بركان، لندن، بركان
أول ما فعلته ترتيب غرفتي.
منذ أن وصلتُ إلى فندق “غرنج وايت هول هوتيل” في منطقة راسل سكوير في لندن، ظهيرة الثلاثاء الماضي، وغرفتي مقلوبة رأسًا على عقب. وضعتُ حقيبة الملابس الكبيرة على الأرض وظلت هناك حتى قبل دقائق (ظهيرة الجمعة، 16 نيسان). كانت ملابسي مكومة فوق السرير، ولم أفرغ أيّ شيء من الحقيبة إلا ما أحتاجه من الملابس والغيارات بشكل مُلحّ. لم أرغب في توضيب أغراضي في الغرفة، فكنت قد استخسرتُ الجهد- فأنا ذاهب إلى بيروت.
عندما فهمت اليوم من بيتر فلورنس (مدير مهرجان هاي فستيفال، الشريك في “بيروت 39”) أنّ القضية لن تنتهي على خير، لضيق الوقت وكثرة القرارات التي يجب اتخاذها في الجانب اللبناني، كان أول ما فعلته ترتيب غرفتي. رتبت الأوراق والكتب المتناثرة، ثم الملابس ثم الأغراض الأخرى. فجأة اتسعت الغرفة بأمتار عديدة، وأخذت نفسًا طويلاً بعد الترتيب لأتأمل الغرفة. فمنذ وصولي وحتى عصر الجمعة لم أتأمل شيئًا سوى شاشة الحاسوب والهواتف الأرضية والنقالة وفاتورة الطعام الذي أطلبه من المطبخ الفندقي.
يوم الخميس، ونحن عائدون من حلقة القراءة التي شاركتُ فيها مع عدنية شبلي، تفاجأتُ حين علمت أنّ بركانًا انفجر في آيسلندة وحركة الطيران مشلولة في أوروبا. “هذه مؤامرة صهيونية لمنعي من السفر إلى بيروت”، قلتُ ساخرًا. ردّ الجميع: هذه إشارات من السماء- لا تذهب إلى بيروت.
لم أذهب إلى بيروت. سأكتفي بربيع لندن البارد، قلت بيني وبين نفسي مُعزيًا، ولكنني لم أشعر بأيّ عزاء.
بركان النمّ!
للحظة، أصبحت الشمس اللندنية عدونا جميعًا. فانعدام الرياح والشتاء أدّى إلى تلبد الغيوم البركانية وثباتها فوق رؤوسنا، وبالتالي صار السفر من لندن مستحيلاً. هكذا، صار القاصي والداني من منكوبي البركان، يبتهلون السّماء من أجل الرياح والمطر، وهم في الأيام العادية ينتظرون شعاع الشمس الأول كي يتبطحوا على المرجة الخضراء في ميادين لندن المعشوشبة ويقرأون الكتب والصحف.
ليست مهمة ملاحقة ومتابعة شؤون 10 كتاب محبوسين في الفندق بالمهمة السهلة أبدًا. فالكُتاب شعب صعب، مزاجيّ وعربيد. فأولا، كان على المنظمين أن يهتموا بتمديد إقامات الكتاب في الفندق وهذه تكلفة عسيرة لمؤسّسات لندنية صيتها وأهميتها أكبر من ميزانيتها بأطنان. أضفْ إلى ذلك وقود الكُتاب اليوميّ من الجنيهات الإسترلينية اللازمة للطعام والشراب والتدخين.
وهكذا، كنتُ متفهمًا تمامًا لقلق المنظمين من هذه السحابة الآيسلندنية، خصوصًا أنّ أغلبية المنظمين علقوا هم أيضًا في بيروت بعد المهرجان، وصارت الاتصالات معهم بالأيميل والهاتف، وزاد من تعقيد المشاكل أنّ الذين يحلون ويربطون في مسألة السفر وتغيير الوسائل موجودون في بيروت، ولا يحلون ولا يربطون.
يوم الإثنين مساءً سمعتُ أطراف حديث ووشوشات في اللوبي فحملت المعلومات وهرعت إلى الغرفة. كانت المؤامرة التي تدور بين الهامسين كالتالي: يمكن للمرء أن يأخذ القطار السريع (يوروب إكسبرس) من لندن إلى باريس. وفي الليل، يمكنه أن يأخذ القطار الليلي السريع من باريس إلى مدريد، حيث ينطلق في السابعة مساءً من باريس ليصل في التاسعة صباحًا إلى مدريد. ومن هناك، حيث لا سحب بركانية ولا سخام، يمكنك أن تطير حرًا طليقًا كالدويري السعيد إلى تل أبيب المشتهاة (في هذه الأيام فقط).
