الكتب في الممنوعات!
منذ العام 2000، وتحديدًا منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، تغيّرت إسرائيل بعمق على المستوى القيادي الرسمي وعلى المستوى الشعبي. فمن وجهة نظرهم، “خذلهم العرب والفلسطينيون” بعد أن أعطاهم الإسرائيليون “كل شيء” (مفاوضات كامب ديفيد الثانية). وهذا يفسر الهجمة الشرسة على العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل، متمثلة بهجمة على القيادة السياسية والأحزاب وعلى مؤسسات المجتمع المدني.
ومن “جسر للسلام” تحول العرب مواطنو الدولة في غضون أقل من ثماني سنين إلى كابوس يقض المضاجع، وينعكس هذا في نموّ خطاب الفصل العنصري والترحيل وقبول المجتمع الإسرائيلي لهذا الحل في جميع الاستبيانات الحاصلة في السنوات الأخيرة. من هنا، يبدو إلغاء تصريح استيراد الكتب الممنوح لصالح عباسي، صاحب مكتبة “كل شيء” في حيفا، استمرارًا طبيعيًا لهذه السياسة، بحجة الاستناد إلى بند قانوني إسرائيلي ينصّ على “منع استيراد بضائع تجارية من دولة عدو”.
وهكذا، يصبح من المستحيل اليوم على قارئ عربي من حيفا أو الناصرة أو أم الفحم أن يقرأ آخر إصدارات “دار الآداب” أو “رياض الريس” لأنّ كتبهم صارت، رسميًا ونهائيا، “ممنوعات أمنية”. إنها عودة صريحة وشفافة إلى منظومة الحكم العسكري، وهي الفترة التي امتدت من وقت تأسيس إسرائيل إلى العام 1966، حيث خضع الجليل والمثلث والنقب إلى حكم عسكري في الديمقراطية الإسرائيلية الناشئة، مُنع العرب خلالها من التنقل أو كسب رزقهم من دون تصاريح من الحاكم العسكري.
وتميّزت تلك الفترة بمحاولة إذابة وقمع للهوية العربية الفلسطينية لدى الأقلية التي بقيت آنذاك في ظل الدولة الفتية، وذلك عن طريق إنشاء وسائل إعلامية (صحف، ومن ثم صوت إسرائيل بالعربية، صوت المخابرات الإسرائيلية) هدفها ضرب الأصوات الوطنية ومحاولة فرض خطاب سياسي-ثقافي متقبل للهوية الإسرائيلية الجديدة. ووقتها، لم يكن من الممكن استيراد كتب عربية من العالم العربي، وكانت الناس تستمع إلى خطابات جمال عبد الناصر عبر المذياع، سرًّا، وبعد أن يغلقوا الأبواب والشبابيك.
بعد نكسة 1967 بدأت المفارقات التاريخية المضحكة-المبكية: صار بالإمكان التواصل بين “عرب الداخل” وبين عائلاتهم وأخوتهم وأشقائهم في جنين وغزة، وبدأت حركة ثقافية تبادلية نشطة، برز خلالها النهم الكبير للعرب في إسرائيل بالقراءة والتواصل الثقافي مع محيطهم الطبيعي. وما زاد المفارقة، اتفاقية كامب ديفيد المكروهة، فهي كانت السبب في إعطاء تصريح من الرئيس المصري الراحل أنور السادات، إلى عباسي، الذي حمل التصريح وتوجه فورا إلى القاهرة وعاد بحوالي ثلاثين ألف كتاب، يشهد هو على بيعها خلال أيام قليلة في ساحة “بيت الكرمة” في حيفا.
وكيف للمفارقة أن تكتمل من دون العدوان على لبنان في العام 1982؟ فصديق عباسي اليهودي ضمن له الدخول إلى صور، ومرة أخرى عاد عباسي بآلاف الكتب إلى الداخل وباعها أيضًا في أيام قليلة. مشوار الكتاب العربي والثقافة العربية في الداخل مرتبط باحتلالات وفتوحات إسرائيل، كونها الطريق الوحيدة التي كانت متاحة نحو الخارج. وبعد اتفاقية السلام مع عمان تحولت عمان إلى همزة وصل أوتوماتيكية بيننا وبين العالم العربي؛ فلم يتوقف الأمر عند استيراد الكتب، بل صارت اللقاءات الثقافية مع العرب والفلسطينيين من الدول العربية تُعقد في عمان، متغلبة على منع دخولهم إلى حيفا ويافا، وعلى إحراج استقبالهم بختم جوازهم الأجنبي بختم إسرائيلي. إنه حصار ثقافي جديد، يبغي العودة بنا إلى تلك الفترة، فترة الابتعاد عن السياسة وتفضيل الركض وراء لقمة العيش وترقّب أيام أفضل.
منع الكتب والقراءة شبيه بإحراق الكتب في الشوارع، في المحصلة. كان هذا اليهودي هايني هنريخ الذي قال: “في المكان الذي يحرقون فيه الكتب في الشوارع، سيأتي يوم ويحرقون الناس أيضًا”.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 7 تشرين الأول 2008)