النخب الثقافية في إسرائيل تتقمص دور “القوة الناعمة” (1-2)
أنطوان شلحت وعلاء حليحل
جرت العادة، في كل مرة تشن إسرائيل خلالها حربًا على الفلسطينيين أو على العرب، أن يعلن الأدباء العبريون موقفًا منها، باعتبارهم “حراس شرف الكلمة” في عُرف الذهنية الإسرائيلية العامة. وتتجه أنظار الرأي العام في العقود الأخيرة، على وجه التخصيص، إلى ما بات يعرف بـ “الترويكـا” الأدبية الإسرائيلية والمؤلفة من أبرز ثلاثة كتاب، وفقًا لأحكام المؤسسة الأدبية العبرية، وهم عاموس عوز وأ. ب. يهوشواع ودافيد غروسمان.
ونشير بداية إلى أنه في إبان حرب لبنان الثانية، في صيف 2006، مثلاً، تحركت هذه “الترويـكا” معًا وعممت، في يوم 6 آب/ أغسطس من ذلك العام، أي بعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على اندلاع الحرب، نداء من خلال صحيفة “هآرتس” دعت فيه إلى أن توافق حكومة إيهود أولمرت على “اتفاق متبادل لوقف إطلاق النار”.
وجاء في ذلك النداء ما ترجمته الحرفية التالية:
“إن عدوانية منظمة حزب الله استلزمت أن تقوم إسرائيل بعملية عسكرية واسعة النطاق للدفاع عن نفسها، سواء أضد هذه المنظمة ذاتها أو ضد السلطة اللبنانية، التي تقدّم الحماية والدعم الكاملين لهذه المنظمة الإجرامية، التي تؤيد إبادة إسرائيل.
“إن هذه العملية العسكرية عادلة ومبرّرة في نظرنا من الناحية الأخلاقية، وهي تلائم الشرعية الدولية بشأن الدفاع عن النفس في وجه عدوانية دولة عدو. وعلى الرغم من أنه جرى، في أثناء هذه العملية، المسّ بمدنيين كثيرين من سكان دولة العدو فإن هدفها لم يكن بتاتًا قتل المدنيين لمجرّد ذلك، خلافًا لمنظمة حزب الله التي عمدت، في ظلّ حماية السلطة اللبنانية لها، إلى إطلاق آلاف القذائف والصواريخ على بلدات في إسرائيل وإلى قتل عشرات المدنيين، يهودًا وعربًا على حد سواء.
“إننا، في هذه المرحلة من الحرب، ندعو الحكومة [الإسرائيلية] إلى الموافقة على اتفاق متبادل لوقف إطلاق النار. وذلك من منطلق الافتراض بأن الأهداف المعقولة والممكنة لهذه العملية العسكرية قد تحققت، ولا مبرّر للتسبب في معاناة وسفك دماء إضافية للطرفين من أجل أهداف ليست ممكنة ولا تستحق هذه المعاناة. لا حق للشعب اللبناني في المطالبة باحترام سيادته إذا ما تلكأ في بسط مسؤوليته الكاملة على جميع مواطنيه وعلى جميع أراضيه. إن إصرار إسرائيل على الدفاع بحزم عن حدودها ومواطنيها تم توضيحه كفاية بحسب رأينا إلى الشعب اللبناني، ولذا لا حاجة إلى زيادة آلامه وآلامنا أكثر فأكثر. ومع كل تأييدنا المبدئي للعملية العسكرية الإسرائيلية، فإننا ندعو إلى الموافقة الفورية على وقف متبادل لإطلاق النار”.
وعلى ما يبدو فإن الحرب الإسرائيلية على غزة [جرى شنها خلال الفترة بين 27/12/2008- 17/1/2009 تحت مسمى “عملية الرصاص المصبوب”] لم تفلح في أن تجمع بين أضلاع هذه “الترويكـا” مرة أخرى، غير أن كلاً منهم لم يتلكأ في نشر موقفه على حدة.
كان البادئ غروسمان، الذي قتل نجله الأصغر في آخر أيام حرب لبنان الثانية، وذلك بواسطة مقال ظهر في صحيفة “هآرتس” يوم 30 كانون الأول/ ديسمبر 2008. وتلاه عوز بمقال في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 2008. ومن ثم يهوشواع بمقال في صحيفة “معاريف” يوم 6 كانون الثاني/ يناير 2009. كما أن غروسمان ويهوشواع نشرا مقالين آخرين في فترة لاحقة.
