركزي في المجال الاقتصادي والسياسي، بينما تنعدم هذه القوة وهذا الدور في مجموعة الدول التي تنتمي إليها إسرائيل وعلى رأسها بريطانيا اليوم والولايات المتحدة بالتأكيد. بعنى آخر: يأتي هذا البحث ليؤكد أفول وضعف الشريحة الوسطى التي تمثل القوى العاملة والنقابات المهنية بشكل أساسي في إسرائيل، في مواجهة السياسات الاقتصادية التي تتبعها إسرائيل- ووزير ماليتها بنيامين نتنياهو بجلاء ووضوح ومثابرة. ويصوغ مُعدّا التقرير الأمورَ بهذا الشكل: “وقد عرفت إسرائيل انقلابا “نيو ليبراليًا” في سنة 1985، في إطار “برنامج الطوارئ لتدعيم المرافق”، الذي سيّرته حكومة الوحدة القومية تحت قيادة “العمل” و”الليكود”. وقد غلغلَ هذا البرنامج، ولأول مرة، سياسة معلنة مفادها تعزيز حرية عمل أصحاب الرساميل وإضعاف العاملين عن طريق “تمرين (من مرونة) الأجور” وتحييد الهستدروت، حيث تُوّجت هذه الخطوات بعد مضي 9 سنوات، في العام 1994، عند الفصل بين الهستدروت وبين العضوية في صندوق المرضى العام، ونتيجة لإضعاف مكانة الدولة، أكان عن طريق “الخصخصة” الواسعة للشركات الحكومية أم عن طريق تقليص متواصل لميزانياتها”.
يأتي هذا البحث لينسف –في نظري الخاص- الادعاء الأساسي الذي سمعناه في السنوات الثلاث الأخيرة حول تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشريحتين الوسطى والضعيفة بتعليل اندلاع الانتفاضة الثانية. فما تبرزه استخلاصات البحث والمقارنة بدول العالم الأخرى لا يتماشى مع هذا الادعاء. فهاتان الشريحتان تعانيان من أوضاع اقتصادية صعبة نتيجة سياسة الحكومات الاسرائيلية في المجال الاقتصادي منذ أكثر من 15 سنة. وأكثر ما يمكن أن يدعم هذا الادعاء هو “النمو” الاقتصادي الذي أخذ يزداد في الدولة منذ سنة تقريبًا، على الرغم من استمرار الانتفاضة واستفحالها أيضًا. المنتقدون لسياسات نتنياهو الاقتصادية يقولون –وبحق- إنّ النمو يُفيد الشرائح الوسطى والفوقية فقط وهذا صحيح. لماذا؟ لأنّ التسهيلات الضريبية والبنكية تعود بالفائدة على الشريحة الوسطى بالأساس لغرض دعمها وتقويتها، لعلم القيادة في الدولة بأهمية هذه الشريحة وانعكاس وضعها على الدولة أجمع. وكلنا نذكر كيف رفع حزب “شينوي” راية “الطبقة الوسطى” في الانتخابات الأخيرة وحصد 15 مقعدًا بشكل تاريخي ودراماتيكي؛ فكل الذين ينتمون إلى هذه الطبقة كانوا يشعرون بالأرض تهتزّ تحت أقدامهم.
واستمرارًا في الادعاء الوارد قبل هنيهة يصح القول إنّ نتنياهو يستعين بالانتفاضة غطاءً ليس إلا لتعليل انسحاق الطبقات الضعيفة وتزعزع الطبقات الوسطى، بدلا من الإشارة إلى السبب الصحيح وهو السياسات الاقتصادية الرأسمالية التي يتبعها- وقد نجح في ذلك! وأكبر دليل على ذلك تصميم الطبقات المسحوقة بصولجان نتنياهو وشارون على التصويت لـ “الليكود”، على الرغم من كل شيء؛ فهم قد بلعوا الطعم بأنّ المسؤول عن فقرهم هو عرفات بالذات وليس شارون ونتنياهو والرأسمالية الهوجاء. من هنا فإنّ الانتفاضة الثانية ساعدت نتنياهو ورفاقه في وزارة المالية بتطبيق أجندتهم الاقتصادية التي تضع نصب أعينها شركات التدريج والاعتماد العالمية، وتتجاهل العربي والشرقي والمهاجر الجائعين للخبز.
من هنا تتضح ولو بقليل أهمية هذا البحث، إذا ما تعاملنا معه بالمنظار القويم. فمثل هذه الأبحاث، التي يقوم بها مركز “أدفاه” الدؤوب والممتاز، تأتي لفضح الغش والخداع اللذيْن يتعامل من خلالهما قباطنة الدولة مع مواطنيها، ناجحين على الدوام وحتى الآن في تطبيق السياسات التي يرغبون بها، والتي تضر أساسًا بالمواطن العادي من الطبقات الوسطى والمسحوقة، في حين يقنعون المواطن المسحوق أنّهم يقومون بجُلّ ما يستطيعون لكي يخدموهم بأمانة!
الرسم رقم 1:
كِبر التغيير | منتصف التسعينات | منتصف الثمانينات | |
2.3% | 45.5% | 43.2% | السويد |
2.1% | 43.8% | 41.7% | النرويج |
0.3% | 38.8% | 38.5% | ألمانيا |
1.9%- | 36.6% | 38.5% | تايوان |
1.3% | 36.6% | 35.3% | فرنسا |
2.1% | 36.2% | 34.1% | هولندا |
2.0% | 35.3% | 33.3% | كندا |
4.7% – | 32.8% | 37.5% | بريطانيا |
0.9% – | 29.4% | 30.3% | أستراليا |
3.0% – | 27.7% | 30.7% | إسرائيل |
0.7% – | 26.3% | 27.0% | الولايات المتحدة |
حصة كل شريحة من “كعكة المداخيل”:
1988 | 1992 | 1997 | 2002 | |
47.1% | 49.4% | 51.0% | 51.5% | الشريحة الفوقية |
32.2% | 29.0% | 26.8% | 25.7% | الشريحة الوسطى |
20.7% | 21.6% | 22.2% | 22.9% | الشريحة الدنيا |
كِبر كل شريحة بحسب معدل الأجور:
1988 | 1992 | 1997 | 2002 | |
25.8% | 25.5% | 25.3% | 24.3% | الشريحة الفوقية |
32.9% | 29.9% | 27.7% | 26.6% | الشريحة الوسطى |
41.3% | 44.6% | 47.0% | 49.2% | الشريحة الدنيا |
(نشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” عام 2003)