باريس: اليوم الأول
وضعتُ رواية “روائح ماري كلير” (للتونسي الحبيب السالمي) في محفظتي، من بين سائر الكتب التي على المنضدة (وديوان لعناية جابر). لم أكن أعرف أنها تسجل قصة حب في باريس، ولكنني كنتُ قرأت عن تميز هذه الرواية، فقلتُ أقرأها في الطائرة. حملتني الرواية بهدوء وبلا “دراماتيكية” تُميّز روايات الحبّ، إلى باريس، وحين حطت الطائرة في مطار شارل ديغول كنتُ قد قطعت ثلثيها على الأقل، وكانت قصة الحب بين الراوي وماري كلير قد بدأت تتدهور، وفق جميع علائم انتهاء الحب (تعرفونها؟.. أصعبها التجاهل).
هكذا حطت الطائرة وأنا أعيش تفاصيل احتضار حبّ باريسيّ، من دون أن أعيش حبًا كهذا، يتمناه جميع الرومانسيين (الأحياء منهم والأموات). كانت باريس نائمة في السادسة صباحًا وكان البرد ينخر جسدي، وندمت أشدّ الندم لأنني لم آخذ معي الكلاسين البيضاء الطويلة التي نبهتني إليها أم الدشة ولم أنتبه. باريس باردة في هذه الأيام، ولكن ألفة كبيرة تلفني معها اليوم، على خلاف المرة السابقة، التي كانت سريعة ومقتضبة: “كويكي على الواقف”. حتى متحف اللوفر بدا باسمًا هذه العصرية (من دون علاقة بأنّ الدخول إليه اليوم مجانيّ) ولم أكترث للريح الصّرصَر التي هبت على ساحة الكونكورد والمِسلة الفرعونية (الملطوشة) التي تنتصب في وجه لا أعرف من.
اليوم الأول في باريس جميل، ويبدو أنّ نصائح العزيز بيار ستفعل فعلها. طلبتُ منه أن يسمي لي معالم وأماكن جديرة بالزيارة، ولم يبخل، بل استزاد، وأعتقد أنني في ورطة الآن، لأنّ الوقت الممنوح لفسحي محدود، وسأضطر إلى تحمل عتاباته الودية وهو يسأل بتعجب (في الأيميل): لا؟ ما زرت “ثياتر دي لا فيل”؟؟ له له يا رفيق!
يقع الفندق الذي أنزل فيه في المنطقة الضبابية العصية على التعريف، بين “حقير” و”متواضع”. ورغم أنه آيل للسقوط في كل لحظة إلا أنّ فيه “واي فاي” وببلاش. وقد اقتصر فطور الفندق هذا الصباح على قهوة سوداء وبعض الحليب، كروسون واحد صغير وربع (يمكن ثمن) باغيت، إلى جانب قطعة زبدة ووجبة مربى صغيرة. ما يشبه فتحة النفس ليس إلا. كمية الطعام التي أزدردها على الواقف، حين أستيقظ، قبل تنظيف أسناني، قبل أن أجلس إلى الفطور. كنتُ أعتقد أنّ هذه هي المقدمة لا أقلّ، وأنّ البيض والمقانق (بالميم) والأجبان آتية لا ريب، إلا أنّ الفندقيّ المناوب ابتسم لي حين ابتسمتُ له، وفهمتُ. ولكن أكثر ما أغاظني أنه كان يجلس خلفي في السابعة والنصف صباحًا، لا أحد غيرنا في “غرفة الطعام”، وكان يمضغ الباغيت بصوت عال ثم يشفط القهوة شفطًا، فكانت كل شفطة وكل مضغة تقطعان أحشائي قطعًا، ولولا أنني أنحدر من عائلة لم يُخلق بعد مَن يسدّ شهية أبنائها، لقُمتُ من دون أن آكل وجبتي الضئيلة المتواضعة (لن أقول حقيرة).
في التاسعة مساءً يقرصني الجوع، فأقرصه. أبحث عن “أيّ حاجة في أيّ حته” تلائم ميزانيتي المتواضعة. يلهمني أنفي في اللحظة الحاسمة فأشمّ رائحة لحم ببهار عربيّ. بعد ثوان أراه: سيخ شوارما يسبّح الليل ورواده. هنا يسمونه “كباب” ولكن لن نتوقف عند التفاصيل. يطالعني وجه الكبابجيّ الملتحي بلحية غير حيادية، فأطلب دجاجًا بالإنجليزية، ثم أتذكر، فأسارع: “عربي؟” يبتسم ويقول: “مْنين؟”، أقول فلسطيني، وأرجو ربّ العباد في سري أن لا يسألني “مْنين؟” مرة أخرى، لئلا أدخل في متاهة عكا وعرب الداخل والثماني وأربعين وتصنيف الانتماءات وتقلبات الهوية والطقس وسراويل الحسيني الداخلية. يبتسم حين أقول له إنني فلسطيني ويسأل السّؤال الطبيعي بعد هكذا كلمة: “دْجاج بالكاري؟ بالبازيليك؟ بالخردال؟”. أبتسم ملء جوعي، وأطلب بالبازيليك. يحاول البائع أن يتودد إليّ لكنّ عربيته مثل فرنسيتي، فنصمت بعد حين وعيني على ساندويتش الدجاج وعيني الأخرى على القدس (بمزح معكو؛ عيني الأخرى على فرنسية حسناء، ولكن يجب على كل فلسطيني في العالم أن يحشو كلمة القدس في أي نصّ يكتبه، وها أنا قد انتهيت من “الكوتا” المقدسية المفروضة عليّ).
آكل ساندويش الدجاج بشهية وبعد اللقمة الثانية أندم لأنني لم أشترِ اثنين، إلا أنني أنظر إلى كرشي في المرآة وأشكر الآلهة أنني لم أشترِ اثنين، فأكتفي برقائق البطاطا المقلية المغمسة بالمايونيز، ثم أتحلى بتفاحة حمراء يانعة (سامعة مدام؟)، وأجلس إلى الحاسوب وأعمل على السيناريو.
أتفحص الإيميل. لا شيء مثيرًا. أقرر أن أكتب يوميات باريسية حتى عودتي ونشرها في المدونة. أستسخف الفكرة؛ من بحاجة إلى هذه الترهات؟ ولماذا يجب نشرها على الملأ. لو كنتُ فاتحًا غازيًا أو ظافرًا لقلنا “محمولة”. بعد نصف ساعة من تقليب المحطات الأربع الفرنسية في التلفزيون المتحشرج، أعود إلى الحاسوب وقد قررت أن أكتب هذه اليوميات وأنشرها. يعني إبراهيم كناعنة أحسن مني؟
سأنهي الليلة “روائح ماري كلير” وقد أقرأ قليلاً من ديوان عناية جابر الذي اصطحبته معي أيضًا. إشتريت أيضًا من المطار كتاب “صورة دوريان غري” لأوسكار وايلد بترجمة جديدة (بالعبرية). سأقرأه أيضًا. ولكنني أشتاق إلى دشة شوقًا هائلاً. أقلب صورها في ذاكرة الحاسوب. أحبها. أنام على صوت مكاغاتها وصراخها العصبي وهي تهجم على أنفي لتعضه، كما تحبّ أن تفعل.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 8 آذار 2010)