لكن على الرغم من هذه “الفُرقة”، التي لم نتعثر بأسبابها الحقيقية، ناهيك عن أنها لا تشكل شاغلاً مهمًا في هذا المقال، فإن المفارقة الرئيسة ظلت كامنة في مساحة الالتقاء بين المقالات/ المواقف الثلاثة ومقالات الأدباء الإسرائيليين الآخرين سواهم في معظمهم. ومن ناحية أخرى هناك وحدة في رؤية الهدف المرغوب إسرائيليًا. ثمة اختلاف لكنه يبقى شكليّا، لا يمس الجذور الحقيقية للموقف الإسرائيلي التقليدي إزاء الإنسان الفلسطيني. أمّا البديل الذي يطرح تغييرا جذريا لمحتوى العلاقات بين الطرفين، وقد يكون إيذانًا بحدوث اختراق معين، فقد ظلّ من نصيب فئات قليلة من الأدباء الإسرائيليين اليهود، ليست مؤثرة في المشهد الثقافي العام، على الرغم من رصانة خطابها، وعلى الرغم من كونه من ناحية منطقية الأكثر مدعاة للتعاطف والتماهـي.
يهدف هذا المقال، أساسًا، إلى دراسة مواقف الأدباء الإسرائيليين إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة. وقد ركزنا على مواقف شفّت عنها مقالات ظهرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة في أثناء الحرب وبعدها بفترة وجيزة. وهو يبيّن، على نحو حادّ وصريح وصاف، أن هؤلاء الأدبـاء أيدوا، في معظمهم، تلك الحرب فور الإعلان عن شنها، بحجة عامة فحواها أنها “حرب عادلة ومبررة” تتخذ من شعار “الدفاع عن النفس” المألوف ذريعة لها، باعتبار ذلك حقًا لا بُدّ أن تحظى إسرائيل به، على غرار سائر الدول في العالم، في إثر تعرضها لإطلاق الصواريخ والقذائف من قطاع غزة على بلداتها الجنوبية. غير أن تأييد الحرب وإبداء الحماسة لها لم يعمّرا طويلاً، حتى لدى الأدباء الذين لم يبهظهم شنها مطلقًا. وسرعان ما انطلقت دعوات من أجل إيقافها. وعلى الرغم من ذلك فإن مبررات تلك الدعوات لم تستند إلى مبادئ أو مقولات تحيل إلى قيم إنسانية عالمية عامة، وإنما نهلت من نبع أفكار عكرة تحيل إلى مسلمات صهيونية راسخة تغلب عليها عادة سمة الصنمية. وقد وقفت في صلب هذه الأفكار، مثلاً، فكرة “تلقين الفلسطينيين درسًا”، وفكرة أخرى فحواها “حتمية استعمال القوة”، وفكرة ثالثة مؤداها “أن العرب على وجه العموم لا يفهمون إلا لغة القوة”.
إن الصورة العامة، التي ترتسم للأدباء الإسرائيليين في العالم، هي أنهم “كتيبة أمامية” في ما يسمى بـ “معسكر أنصار السلام”. وفي كل مكان من العالم يعارض “أنصار السلام” استعمال القوة، بصورة مبدئية حازمة لا تقبل التأويل أو المساومة والمقايضة. أمّا في إسرائيل فقد بات استعمال القوة ضد الفلسطينيين والعرب أمرًا حتميًا حتى لدى “أنصار السلام”، بمن فيهم الأدبـاء. وقد أبانت الحرب على غزة، كما الحرب على لبنان، أن الإسرائيليين في غالبيتهم الساحقة أصبحوا أسرى “إجماع قومي جديد” مفاده أنه لا بُدّ من أن يذوق الفلسطينيون بأس القبضة الإسرائيلية الحديدية، أولاً ودائمًا. لكن يبقى هناك فارق طفيف هو أن “المعتدلين” من بينهم، أي “أنصار السلام”، يؤمنون بوجوب أن يترافق ذلك مع شعارات آسرة من قبيل “دولتين للشعبين” و”التطلع إلى السلام” و”ترجيح المفاوضات السلمية”، في حين أن “المتطرفين” من بينهم، أي “مناهضي السلام”، يؤمنون أن هذه الشعارات من شأنها أن توهن إسرائيل، علاوة على كونها مشعوذة، ولذا يمتنعون من إطلاقها بالشكل الأعمى أو غير المحسوب الذي يطلقه “المعتدلون”.
