الوجهة: برلين (2)
بدأت الطائرة بالارتجاج والتأرجح لكنّ الأمر لم يكن ذا شأن في البداية. فهذه عادة الطائرات عند الإقلاع. تندفع بقوة مائلة لليسار حتى تُراكم الارتفاع المطلوب للسفر الأوتوماتيكيّ، وبين الإقلاع والوصول إلى هذه النقطة على الطائرة أن تقطع الغيم صوب الأعلى. وهنا المشكلة: السّحاب عدوّ الاستقرار.
أقلعت الطائرة من مطار اسطنبول متوجّهة إلى برلين في الوقت المحدّد، وكان كلّ شيءٍ على ما يُرام، باستثناء الرفيقة التركيّة الهرمة التي كانت ما تزال تتحدّث (تصرخ) بهاتفها النقال والطائرة ترجع “ريفرس” استعدادًا للسعي نحو المَدْرَج. طلبت منها أن تتوقف عن التحدّث بالهاتف (بليز!) واستجابت على مضض. أقلعت الطائرة وبدأت تحليقها للأعلى لكنّ الغيم لم ينتهِ. لا بدّ أنّكم تعرفون هذه الأكوام اللانهائيّة من السحاب الأبيض الناصع التي تشبه جبال الثلوج الجميلة والتي يرقص عليها الدببة الصغار دائمًا في فيديوهات الأطفال. حسنًا. انسوا كلّ ما تعرفونه عنها!
بدأت الطائرة بالارتجاج ارتجاجًا خفيفًا، وكلّما تقدّمت في صعودها إلى الأعلى زاد ارتجاجها أكثر وأكثر حتى أصبح مقلقًا. بدأت الرفيقة التركيّة بالبرطمة بصوتٍ عالٍ وكانت تنظر إليّ وأنا أتجاهلها عنوةً من باب: خوفكِ لا علاقة له بي. أنا لا أخاف. لكنّ الخوف (مثل الضحك) مُعْدٍ. وبدأ الخوف يتسرّب إليّ في أوّل قفزة قفزتها الطائرة فجأة إلى اليسار بقوّة صاعقة كأنّنا في علبة بلاستيكية يقذفها محمود العصبيّ إلى خزانة المطبخ بقوّة. علت صرخات عديدة ومن بينها صرخة هلعة من الرفيقة التركيّة الكهلة التي تجلس إلى جانبي، وبدأت تصيح عاليًا: الله الله الله باللهجة التركيّة التي تشبه “أمان أمان أمان”.
نظرتُ إليها وإذ بها تبكي وتتمتم أدعية ما. زاد ارتجاج الطائرة وعلت أصوات ارتطام عالية اعترفتُ من بعدها وبشكل رسميّ واحتفاليّ: أنا مرتعب! كان كلّ ركّاب الطائرة يهمهمون وبعضهم يُصرّح تصريحات غير مسؤولة، والتزمتُ أنا الهدوء وتأكّدت من أنّ الحزام مشدود حتى آخره إلى بطني. نظرتُ من النافذة وبدت لي كتل السحاب الأبيض وحوشًا كاسرة تهمّ بالانقضاض علينا وافتراسنا. شعرتُ بصعوبة في التنفس حين ازداد الارتجاج حتى أصبح تزحلقًا حقيقيًا للطائرة في بحر الهواء اللجوج، وصارت الطائرة تروح يمنة ويُسرة بوتيرة تشبه تلاطم قوارب اللاجئين في البحر الهادر.
وفجأة نظرت الرفيقة التركيّة إلى الخلف (كنّا في الصف الأخير بمحاذاة “المطبخ” حيث تجلس المضيفتان)، وبدأت تصرخ على المضيفة أمورًا بالتركيّة لا طاقة لي على فهمها حتى في الأوقات العاديّة. وما زاد الطين خراءً أنّ المضيفة ردّت عليها بصرخة لا تقلّ هستيريّة فتيقّنتُ أنّها النهاية! وبدأتُ أفكّر في أنّ طيّاري شركات Low Cost غير مدرّبين كفاية ولا بدّ أنّ هذا الطيار ابن التسع سنوات لا يعرف كيف يواجه المطبّات الهوائيّة القاتلة، وتذكّرت أنّني لا أومن بالصلوات والأدعية وفكّرت للتوّ بأنّني لو نجوتُ فإنني سأكتب قصة قصيرة عن ملحد علمانيّ يقع في مأزق قاتل ويحاول أن يقول دعاءً متضرّعًا يفي بالحاجة للتذلّل للخالق المفترض ولا يؤذي كرامته بأنّه انهار وقت الحزّة واللزّة (قصة كوميديّة).
لا أذكر أنّني خفتُ بهذا الشكل في حياتي. انتابتني صعوبة قاتلة في التنفس وتسارعت دقّات قلبي بوتيرة لم يسبق أن وصلتها قبل ذلك إلّا يوم امتحان كورس “مدخل للاقتصاد أ”. فكّرت بمحمود وشذا وبأنّني لم أكتب وصيّة كما كانت تلحّ عليّ الرفيقة أم شذا منذ سنوات. لا أعرف لماذا يقولون إنّ شريط حياتك يمرّ أمامك بلحظات قبل الموت بلحظات؛ ففي هذه الدقائق القليلة لم تمرّ أمامي إلّا سحنة الرفيقة التركيّة الكهلة التي كانت تولول وتبرطم وتصرخ بهستيريّة صادقة، وفكّرت لبرهة كم أنّني غير صادق في تلك اللحظة. فمن المفروض بإنسان يواجه الموت والهبوط الحرّ من ارتفاع كيلومترات أن يصرخ ويولول بهستيريّة تمامًا مثل هذه الرفيقة، ومن الطبيعيّ جدًّا أن أنظر إليها الآن بلحظة صدق وأن أصرخ عاليًا والدموع في عينيّ: أمان أمان رفيقة! أعبطيني!!
لكنّها لم تعبطني والطائرة لم تقع. بعد نحو 5 دقائق (5 أعوام!) هدأت الطائرة واستقرّت بعد انقشاع السحب البيضاء، وكانت تلك السفرة أطول ساعتين وخمسين دقيقة في الحياة، إذ أنّ أيّ مطبّ هوائيّ خفيف أو ارتجاج محتمل كان يدفع الطيّار لإضاءة زرّ ربط الأحزمة ويُدخلنا جميعًا في حمى الترقّب والذهول.
وهكذا نجوتُ مرّة أخرى من الموت، ونجوتُ من عبطة طائشة مع رفيقة هستيريّة كانت ستخدش كرامتي وكبريائي بيني وبين نفسي حتى الارتجاج الطائر القادم.