امتحان الأخلاق
علاء حليحل
يمكن التعامل مع الكاتب سامي ميخائيل، يهودي عراقي الأصل، على أنه عربي بكل معنى الكلمة. كان عضوًا في الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ومحررًا في صحيفته “الاتحاد”، وهو يعرّف نفسه على أنه يهودي عربي. بالنسبة لي كفلسطيني يعيش في هذا الزمن المجنون، لم يكن ليضيرني أبدًا الاستماع إلى رأي ميخائيل، العراقي، عمّا يحدث الآن. “أنا أتعامل مع ما يحدث على مستويين”، قال ميخائيل لـ “المشهد الاسرائيلي”، مساء الأربعاء الماضي، “المستوى الشخصي والمستوى السياسي. من الناحية الشخصية ها أنا ذا أرى الشعب العراقي على وشك أن يُغتصب مرة ثانية. ومن سيدفع الثمن هم أبناء هذا الشعب. ولا يكفي هذا الشعب الفقير والمحاصر أنه يعاني من ظلم الحكم فيه، فيأتي الأمريكيون ليعاقبوه بهذه الحرب، بينما تعرف القيادة العراقية كيف تحمي نفسها جيدًا… هذا يؤلمني على الرغم من أنني بعيد عن العراق منذ عشرات السنوات.. ولكن بغداد هي مدينتي التي ولدت وبقيت فيها حتى سن الـ 22. وهناك حاربت مع عراقيين كثيريين لتغيير الأنظمة السائدة”.
من جهة أخرى، الكاتب الاسرائيلي أ.ب. يهوشواع لا يعرف بعد ما إذا كانت هذه الحرب أخلاقية أم لا. في حديث له لـ “المشهد الاسرائيلي”، هذه الليلة (السبت)، قال إنه سيقرر بعد أن تنتهي الحرب. بالنسبة له الامتحان هو “إمتحان السلاح”. يهوشواع: “لو عثرت الولايات المتحدة على أسلحة للدمار الشامل في العراق، على عكس ما ادعى صدام، فيمكن القول عندها إن هذه الحرب هي أخلاقية. كنت أفضل لو دخلت جيوش من دون حرب للبحث عن هذه الأسلحة، ولكن أعتقد أن العراق لم يكن ليقبل بذلك… وفي حالة لم يجدوا أسلحة للدمار الشامل؟ عندها ستكون هذه الحرب غير أخلاقية”.
يهوشواع تحدث كثيرًا عن الأسلحة ولم يتطرق للرئيس العراقي صدام حسين. لماذا، ألا يهمك أمره؟.. “صدام لا يحبه أحد، ولكن تبرير احتلال العراق ينحصر فقط في أسلحة الدمار الشامل. وأنا لا أعتقد أن هناك حاجة للتدخل الخارجي من أجل تغيير أنظمة غير عدوانية، حتى لو كانت دكتاتورية. يوجد اليوم دكتاتوريون وهناك وسائل أخرى غير الحرب لمقاومتهم، مثل العقوبات الاقتصادية. كما أن الديمقراطية لا تبرر إحتلال دولة أخرى”.
في المشهد العام السائد اليوم في إٍسرائيل تبدو أقوال يهوشواع شاذة وخارجة عن المألوف. فهو يقول إن العرب يعون تمامًا ما يجري في بلادهم، “وصدام”، يقول بتوتر، “هو غبي ومجنون في نفس الوقت. فهو ليس قويًا حتى لكي نشبهه بهتلر. في الحرب الأولى قتل 145 جنديًا من الطرف الغربي، منهم 70 قتلوا في حوادث عسكرية”. كما أن يهوشواع لا يدق طبول الحرب، التي ترقص عليها إسرائيل. سألته عن التلميحات الاسرائيلية لضرورة الاستمرار في هذه الحرب في سوريا وأيران. يهوشواع: “سوريا هي عكس العراق تمامًا، مع أنه لا تسود فيها الديمقراطية ويحكم فيها حزب ‘البعث‘. ولكن سوريا دولة حذرة جدًا، وليس هناك تبرير لاحتلالها. كما أن سوريا تحترم الاتفاقات وكانت على مر الزمن حذرة، ويمكن القول إنها كانت حذرة أكثر من اللازم”..
سامي ميخائيل قال إن المعارضة الفرنسية والألمانية هي نفاق وهي مبنية على مصالح، هل توافقه، سألت يهوشواع. “على العكس تمامًا، لماذا؟.. فرنسا وألمانيا عبّرتا عن موقف شرعي وواضح للغاية ضد الحرب”. وماذا مع ما كتبه يوسي سريد في “يديعوت أحرونوت” الأسبوع الماضي بأن هذه الحرب ستقضي على الحلف الأطلسي وستهين مكانة أمريكا في كل العالم؟.. يهوشواع: “لا أوافقه. الحلف الأطلسي هو حلف قديم ولا أعتقد أنه ما زال جديرًا بالبقاء اليوم. وبالنسبة لمكانة أمريكا فهي ليست كما يصف. هناك إختلافات في الرأي في العالم بصدد الحرب، والدنمارك وهولندا مع الحرب مثلا”.