في مقالته “القوة والإستراتيجيا بعد العراق” الصادرة في مجلة “علاقات دولية” (Foreign Affairs) تناول الباحث والسياسي الأميركي جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة، باعتبارها أحد تجليات السياسات الأميركية العالمية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أكد في هذا السياق أنّ ما تقوم “القوة الناعمة” به هو الممارسات المكملة وأحيانًا البديلة لما أسماه “القوة الصلبة” أو “الخشنة”. والتعريف كما ورد عنده: “إن القوة الناعمة هي في جوهرها قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة، وذلك استنادًا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدلا من الاعتماد على الإكراه أو التهديد”. (1)
ويرى ناي أنّه في الإمكان نشر هذه الجاذبية، التي تقوم في أساس “القوة الناعمة”، من خلال طرق شتى، كالثقافة الشعبية والدبلوماسية الخاصة والعامة والمنظمات الدولية ومجمل الشركات والمؤسسات التجارية العاملة.
ويقوم ناي بحصر فاعلية وتأثير “القوة الناعمة” لأي دولة من الدول الكبرى في ثلاثة عناصر أساسية: الثقافة العامة، القيم السياسية والسياسة الخارجية المنتهجة. إنها القدرة على الاحتواء الخفيّ والجذب الليّن، بحيث يرغب الآخرون في فعل ما ترغب القوة المهيمنة فيه، من دون حاجة إلى استخدام القوة، أو بما يغني أصلا عن استخدام سياسة العصا والجزرة، كما يقول الباحث الأميركي. (2)
وعلى صلة بسياق الصراع العربي- الإسرائيلي يتعين أن نلاحظ أن الولايات المتحدة عملت على تطوير “القوة الناعمة” إلى منظومة محاور بارزة وثابتة، قسّمت العالم العربي والإسلامي، فعليًا، إلى محورين أساسيين: محور “المعتدلين” ومحور “الممانَعَة”. كما لا بُدّ من ملاحظة أن إسرائيل، كقوة لافتة في منطقتنا على الصعد العسكرية والثقافية والاقتصادية، سرعان ما تبنت هذه المنظومة، بل ونكاد نقول عملت على تطويرها وترقيتها إلى ما هو أبعد من الطرح النظري الأصلي الذي أتى ناي به، إلى ناحية ممارسة القوة الناعمة والقوة الصلبة في الآن ذاته!
فإسرائيل نجحت، ولبالغ الأسف، في تثبيت واقع مخادع يقوم على بيع صورة ديمقراطية ومنفتحة وليبرالية- غربية لها في العالم (الغربي بالأساس)، وفي الوقت نفسه ظلت تمارس وضعية احتلال لشعب آخر منذ اثنين وأربعين عامًا، وهي وضعيـة تتطور بمرور الوقت إلى أبرتهايد فعلي على الأرض، إلى جانب التمييز العنصري البنيوي ضد الأقلية العربية الفلسطينية فيها.
إذًن: القوة الصلبة في محاولة إخضاع الطرف الغريم (حملات عسكرية، حروب، اغتيالات، أسر وسجن، هدم بيوت، مصادرة أراضٍ… الخ). ومن جهة أخرى: القوة الناعمة التي تهدف إلى تكريس صورة مغايرة عنها تجاه العالم، وأيضًا وبما لا يقل أهمية- تجاه مواطنيها والرأي العام الداخلي الإسرائيلي- الذي يأخذه قباطنة إسرائيل الرسمية في الاعتبـار، وينقاد بدوره وراءهم انقيادًا شبه تامّ. (3)
إن المحور الأساس الذي سيشغلنا في هذا المقال هو: كيف تقوم النخب الثقافية والأدبية في إسرائيل بممارسة دور “القوة الناعمة” إزاء الرأي العام الإسرائيلي وإزاء الخارج، في غمرة الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين أو على لبنان، من خلال تجنيد الرأي العام أو عبر شرعنة الممارسات من طرف “رجال فكر وثقافة” يشكلون مرجعية لا يُستهان بها في المجتمع الإسرائيلي؟. وذلك في سبيل أن نطرح التساؤل: هل باتت هذه النخب تندرج في نطاق عناصر “القوة الناعمة” التي تشكل عاملاً مكملاً أو بديلاً لـ “القوة الصلبة”؟ وثمة هدف آخر يتغيّا هذا المقال أن يكشف عنه، أو أن يوسع دائرة الضوء من حوله، هو ارتباط ممارسات هذه النخبة بالمبادئ الأصلية، التي تتحكم بالممارسات الصهيونية إزاء الإنسان العربي عمومًا والإنسان الفلسطيني خصوصًا. وبكلمات أخرى محاولة تأصيلها من خلال ردّهـا إلى جذورها الحقيقية، التي لا تزال حاضرة بقوة في الوقت الراهن.
