المستنقعات الأدبية
ثمة تناقض جوهريّ في ما يُسمى “المهرجانات الأدبية”. هذا الزحام والضجة يتناقضان تمامًا مع فعل الكتابة. يُخرجونك من الصومعة الطوعية ويتوقعون منك أن تتحدث وتتفاعل مع الجماهير 24/7. وهكذا، بعد 24 ساعة تجد نفسك في حالة دفاع شرسة عن لحظات الهدوء والوحدة. ولكن هيهات.
الجوّ الذي يسود أروقة المهرجانات وكواليسها أنك يجب أن تكون في محادثة ما مع أحد ما طيلة الوقت. كأنّ الجلوس إلى طاولة وكأس وبعض المُسكّنات، وحدك، هو فشل للمنظمين. ثم أنّهم دفعوا الشيء الفلاني للتذكرة والفندق وبعض الدراهم لتشرب وتأكل وتشتري الملابس للدشدوشة، فهل يصحّ (أدبيًا وأخلاقيًا) أن تكافئهم بأن تكون على طبيعتك؟
ثم أنّ الطقوس في المهرجانات مربكة. كيف يمكن للمرء أن يتذكر أكثر من عشرين اسمًا (هولنديًا) في اليوم؟ وهذه الورطة تدفعك لتجنب الناس أكثر وأكثر منعًا للإحراج بأنك لا تذكر أسماءهم. هذه طامة حقيقية، تمامًا مثل التجوال في مدينة جديدة طيلة النهار وأنت نسيت مرهم الصماط.
والجمهور، لماذا يأتون؟ يستمعون إلى كاتب أجنبيّ لم يسمعوا به من قبل. هل هو الملل أم أنهم حقًا يحبون الأدب إلى هذا الحد؟ هذه معضلة جديرة بالتأمل، خصوصًا في زمننا الراهن، حيث تراجعت نجومية الأدباء لحساب جستين بيبر وشاكيرا. تُعجب بهؤلاء الناس الذين يأتون (رغم المطر) ويجلسون للاستماع إلى سؤالات وإجابات وبعض النصوص. تريد أن تفهمهم، لكنك تخجل من سؤالهم ببساطة: ماذا تفعلون هنا؟
أما الكواليس فهي كالرمال المتحركة. صداقت تنشأ وعداوات وحساسيات، ومستنقعات الإيجو التي نغرق فيها لحظة بعد لحظة تُصعّب من عملية التنفس، ناهيك طبعًا بالتحدث والتفاعل. لا أفهم الأدباء الذين يتقنون الكلام والصراخ والتحمس لفكرة ما لثلاث ساعات. ثم يا أخي، لا يهم أبدًا إذا كان يوسف زيدان أهم من صنع الله ابراهيم أم لا. بالتأكيد ليس لدرجة كبّ كأس الفودكا أثناء التشبير. وما يُنبت البقع الحمراء على جلدي حقًا هذه القناعة لدى الجميع بأنّ القصيدة/ الديوان/ الرواية التي يعملون عليها الآن تثير فضول الجميع لدرجة البحث عن أوراق معك بالحقيبة (بالصدفة) والبدء بالقراءة والتلحيس الذاتيّ المريب.
وبعد أن تتضح معالم الشلة، ومن دخل نادي الأدباء الكوليين ومن اكتفى بمنزلة “الضائع”، تتحوّل الكواليس إلى صراع ديكة بين الرجال على الأديبتين الجميلتين. هذا يزيد من منسوب التنافس التافه واستعراض العضلات والريش ومصارعة الديكة التي تخلف أضرارًا في الممتلكات والأرواح. كلّ هذه الانشغالات التي تتعبك وتودّ لو تجد نفسك بلحظة في غرفتك البيضاء الصغيرة لتقرأ ستاتوسات الشباب الثائر قبل النوم.
من جهة أخرى، لا شيء يضاهي المهرجانات للتعرّف عن كثب على من تقرأ لهم وتقرأ عنهم من بعيد، وغالبًا ما تتحطم الصورة الجميلة على كاسر الأمواج الفاضح، الذي يعيدك إلى رشدك ويؤكد مرة تلو الأخرى تلك المقولة العبقرية: الإعجاب عكس النظر، كلما اقتربت من الإنسان صار أصغر.
مع ذلك، لا تستطيع رفض الدعوات. إنها الفرص النادرة للتعرف على الناشرين والصحفيين والمنظمين أصحاب القرارات. مع أنّ هذا لا يعني أبدًا أنك كتبت/تكتب/ستكتب أدبًا جيدًا. لا علاقة بين المهرجانات والأدب الجيد، بالضرورة. أصحاب القرار الوحيدون هم القارئات والقراء، وهم من يقرر فعلا إذا كنت تستأهل هذه الاحتفالية أم لا. أما ما تبقى فهو سياسات على سياسات، وبعض دعوات الوالدة.
من حسن الحظ أنّ المدن الأوروبية عمومًا جميلة وتكسب على الأقل التعرف على كواليسها وحياتها. تنكشف على لغة جديدة وثقافة جديدة وأناس جدد. وتنسى للحظة المستنقع الذي خرجت منه والذي يفرض عليك عنوة الضلوع في مناوشاته الموحلة. هنا، على الأقل، الوحل ليس وحلك، وهنيئًا لك بهذا.
أمستردام جميلة والحشيش فيها جيد فعلا. ولكن هذا لمقالة قادمة.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 9 أيلول 2013)