يهوشواع يقول إن الحرب ستنتهي بشكل جيد في حالة التوصل إلى إتفاق بين الاسرائيليين والفلسطينيين. هل أنت كإسرائيلي مع إتفاق يُفرض على الطرفين؟.. يهوشواع: “أنا أدعو لمثل هذا الفرض من أجل حل المسألة”. يهوشواع يقارب في حديثه بين عرفات وبين صدام، اللذين يضران بمصالح شعبيهما على حد قوله، ولكنه يشدد على أنه لا يقارن بينهما: “أنا لا أشبّه عرفات بصدام. أنا أعتقد أن الشعب الفلسطيني هو الوحيد المخوّل بتغيير عرفات، ولذلك أرى في تعيين أبو مازن أمرًا جيدًا.. هذا حصل في السابق عندما قاد جمال عبد الناصر مغامراته، وأتى من بعده السادات وحقق السلام”. إذن أنت تقول إن عرفات هو عبد الناصر وأبو مازن هو السادات؟.. “أجل، آمل ذلك”.
صوت ميخائيل عبر الهاتف يأتي ضعيفًا وبعيدًا بعض الشيء. أخاله يتحدث من بغداد الحزينة. لماذا من الصعب على العراقيين أن ينحّوا صدام وأمثاله عن الحكم، أهو قوي جدًا أم أنهم ضعفاء جدًا؟.. ميخائيل: “الحكم العراقي موجود في مركز للسُنيّين، وهناك خشوْا دائمًا من التهديد المفترض الذي يمثله الشّيعة في الجنوب والكرديون في الشمال. وقد استغلت القيادات التي نشأت في هذا المركز هذه القضية دائمًا لتثبيت حكمها، تمامًا كما تستغل إسرائيل القضية الفلسطينية هنا… كما أن التحالف وقتها بين الاتحاد السوفييتي والدول العربية أدى لتزوّد هذه الدول بمعدات حربية متطورة جدًا للتخويف والعمل المخابراتي، بحيث أن من عارض الحكم واجه مصير الموت أو السجن”.
أي أنك تتهم الاتحاد السوفييتي بما يحصل في الدول العربية؟.. “كلا، حاشا وكلا”. وما الحل الآن؟.. “الحل هو تفعيل وسائل ضغط أخرى، مثل العقوبات والضغوطات الاقتصادية، كما يُفعل في سائر مناطق العالم، وكما جرى مع جنوب أفريقيا.. وتعالَ لا ننسى أن الولايات المتحدة هي المذنبة الكبرى في هذا الوضع، لأنها أبقت صدام في الحكم في 1991، وكان بإمكانها أن تطيح به، ولكنها خشيت ممن سيأتي بعده، ولأنها أرادت أن يقوم بقمع التمردات في الشمال والجنوب”. وهل ترى في موقف فرنسا وألمانيا بالتحديد موقفًا عابرًا أم بداية لتحوّل ما؟.. ميخائيل: “أبدًا، بالمرة. الكل نفاق ورياء. ففرنسا أعلنت أنها ستنضم للحرب لو استخدم صدام الأسلحة غير التقليدية. وفرنسا تعرف أن الولايات المتحدة تستطيع القيام بالمهام على أتم وجه، ولذلك بقيت في الخارج وهذا أفضل لها”.
أ.ب. يهوشواع لا يرى في إلقاء القنبلتين الذريتين الأمريكيتين على اليابان أمرًا غير أخلاقي. “بالعكس”، قال مشددًا، “هاتان القنبلتان وفّرتا حياة الآلاف من الطرفين. واليابان تستحق ما جرى لها بسبب قسوتها ووحشيتها في آسيا وغيرها من البلدان”. بنفس الروح، يمكن القول إنه كان من حق الجزائريين إلقاء قنبلة نووية على فرنسا، بعد أن قتلت الأخيرة مليون جزائري في حرب إستقلالهم؟.. يهوشواع: “نعم، هذا كان سيكون أخلاقيًا”. ويهوشواع لا يرى في تنفيذ أعمال تفجيرية أو غيرها ضد مواطنين أمريكيين اليوم، من قبل العراق، أمرًا غير أخلاقي. في نظره، على مواطني الدولة الذين يؤيدون الحرب أن يتحملوا نتائج ذلك. هو لا يدعو إلى ذلك بالطبع، ولكنه لا يرى فيه أمرًا غير أخلاقي. تمامًا مثلما لا يرى في قتل المواطنين الألمان في نهاية الحرب العالمية الثانية، أمرًا غير أخلاقي. بالنسبة له، إمتحان الأخلاق يجري على الجميع، وفي الحرب كما في الحرب!
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في آذار 2003)