إن الدارس أو المتتبع للعلاقة بين أهل الفكر والأدب العبريين وبين الرأي العام اليهودي والإسرائيلي (قبل إقامة دولة إسرائيل وبعدها) في إمكانه أن يلحظ بسهولة ويُسر أن هناك عملية طمس ممنهجة ميّزت الأدب العبري وكُتابه إزاء الإنسان الفلسطيني والعربي، وبالأساس إزاء الرواية الفلسطينية. فمنذ الأيام الأولى للاستيطان الصهيوني في فلسطين التاريخية، في نهاية القرن التاسع عشر، ثبّت الأدب العبري ورموزه العربي والفلسطيني كإنسان بلا معالم، يقوم ويحيا ويتواجد في الحيز “الرعوي”، شبه البربري، الفلاحي، كخطر أمني أو إستراتيجي على الاستيطان وعلى احتمالات توسعه في “أرض الميعاد”.
وقد تقصّى الباحث الإسرائيلي يوحاي أوبنهايمـر هذه العملية منذ بدايتها وحتى يومنا هذا، في سياق دراسة تعتبر الأحدث في هذا الشأن، علمًا بأن هناك دراسات أخرى ليست أقل أهمية منها.
إن الاستخلاصات التي توصل إليها أوبنهايمـر في هذا الصدد لا تحتاج إلى شرح أو تعقيب، ومؤداها ما يلي: “لم تظهر روايتا النكبة أو النكسة بتاتًا في الأدب العبري، كما لم تُكتب أي قصة مدنية [أي خارج السياق العسكري الصدامي- أ. ش وع. ح] تتناول حيوات للعرب… تجري في مبعد جغرافي وبالأساس ذهنيّ عن التماسّ القومي”. ويزيد: “إن المشتكي هو المتضرر ويملك الأدوات لإثبات هذا. ولكنه يتحول إلى ضحية عندما يفقد هذه الأدوات… ويصبح عرض الغبن الذي لحق به غير ممكن”.
ويمضي أوبنهايمر في استخلاصه النهائي ليقول: “الأدباء اليهود يستصعبون عمومًا الكتابة عن الطرد واللجوء كما يفعل الكاتب العربي، لا لأنهم لم يمروا بهذه التجربة من قبل، بل لأنّ كتابتهم بالعبرية مصوغة في قلب الرواية الإسرائيلية القومية بطابعها. إن تمثيل العرب من وجهة نظر تشذ عن الرواية الإسرائيلية هو أمر محدود جدًا”. (4)
هذا هو، بإيجاز شديد، ما فعله الأدب العبري (إلى جانب وسائل تعبير أخرى) بالفلسطيني: تجريده من أي إمكانية للتعبير عن آلامه، عن روايته، عمّا لحق به، عن طريق تسطيحه وموضعته في هامش الإبداع والمبدعين، إلا بما يخدم الغايات الصهيونية.
عقب الحرب على غزة كتب باحث إسرائيلي آخر، هو أورن يفتاحئيل، أنه إذا ما نجحنا في تأمل الأحداث العنيفة من خلف ركام الدمار المريع وسحب الدخان وأشلاء الجثث وبقع الدماء وصرخات الأطفال، فسنتمكن من فهم هذه الحرب على أنها استمرار للمشروع والسلوك الإقليمي الإسرائيلي الذي تبنى هدفًا متشددًا ووحشيًا يتمثل في إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد. وغني عن القول إن إسكات التاريخ يشكل أيضاً محوًا للمكان الفلسطيني ومعه الحقوق السياسية الكاملة، تلك الحقوق القائمة بحق مشروعيتها لا بمنـة من إسرائيل. وعليه فإن الغزو الإسرائيلي الحالي لغزة هو ليس فقط عملية لوقف الصواريخ، أو مسعى لتلميع شخصيات سياسية تمهيداً للانتخابات الإسرائيلية العامة [التي جرت في 10 شباط/ فبراير 2009] أو محاولة لترميم قوة الردع الإسرائيلية. الغزو ليس فقط محاولة أخرى “لفرض النظام” لدى آخرين وإسقاط حكومة “حماس” المنتخبة، وليس مسعى إمبريالياً (إسرائيليا- أميركيا) للسيطرة على حيز إسلامي بمستويات متصاعدة من العنف. إن الغزو الحالي هو هذه الأمور كلها بطبيعة الحال، ولكنه أيضاً استمرار لإستراتيجيا مديدة الأعوام من إنكار ومحو وشطب أي ذكر لتاريخ هذا المكان في العصور الأخيرة. ومشروع المحو هذا ينخرط فيه الجميع تقريباً: السياسيون والفنانون ووسائل الإعلام والباحثون في الجامعات والمثقفون الإسرائيليون. (5)
ما نودّ التأكيد عليه هو أنّ كتابات رموز الأدب الإسرائيلي المعاصر، خلال الحرب الأخيرة على غزة، هي ذات جذور ضاربة في التاريخ ونابعة، منذ أكثر من مئة عام، من نزع الشرعية عن العربي وتقليصه ضمن حيّز الكتابة العبرية التي مهدت لنشوء إسرائيل، ثم سعت من أجل تعزيز “تميزها الحضاري” في مقابل “الشرق البربري” المتمثل في الشخصيات العربية التي وردت في الغالبية الساحقة من الأدب الإسرائيلي المعاصر.
