باريس: اليوم الرابع

دشة مع لعبتها الجديد. اخر صورة من الوطن

سهى. اين البوصلة؟

ايلي. مطكطهنش

هيام. دير حناوية بارسية

نيكولا. عكاوي عاشق

درة. منتجة ولطيفة في نفس الوقت

نصحتني هيام بالتوجه إلى أحد متاجر شبكة “القارب الصغير” لملابس الأطفال للتبضع بحلل جديدة لدشة الآخذة في التوسع. بعد أن رطنتْ بالفرنسية مع سهى في الهاتف أسماء أماكن لا أذكر منها شيئًا، هطلنا إلى المقهى الأليف لتناول الغداء وإذ بدُرّة لا تزال هناك، ومعها نيكولا. دُرة هي منتجة تونسية أنتجت فيلم “حرير أحمر” الذي مثلت فيه هيام (رقصت بالأساس) وأخرجته رجاء عماري. وقد جلسنا إلى الاثنتيْن في الحادية عشرة صباحًا من ذات اليوم، في ذات المقهى، نحتسي الشاي الأخضر (والعضرا!) ونتحدث عن السينما ومَن يخرج ماذا ومَن ينتج مَن.

وقد أسهبنا هيام وأنا في الحديث عن الفيلم الذي نكتبه (حسنًا، هي التي أسهبت) وعن مشاهد الحب والتعري والتمزمز التي تملأ الفيلم. وقد فكرتُ بصوت عالٍ في القعدة بأنّ هذا سيكون ربما أول بورنو فلسطيني، فضحكنا ملء أشداقنا، ثم خفتت ضحكتي حين تذكرت أنّ أبي وأمي سيشاهدان الفيلم، وحماي وحماتي، وأنسبائي وأقربائي، في الوطن والشتات. تمعنتُ في هيام طويلا وفهمت الفخ الذي تنصبه ليه: هي في باريس، مدينة الأنوار والتنوير (للفرنسيين فقط)، فماذا يهمها؟ وأنا؟ ماذا سأفعل بجحافل المؤمنين والمؤمنات الذين يخافون الجنس والحب والتمزمز؟ هل ستكبر دشة بلا أب وما ذنب ديناصورتي البريئة بكل هذا؟

إلتقيت دُرة في ورشة السينما MFD التي شاركت فيها في مدينة مراكش في المغرب قبل ثلاث سنوات (أو سنتين- لا أذكر)، بنفس السيناريو الذي نعمل عليه (عفت طيزي من هالفيلم!)، وقد سافرت وقتها إلى مراكش ثلاث مرات في نفس السنة، حيث كثرت الزبدة على العرب وفاضت (فسّرت لي هيام أنّ الفرنسيين يطلقون كلمة “زبدة” على العرب المهاجرين في فرنسا، حيث أن الكنية هي كلمة “عربي” بالفرنسية ولكنها معكوسة ترتيب الحروف). دُرة امرأة جميلة ومُحبة وصادقة وعفوية مع أنها منتجة هامة ومعروفة (هذا الدمج نادر جدًا في عالم السينما)، وهي ترأس اليوم صندوقًا لدعم السينما في فرنسا، وقد أنتجت مؤخرًا الفيلم الثاني لرجاء، والذي بدأت عروضه الافتتاحية.

طبعًا، هيام بدأت الحديث من طق طق للسلام عليكم، من الترميمات التي تقوم بها في البيت حيث توسع شقتها بعد شراء شقة الجيران (ذكرتني بالنكتة عن مقاول البناء الذي تزوج اثنتين ففتحهما على بعض)، وحتى طرائف وقصص لينا ومنى، ابنتيها الجميلتين. كان من المنعش أن ألتقي دُرة بعد هذه الغيبة، وإذ بي ألتقي نيكولا أيضًا على الغداء، وهو مخرج ومنتج قدم لنا ورشة في مراكش وقتها. حدثني عن الفيلم الوثائقي الذي أخرجه عن غزة بعد العدوان عليها، حيث دخل غزة بعد أسابيع قليلة من العدوان، بثلاثمئة وخمسة وستين ألفًا وسبع وأربعين واسطة ومداخلة ورسالة وبيانًا. اسم الفيلم “عايشين”، وقد بدأ عرضه في المهرجانات، ولا شك في أنه من الأعمال السينمائية النادرة التي أنتجت عن غزة بعد العدوان عليها.