بدأت عملية الاستكشاف، ففتحت ثلاث نوافذ في المتصفح الإنترنتيّ: واحدة لقطار لندن-باريس، وواحدة لقطار باريس-مدريد وواحدة لحجز تذكرة طيران من مدريد إلى تل أبيب. لا تعتقدوا أنّ الأمر سهل وهيّن؛ فمعظم الرحلات في قطار لندن-باريس محجوزة (“فولي بُوكْد” كان كابوسي الأكبر في هذه الأيام)، ولم أجد إلا رحلة واحدة في يوم الغد تناسب وقت وصولي المفترض إلى باريس لامتطاء قطار باريس-مدريد. انتقلت إلى النافذة الثانية وتيقنت من وقت سفر القطار من باريس إلى مدريد، ثم بدأت رحلة استكشاف لحجز تذكرة من مدريد إلى تل أبيب. بدأتُ بالأسعار الزهيدة، بين 400-500 دولار. وجدت رحلة تناسبني في الطيران اليوناني، وقبل أن أحجز الرحلة ألهمني زيوس بتفحّص مسار الرحلة، فوجدت أنها من 3 محطات وتستمرّ 21 ساعة!
أسقط في يدي؛ صحيح أنني فقير وعلى قد الحال ولكن حجز مثل هذه التذكرة سيكون إذلالاً لا ثاني له، وعملا بمقولة العرب العبقرية “هين قرشك ولا تهين حالك”، بحثت عن سفرات “دايركت” أو بمحطة واحدة. هنا قفزت الأسعار من 500 إلى 1000 دولار، ووصلت إحدى الرحلات إلى 2800 دولار! لم أحر صنعًا، فعدتُ إلى قطار لندن-باريس لأتفحص مواعيد بعد الغد فوجدتُ أنّ الرحلة الوحيدة المتبقية ليوم الغد والتي كنت أخطط لها، قد امتلأت قبل ثوانٍ، فصارت جميع الرحلات “فولي بوكْد”.
فهمت وقتها أن عملية المناورة هذه قد تستغرق ساعات وربما أيامًا، ولكنني لم أيأس. قلتُ سأحجز قطار باريس-مدريد ليوم بعد الغد ومن ثم أهتم بباقي التفاصيل. بعد محاولات حجز حثيثة لم أفلح في الموضوع، فتوجهت إلى “الدعم المباشر” للزبائن عبر… التشات! أي نعم، التشات (ناس عايشة). على التشات قالت “آنا” بأدب (لم أسمعها ولكنني افترضت ذلك) إنّ إمكانية حجز قطار باريس-مدريد عبر الانترنت قد أزيلت، بسبب أزمة المواصلات في أوروبا، وعليّ الوصول إلى باريس شخصانيًا لشراء التذكرة. لم أنهَرْ تمامًا وفورًا بل تسلحتُ بالتفاؤل وسألتها عمّا إذا كانت تعرف عن وجود تذاكر شاغرة، فقالت إنه ولأسفها الشديد (هكذا ادّعت) فإنّ الرحلات في هذا الأيام “فولي سُولْد” (كابوس آخر).
لم أيأس، وقلتُ سأتصل بهيام وأستنفرها لتهبّ إلى محطة القطارات في باريس لتشتري لي تذكرة ليوم غد، لكنني أعدتُ الهاتف إلى مكانه حين تذكرتُ أنها في البلاد المقدسة في هذه الأيام تشارك في تصوير فيلم جديد (يحرق حريشها شو بتصوّر أفلام).
وهكذا، تسلل اليأس إلى قلب الفلسطينيّ الثائر، فأشعلت سيجارة وأسدلتُ الستائر، بانتظار طيارة أو حلم شاغر…
أبو علي
في العصر جاءني الرفيق أبو علي (أديب أبو علوان) وقال لي وهو يعارك حركة السير في مدينة الضباب (لا ضباب ولا طيزي!) إننا ذاهبان إلى مطعم صينيّ خلاب، فحمدتُ هُبل لأنني لم أتناول لانش ثقيلا وتأبطتُ معدتي السعيدة.
تعرفتُ إلى أبو علي قبل سنوات طويلة، في بداية “لخة” مسرح الميدان. مع الوقت، وعبر الجلسات والأحاديث بدأت بالتعرف إلى تاريخه النضالي في السبيعينات، وسجنه لأربع سنوات وعمله في لندن في الصحافة العربية وصداقاته المتينة مع عائلة أبو جهاد ومع ناجي العلي وغيرهما من رموز النضال الفلسطيني. في المطعم روى لي أشياء وشويّات، فازداد حبي له. تحدث طويلا، لساعات، وأنا أصغي إلى تفاصيل لا تخطر ببال ولا نعرف نحن (الجيل الجديد) عنها إلا لمامًا. في مثل هذه الجلسات تكتشف التفاصيل اليومية الصغيرة التي تملأ السجون أو العمل النضالي، وهي أجمل وأقوى وأبهر من الشعارات النضالية الكبيرة بكثير.
كان العشاء الصيني (في مطعم “الأرض الطيبة” على مبعد ساعة من لندن) هائلا وعظيمًا، وأسفتُ أشدّ الأسف حين بدأت أشعر بالشبع. في طريق العودة أحسستُ بأنني، رغم انقطاعي هنا رغمًا عني، لست مقطوعًا من شجرة. إلى جانبي رجل مع تاريخ أدّعي أنني أعرفه، وبعد قصصه وحكاياته تأكدتُ (مرة أخرى) كم أننا لا نعرف شيئًا عن هذا الذي يسمي نفسه تاريخًا.
نزل السرور
بالأمس (الأربعاء) تركت الفندق الجميل، باتفاق مع المنظمين. فقد كانت الخطة أن يدبّروا لنا منازل متفرقة في لندن يسكن فيها المتطوعون والعاملون في المهرجان لإيوائنا فيها. حين قالت لي سارة تفاصيل الخطة، لم أتحمّس كثيرًا، فألمحتُ إلى الرفيق أبو علي والرفيق مهدي (فليفل) بوجوب الانتخاء باستضافتي، فانتخيا فورًا. وقبل تركي للفندق (الثلاثاء) وصلتني دعوات سخية من السينمائي عمر روبرت هاملتون (لا أعرفه مسبقًا ولكنه اقترح منحي بيته ريثما أسافر، وهو مسافر) ومن العزيزة أهداف سويف (المسافرة أيضًا)، والبيتان في منطقة ويمبلدون. ورغم امتناني الكبير لهما على هذا السّخاء، قررتُ أخيرًا أن ألجأ إلى بيت مهدي، حيث قال لي وقتها: “ليك يا مان، شو بدك بويمبلدون؟ بآخر الدنيا. تعا عندي”. استجبت لندائه من دون أن أعرف أنّ بيته في آخر الدنيا أيضًا في شرقي لندن!
وقد اكتشفت أنّ الإدارة قررت إبقاء كاتبين اثنين في الفندق، فقط: د. نوال السعداوي والكاتب الكوبي ليوناردو بادورا؛ الأولى غنية عن التعريف وبعد أحاديث معها اتضح أنّ لها أقارب في عكا (وبعدين؟ مين ما أشوفو في العالم بطلع عندو قرايب في عكا!)، فيما كتب بادورا ما يُعرف بثلاثية كوبا، قرأتُ منها الكتاب الأول وهو جدير بالقراءة لمحبي القراءة عن شظف الحياة والبؤس والشهوة والجنس. وعلمت أنّ الاعتبار في إبقاء الاثنين ينبع من تقدمهما في السنّ ومكانتهما المرموقة، فحزنت لأنني في منتصف الثلاثينيات ومكانتي لم ترتقِ بعد إلى مستوى مثل هذا التفضيل الإيجابيّ.
ما يهمنا من كل هذه الفقرة أنني وأنا على باب الفندق قبل الرحيل، أخبرتني سارة أنني كنتُ سأنتقل إلى السكن مع كات، العاملة في “بن إنترناشيونال” فحزنت حزنًا عظيمًا (بعد إذنك إم الدشة)، حين فضّلت مهدي على كات…
رفيق، يا رفيق…
مهدي مريض في هذه الأيام. معدته مرتبكة ونقضي ساعات وساعات في الحديث والتأمل والمشاركة. فتح لي قبله ففتحت قنينة ويسكي أخرى من القناني الصغيرة التي أشتريها من المطار وتظل في المحفظة تحسبًا لأيّ ديوانة تستوجب بعض الأثير المُأكسَد. البيت الذي يسكنه شرقي لندن في مراحل الترميم الأخيرة، اشتراه أندريه قبل فترة في مزاد علني. البيت قديم ولكن أندريه نجح في خلق فضاء جميل من ثلاث طبقات يسكنها أندريه وحبيبته ومهدي والعزيز يزن الرامالاوي الذي يعمل في الهندسة المعمارية ويحضر للقب الثاني في الموضوع في جامعة لندن.
أنا أحتلّ مكتبه الآن في غرفته الواسعة وأدخن قرب الشباك المفتوح، رغم أنّ نسيم لندن البارد يفعل أفعاله بخصيتيّ. لو أنّ هذا البيت عندنا، في الناصرة مثلا، لكان عنوانه: أنا ساكن عند الكراجات خيا. فحول البيت ورش وكراجات وصراخ وروائح زيت البريكات وزيوت “المواتير” (على رأي مهدي) تستقبلك، فشعرت بالألفة فورًا ونسيت على التوّ رائحة الصابون الجميلة في الفندق الدثير، فلم أعد شاعرًا بأنني طُردت من الجنة؛ ربما انتقلت إلى جنة “كلاس تو” فقط.
سأطير غدًا الجمعة إلى البيت. أشتاق للدشدوشة ملء حبي لها.
ونصيحة أخيرة: إذا علقتم يومًا في لندن فلا تشتروا كتبًا بمعظم النقود. خصوصًا أنّ وزن الشنطة تجاوز المسموح بكثير. هل سترأف بريطيش إيرويز بحمولتي الزائدة باعتباري من متضرري البركان؟
(لم أكتب عن خيبة بيروت. ربما لاحقًا. فالأمر بحاجة إلى بعض الصفنات على بلكونة البيت في عكا.)
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 22 نيسان 2010)