لدى طرق مهمة تتبع وتحليل ما نشره كتاب إسرائيليون بارزون خلال الحرب الأخيرة على غزة، يجدر التوقف مليًا عند نصوصهم عبر اختبارها وتشريحها، وذلك من خلال بعض المحاور الأساسية، وهي:
1. معظمهم أيد الحرب كما لو أنها حرب دفاعية، كأحد ثوابت الفكر الصهيوني؛
2. الحرب جاءت لتلقين العرب درسًا أو كردّة فعل شرعية على ممارسات الفلسطينيين، من دون استحضار وتثبيت السياقين الفعلي والتاريخي لها- تبديل احتلال غزة باحتلال كولونيالي جديد يتميز بالسيطرة عن بعد وعن قرب من خلال المعابر والتنقل وتأسيس سجن كبير في القطاع؛
3. الوعي المؤجل، وهو ما يميز المجتمع الإسرائيلي ونخبه الثقافية في أي مواجهة عسكرية.
في هذا السياق نتناول بداية مقالين للكاتب الإسرائيلي دافيد غروسمان، المعدود على “اليسار الصهيوني”.
ففي مقاله الأول، المنشور بتاريخ 30 كانون الأول/ ديسمبر 2008، يؤكد غروسمان مسألة “الردّ الشرعي العنيف”، مبررًا إياه، وفي الوقت ذاته مقدمًا النصائح إلى قباطنة الحرب في إسرائيل، بشأن الخطوات القادمة: “الآن، بعد الضربة القاسية التي ألحقتها إسرائيل بقطاع غزة، من المحبذ أن نتوقف، وأن نتوجه إلى قيادات حماس ونقول لهم: حتى يوم السبت [المقصود يوم 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008، موعد بدء الحرب] كبحت إسرائيل جماح نفسها أمام إطلاق آلاف صواريخ القسام من قطاع غزة. وها أنتم تدركون الآن مبلغ القسوة التي يمكن أن تنطوي ردة فعلها عليها”. (6)
وفي مجرى تحول الكاتب والمثقف إلى ناصح عسكري يتبع التبريرات والأفكار “العملية والمنطقية”، بدلا من البوصلة الأخلاقية التي من المفترض أن تميز الكتابة “الأدبية” أو “الخلاقة”، يستعرض غروسمان تصوره العملي: “وكي لا نزيد من القتل والدمار نحن ننوي وقف النار بشكل أحادي الجانب في غضون الساعات الثماني والأربعين المقبلة. حتى لو واصلتم إطلاق النار باتجاه إسرائيل فإننا لن نردّ باستئناف القتال. سنكظم غيظنا، كما فعلنا طيلة الفترة الأخيرة… نحن ندعو الدول ذات الشأن، القريبة والبعيدة، إلى التوسط بيننا وبينكم كي نثبّت الهدوء مجددًا. إذا توقفت النيران من طرفكم فإننا لن نجددها. وفي حال واصلتم إطلاق النار بينما نحن مسيطرون على أنفسنا- فإننا سنرد على هذا في نهاية الساعات الـ 48، ولكن حتى عندها سنترك الباب مفتوحًا للتفاوض على تجديد الهدوء وحتى لتحقيق اتفاق عام وأوسع”. (7)
هكذا، وبكل بساطة، يتولى غروسمان، “اليساري الإنساني”، مهمة التهديد والتلويح بالردّ إذا لم يرتدع “الآخر”، الفلسطيني، كما يجب أن يفهم من الوعيد المبطن: “سنرد”، يكتب غروسمان، بضمير الجماعة، من خلال تبني وحدة حال جماعية لا فارق فيها بين العسكر والمدنيين، بين المحلل “الأخلاقي” وبين الضاغط على الزناد.