يحادثني نيكولا بالعربية من مرة لأخرى، وأتفاجأ، ثم يشرح لي أنه متزوج من عربية فأتفاجأ أكثر. ثم يبطحني أرضًا حين يقول لي إنّ اسم شركة الانتاج التي يديرها “عكا”، وقد أسماها على اسم مدينة الجزار، التي يحبها كثيرًا. ثم يقول لي إنه أنتج وأخرج في مطلع التسعينات فيلم “الكفوف الذهبية” عن نادي الملاكمة المعروف في عكا، ثم يسألني بثقة عن أبرز الملاكمين العكيين من عائلة خاسكية، فأتظاهر بأنني أعرفه، وأستزيد. ثم تحول الحديث إلى منحًى حزين بعض الشيء حين حدثته عن معشوقته (عكا) وعن بيع بيوتها للمستثمرين والمستوطنين اليهود، وعن الجريمة والمخدرات والعنف والإهمال. ثم رويت له ما روته لي إم الدُشة عن إطلاق النار الذي حصل قرب بيتنا قبل يومين حين دهم بعض الشبان البيت ليقتلوا أحد الأبناء الشباب فيه، فهرب الشاب فما كان من المعتدين إلا أن أطلقوا النار على أبيه!

هذه هي حال عكا مؤخرًا، أتنهد وأنا أقول له، ثم يحك دماغه ويطلب المزيد من المعلومات عن فلسطينيي الداخل، فلا أبخل، فيزداد إحباطه، ثم يستعيد عافيته كسينمائي مدمن، وتبرق عيناه وهو يتساءل مع نفسه أكثر مما يُسائلني: ربما من الجدير صنع فيلم عن هذا الوضع.

ألتقي بسهى عند نهاية العالم، نحو اليمين قليلا، في حي البرجوازية الباريسية المتعفنة أجبانها. تقول إنها تسكن هنا لقرب المكان من مكان عملها وعمل بيار، زوجها العتيد (في 26 تموز المقبل في الناصرة؛ عليكو عزومة). نتمشى في الشوارع العريضة الفسيحة النظيفة البيضاء وأتضايق من صفاء الجو والهواء، كمن اعتاد على تلويث باريس الجميل. تقول لي إنّ الحي يفيض على جانبيه باليهود الأغنياء، وهم أنفسهم من يدعمون الدولة الصهيونية، فتنتابني رغبة هائلة في القرفصة في وسط الشارع وإلقاء خرائي الفلسطيني الثائر في هذه البقعة الصهيونية من باريس، إلا أنّ توقف سهى فجأة وإدارتها لرأسها بحيرة وسط مفترق الشوارع، يعيدني إلى الواقع، وألفاها تقول ببعض المرح القلِق: “أنا مش منيحة بالجغرافيا”. أسبّ تركيبة النساء الوراثية التي تجعلهن ضعيفات في الجغرافيا الحيزية، ثم تنقذ سهى نفسها بأن تقترح أن ندخل محل الملابس هذا للأطفال قبل أن نصل المحل العيني الذي أرسلتنا هيام إليه، كرّم الله وجهها.

نشتري طقمين “بهبلوا” لدشة العربيدة، وتنتخي سهى فتشتري حذاء زهريا هدية لدشة أيضًا، فأضطر لدعوتها على القهوة والتريسيمو ثم العشاء، كي أردّ لها الصاع صاعين! والحقيقة أنني أصريتُ على عزومتها كمكافأة على خدمات الإرشاد التي توفرها لي كلما أتيت باريس، ولم أفطن إلا وأنا في الميترو عائدًا إلى الفندق، إلى أنّ سهى وفرت لي في الواقع خدمات “ضياع” في باريس وليس إرشادًا (عزمتها على الفاضي). وقد اضطررت في نهاية الأمر إلى توجيه مسارنا إلى بيت الرفيق أيلي، وهو يلقنني على الهاتف المحمول إرشادات جغرافية عجزت سهى عن ترجمتها إلى خطوات فعلية على أرض باريس.

يقطن أيلي في شقة باريسية حسناء، باهرة الضياء، بحبوحة العيش، لا تعرف الهراء. وفورًا يصب لي مدعوقًا عربيدًا أحضره معه طازا من عند صديقه الكاتب المعروف جون بيرجر، وهو أشبه بخلطة من الحكول ونكهة برية عطرة، فتحت لي مجاري التنفس والكلام والبول بعد أول رشفة صغيرة. وما هي إلا لحظات حتى أبرم إيلي وسهى سلام الشجعان النصراويين، وبدأا الحديث عن حارة البرتيس والروم، والكاثوليكيين والموارنة والسنة، وأنا في الوسط أحاول أن أتتبع خيوط المؤامرة النصراوية التي سيطرت على هذه الشقة الباريسية الجميلة فحولتها إلى زاوية منزوية في مقهى “الرضا”.