وفي حمأة تبنيه المنظور العسكري الإسرائيلي، لا يتردد غروسمان في كيل المديح لوزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك: “حتى يوم السبت تصرفت إسرائيل- بقيادة إيهود باراك العسكرية- بروية وهدوء مثيرين للانطباع. عليها أن لا تفقد هذه الروية الآن في معمعان المعركة. علينا ألا ننسى ولو للحظة واحدة أنّ سكان قطاع غزة سيظلون جيرانا قريبين لنا، وعاجلا أم آجلا سنرغب في التوصل إلى علاقات جيرة طيبة معهم”. (8)
عن أي روية وهدوء يتحدث غروسمان، في الوقت الذي أعلن فيه قباطنة إسرائيل، العسكريون منهم والسياسيون، أنّ “صاحب البيت قد أصابه مسّ من الجنون”؟. لقد صبّت إسرائيل جام قوتها المدمرة على واحدة من أكثر المناطق ازدحامًا بالسكان في العالم كي “تستعيد قوة الردع”، متعللة بأنّ مقاتلي “حماس” يختبئون بين المدنيين، وكأنّ هناك ساحة وغى أخرى غير شوارع غزة وأزقتها. من المثير حقًا أن نرى كيف ينبري أحد رموز “السلام واليسار” في إسرائيل لينفي تهمة اعترف بها غيره، وبفخر، حين يلصق نعت “الهدوء والروية” بحملة مجنونة فاخر قادتها بأنهم فقدوا صوابهم فيها.
ويستمر غروسمان في شرعنة الردّ العسكري الإسرائيلي الساحق: “إن إسرائيل ملزمة بأن تفحص باستمرار متى تتخطى القوة التي تستخدمها حدود الرد الشرعي والناجع، والتي تهدف إلى الردع واستعادة وضعية التهدئة، وأن تتيقن من اللحظة التي تقع فيها أسيرة لدوامة العنف العادية”. (9)
وبين هذا وذاك، يكتب غروسمان بازدواجية مريبة، تكاد تكون فصامية: “ولذلك يجب التوقف. يجب وقف إطلاق النار. محاولة العمل لمرة واحدة خلافا لغريزة الرد العادية. وخلافا للمنطق الفتاك الخاص بالاستبداد وديناميكية التصعيد. إن فرصة استئناف إطلاق النار ستكون متاحة دائمًا. فالحرب، كما قال إيهود باراك قبل أسبوعين، لن تهرب. كما أنّ الدعم الدولي لإسرائيل لن يُمسّ بل سيتعاظم إذا ما اتبعنا كبح الذات الموزون وإذا ما دعونا المجتمع الدولي، والعربي، إلى التدخل والوساطة.” (10) إن غروسمان يدعو إلى العمل “خلافًا لغريزة الرد العادية”، الغريزة ذاتها التي جعلته يعتقد أنّ الرد الإسرائيلي حتى 30 كانون الأول/ ديسمبر 2008 كان “شرعيًا” ويتصف بالهدوء والروية. (11)
بعد واحد وعشرين يومًا نشر غروسمان مقالا آخر في “هآرتس”، يوفر للمتابع فرصة فورية وتكاد لا تتكرر، لتبيان منظومة “الوعي المؤجل” التي تميز النخب الثقافية والسياسية في إسرائيل. فهو يكتب: “في خضم موجة التحريض والرعونة القوموية التي تجتاح البلاد الآن، سيكون من المفيد أن نتذكر أنّ الحملة الأخيرة في غزة، في نهاية المطاف، ليست إلا محطة أخرى في درب ملأى بالنار والعنف والكراهية، تفوز فيها مرة وتخسر مرة، إلا أنّ الدرب نفسها تفضي في النهاية إلى الضياع. وإلى جانب الرضا من إصلاح الأعطاب الخاصة بحرب لبنان الثانية، من المحبذ أن نصغي إلى الصوت القائل بأنّ إنجازات الجيش الإسرائيلي في مقابل حماس ليست دليلا حاسمًا على أنّ إسرائيل كانت على حق عند خروجها إلى هذه الحملة الواسعة، وبالتأكيد فإنها لا تبرر الشكل الذي عملت فيه [إسرائيل]. ما تفعله هذه الإنجازات فقط هو أنها تؤكد على أنّ إسرائيل، وببساطة، أقوى من حماس كثيرًا، وفي حالات معينة يمكنها أن تكون صلبة وقاسية جدًا، بطريقتها. عندما تنتهي الحملة نهائيًا، وبعد أن يتضح حجم الدمار والقتل، إلى أن تنتصر، ولبرهة، على أجهزة النفي والتبرير المتطورة التي تعمل في إسرائيل الآن، يمكن عندها أن تتأكد عبرة ما في الوعي الإسرائيلي أيضًا. قد نفهم أخيرًا أنّ أمرًا عميقًا وأساسيًا في مسلكياتنا في المنطقة، منذ وقت طويل، هو مخطوء وغير أخلاقي وغير ذكي، وبالأساس- أنه يقوم بنفسه بتغذية النار التي تبتلعنا، مرة بعد أخرى”. (12)
هكذا على حين غرة، ينتقل غروسمان من دور المشجع والناصح والمقوّم الموضوعي للحملة كردّة فعل شرعية، إلى الحديث عن “أمر عميق وأساس” وعن أنه “مخطوء وغير أخلاقي”. هذه لهجة مختلفة تمامًا عن المقال السابق، الذي اتسم بـ “موضوعية وعملية” يتميز بها عادة المحللون العسكريون الإسرائيليون، وهم يحاولون التغطية على المسلكيات الإسرائيلية.
وإمعانًا في التوجه الجديد لقراءة صورة الوضع، يناقض غروسمان نفسه ثانية: “من الواضح أنه لا يجب إعفاء الفلسطينيين من المسؤولية عن أخطائهم وجرائمهم. إن مثل هذا التعامل يحمل في طياته استخفافًا واستعلاءً عليهم، وكأنهم أناس غير بالغين ولا يحملون أفكارًا مستقلة ويتحملون المسؤولية عن أفعالهم وأفشالهم. صحيح أنّ سكان غزة “اختنقوا” [المزدوجان في الأصل] من عدة نواحٍ بيدي إسرائيل، إلا أنّ طرقًا أخرى كانت متاحة أمامهم للاحتجاج والتحاور والتعبير عن ضائقتهم الصعبة، عدا عن إطلاق آلاف الصواريخ باتجاه الأبرياء في إسرائيل. يجب ألا ننسى هذا. ويجب ألا نعفي الفلسطينيين بتسامح، وكأنّ الأمر مفروغ ضمنًا، بأنهم حين يتواجدون في ضائقة فإنّ الطريق شبه الأوتوماتيكية في ردهم هي طريق العنف”. (13)
من جهة يطلب غروسمان عدم الاستعلاء على الفلسطينيين، إلا أنه من جهة أخرى لا يقاوم رغبته في إسداء النصح لهم، بضرورة إتباع وسائل احتجاج مغايرة، متناسيًا أنهم اتبعوها أعوامًا طويلة سبقت المرحلة الراهنة وما زالوا يتبعونها، ولم توفر عليهم العناء.
مع ذلك فإن غروسمان، في هذا المقال الثاني، يبدو أكثر وضوحًا من المقال الأول في تشخيص حالة الهستيريا القومية والوطنية التي ميزت المجتمع الإسرائيلي: “ستأتي أيام سنحاول فيها تطبيب الجراح التي ننكأها اليوم. كيف ستأتي هذه الأيام إذا لم نفهم أنّ قوتنا العسكرية لا يمكن أن تكون الأداة الأساسية التي نستعين بها لشق طريقنا هنا، في مقابل الشعوب العربية ومعها؟ كيف ستأتي هذه الأيام إذا لم نتذوّت معنى المسؤولية، التي تلقيها العلاقات والروابط المتشعبة والمصيرية، في الماضي والحاضر، ما بيننا وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والجليل والمثلث، على كواهلنا؟ عندما تنجلي سحب الدخان الملونة التي صنعتها تصريحات السياسيين بشأن النصر الجارف والحاسم، عندما تتضح لنا الإنجازات الحقيقية لهذه الحملة والهوة بينها وبين ما نحتاجه حقا في سبيل حياة سوية هنا، وعندما نقبل الاعتراف بأنّ دولة كاملة نوّمت نفسها بلهفة وبأنها كانت في أمسّ الحاجة إلى الإيمان بأنّ غزة ستشفيها من داء لبنان، عندها قد نجري حسابًا مع أولئك الذين يقومون، مرة بعد أخرى، بتهييج العجرفة وسكرة القوة لدى الجمهور الإسرائيلي العريض… أولئك الذين يقنعوننا أنّ العرب يفهمون القوة فقط، ولذلك يجب أن نتحدث إليهم بهذه اللغة فقط (…) إن ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة في قطاع غزة ينصب أمامنا، في إسرائيل، مرآة تعكس لنا وجهًا كنا سنخافه أشد الخوف لو أننا نظرنا إليه للحظة من الخارج، أو لو أننا رأيناه لدى شعب آخر: كنا سنفهم أنّ النصر ليس نصرًا حقيقيًا وأنّ الحرب في غزة لم تجلب لنا الشفاء حيث نحتاج إلى الدواء بشدة، بل قامت، فقط، بالكشف وبحدة عن أخطاء قيادتنا التراجيدية والمستمرة، وعن عمق الشرك الذي نتخبط فيه”. (14)
إنه كما تلاحظون غروسمان آخر، مختلفًا كليا عما سبق، ولا بدّ أنه صادق فيما يكتب. لكنه، كالعادة، وكغيره، يصل إلى هذه المسلمات بعد فوات الأوان، بعد أن رغب في “حملة عسكرية قصيرة” فقط!. نضرب قليلا ونتوقف، ثم نضرب ثانية إذا ما اقتضت الحاجة. إن الفارق بين مقاله الأول ومقاله الثاني هائل وكبير ويخال المرء أنّ الاثنين لم يكتبهما الكاتب ذاته.
تجدر الإشارة إلى أن المقال الأول لغروسمان التقى هو ومقالان آخران لكل من عوز ويهوشواع، تزامن نشرهما مع نشر مقاله بوقت قصير، كما أسلفنا، من حول العناوين الرئيسة الآتية:
-أن الفلسطينيين هم المسؤولون عن تدهور الأوضاع في غزة، فلولا قيامهم بإطلاق الصواريخ على إسرائيل لما كانت هناك حاجة إلى عملية عسكرية إطلاقًا؛
-الدعوة إلى أن تبادر إسرائيل إلى وقف إطلاق النار، والاكتفاء بما ألحقته العملية العسكرية الإسرائيلية من قتل ودمار بغزة وأهلها خلال أيامها الأولى؛
-السعي إلى تسوية المشكلة مع حركة “حماس” سياسيًا. وقد زاد يهوشواع على ما قاله عوز وغروسمان في هذا الشأن بأنه لا مهرب من التحادث معها في نهاية المطاف.
إن الرغبة في “عملية عسكرية قصيرة” راودت أيضًا كاتبـًا إسرائيليًا رابعـًا هو مائير شاليف، الذي أكد أنه “كان من الأفضل لو تم تحديد الحملة الإسرائيلية العسكرية [ضد غزة] في نطاق عملية انتقامية. فلو أن إسرائيل فعلت ذلك ما كانت لتتخبط الآن في كيفية إنهائها، وكانت تحول دون وضع شروط لذلك من قبل حركة حماس. إن طبيعة العملية الانتقامية تقتضي أن تكون ذات هدف ونهاية واضحين كليًا”. (15)
[للبحـث صلــة]
1. Joseph S. Nye. U.S. Power and Strategy After Iraq, Foreign Affairs 1 July, 2003)
2. للتوسع في هذه المنظومة وجدليتها وجوانبها العديدة بالإمكان مراجعة: “الولايات المتحدة الأميركية بين القوة الصلبة والقوة الناعمة”، وهي دراسة أعدها د. رفيق عبد السلام ضمن سلسلة دراسات “أوراق الجزيرة” الصادرة عن “مركز الجزيرة للدراسات”. بالإمكان معاينة الدراسة على الرابط التالي:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/C10D9444-E314-4B27-B126-843EF8AE5742.htm
3. كان هذا وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، الذي قال إنّه لا توجد لدى إسرائيل سياسة خارجية، بل سياسة داخلية فقط، في إشارة إلى أنّ الدبلوماسية الإسرائيلية تتقرر وفق الصراعات الحزبية والسياسية الداخلية. وهي إشارة من دبلوماسي رفيع وخبير في هذا السياق إلى أهمية النقاش الداخلي الإسرائيلي وتأثيره الحاسم على القيادة السياسية، ومن هنا أهمية السيطرة على الرأي العام.
4. أوبنهايمر، ي. “عبر الجدار- تمثيل العرب في الأدب العبري والإسرائيلي (1906-2005)”. إصدار: “عام عوفيد” وكلية سابير، 2008.
5. يفتاحئيل، أورن. “زمن غزة الضائع…”، “المشهد الإسرائيلي”، 13/1/2009.
6. غروسمان، دافيد. “بعد أن وصلت الرسالة إلى حماس، يجب وقف النار”، “هآرتس”، 30/12/2008.
7. المصدر السابق.
8. المصدر السابق.
9. المصدر السابق.
10. المصدر السابق.
11. من الواضح أن غروسمان يتجاهل حتى “الإحصاءات الجافة” حول عدد القتلى وحجم الأضرار منذ بدء الحرب على غزة حتى يوم 30/12/2008، والتي أشارت إلى ارتفاع حصيلة الشهداء إلى أكثر من 385 شهيدًا والجرحى إلى 1750 إصابة 300 منهم خطرة، علاوة على الدمار الكبير الذي لحق بالبيوت والمباني العامة والبنى التحتية.
12. غروسمان، دافيد. “القصة التي نجد أنفسنا حبيسين فيها”، “هآرتس”، 20/1/2009.
13. المصدر السابق.
14. المصدر السابق.
15. “يديعوت أحرونوت”، 2/1/2009.
(نشرت هذه المادة في موقع ’’عرب48’’ بتاريخ 15 أيار 2009)