يعمل إيلي على فيلم جديد يهدس به، ويحدثني عن طريقة كتابته وإخراجه للأفلام وتطبيقه للأفكار التي تلاحقه (التفاصيل في كتاب “فضائح فلسطينية في باريس الأبية”). أحاول أن أسرق منه سر الصنعة، أو على الأقل بعضًا من ملامحه، ثم نُشرّق ونُغرّب ونمسك شل الحركة السينمائية من مشرقها إلى مشرقها (التفاصيل في الكتاب آنف الذكر). لا ينسى إيلي الإشارة إلى كرشي المتنامية، ثم لا يتمالك نفسه فيهدّ قليلا على أخي عامر، صديقه اللدود، فأهدّ قليلا على أطراف عائلة سليمان، وأشعر بالطمأنينة لأنّ الحديث في نهاية المطاف دار ودار واستقرّ في الحمائل والعائلات، حفاظًا على التقاليد. فأكلنا المزيد من الحلوى التونسية الشهية التي أحضرها معه من الدولة الخضراء.

تدخل ياسمين، عزيزة أيلي التي تشاطره الشقة، وفورًا تنزلق مع سهى في محادثة هامة ومثيرة حول اللهجات والكلمات النصراوية، والفرق بين الفلسطينيين واللبنانيين. وقد أسرّتْ إلينا ببعض الكلمات النصراوية التي يصرّ إيلي على حملها معه (نيويورك فباريس)، وأفظعها لا شكّ كلمة-جملة “مَطِكْطهنِّشْ” (لم أُطِقهُم). نضحك ونشير إلى إيلي بأنّ النصراويين الأقحاح أنفسهم توقفوا عن قول مثل هذه الكلمات، ونناشده الحفاظ على مياه وجوهنا أمام هذه الجنوبية الموسيقية التي سرقت من سهى تعبير “مِنينا ولا مِنيكو؟” لأغنيتها القادمة (وكل واحد يقراها كيف بدو).

منذ يومي الأول أُغرمتُ بالبط. وبعد الخروج من عند إيلي وياسمين نجلس، سهى وأنا، في مقهًى مجاور لشقتهما، ونأكل. أطلب البط مع البطاطا وخلافه، وتأكل سهى سلطة فرنسية عليها شرائح خبز محمص مع جبنة زرقاء متعفنة من فوقها. نتحدث عن الأطفال وعن التغييرات في الحياة وعن الزواج والبيروقراطية الفرنسية وكسل موظفي البريد في فرنسا. كما نستلم شلّ هيام لأنها بعثت بنا إلى محل للملابس يحتاج إلى ميزانية ضخمة مثل ميزانية ممثلة سينمائية تشارك في خمسة أو ستة أفلام في السنة وتقبض باليورو. مثل هيام مثلا.

حين نفترق في محطة المترو، نتفق على محاولة الالتقاء مجددًا قبل عودتي، الأحد، ثم توشك أن تغادر سهى وهي تحمل كيس الورق الذي يضم هديتها لدُشة (الحذاء الزهريّ)، فألحقها وأمسك بتلابيبها مذعورًا.

في المقطورة أفكر فيما إذا كانت سهى نسيت أم تناست الكيس، كيف تبعث الحذاء إلى ابنة أختها. وعندها يمكنها أن تقول إنها اشترت هدية لابنتي ونسيتُ أنا أن آخذها، ثم تهديها لابنة أختها، وهكذا تضرب طفلتين بحذاء واحد. ولكنني تراجعت عن هذه المؤامرة، خصوصًا حين تذكرتُ أنّ سهى لا شكّ تائهة الآن في أنفاق المترو، لا تعرف الشمال من الجنوب، فأرسلتُ إلى باريس طاقة إيجابية حارة، إعتقد الجالس إلى جانبي أنها روائح هضم البط خرجت من أسفل معدتي المضطربة، فقام وبدّل مكانه.

ملاحظة رقم 1: جميع المكتوب عنهم والمصوَّرين في هذه المدونة تلقوا الإنذارات والتحذيرات الشفوية والخطية بشأن التدوينات اليومية وطابعها الساخر المتعفن، مما اقتضى التنويه.

ملاحظة رقم 2: للحيارى من القراء والقارئات الذين يتساءلون عن اليوم الثالث وماذا حلّ به أقول: عملت مع هيام حتى المساء ونمت في الساعة الثامنة كالقتيل واستيقظت في الثامنة صباحًا من اليوم الرابع. ستتفقون معي أنه يوم غير جدير بالتكتكة على لوحة المفاتيح، إلا إذا كانت شهيتكم مفتوحة لتعرفوا في أيّ مشهد “ينط البطل على البطلة”- على حدّ تعبير الديرحناوية الجميلة.

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 11 آذار 2010)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *