“العاجزون” وتسمين الإوز: مهزلة مسرحية!
علاء حليحل
في كل مرة أشاهد فيها مسرحية فلسطينية محلية، ينتابني نوع من الانفصام الحاد، نصفه فرح ونصفه بعضٌ من الاستياء والنفور. وسبب فرحتي وغبطتي هو اكتشافي في كل مرة من جديد أنّ من يمكن تسميتهم “الجيل الجديد” من الممثلين العرب هنا، في هذا الوطن غير المسرحيّ (وطننا مبني على النص السرديّ القصصي إذا لاحظتم)، هم في تصاعد مستمر، وأنّ حضورهم المسرحي يترسّخ ويقوى، من دون علاقة بمستوى النصوص أو الإخراج أو العناصر الفنية الأخرى التي ترافق المسرحية أو العمل الخشبيّ (من “خشبة”) الذي يشاركون فيه، وهي بذاتها التي تبعث على الاستياء والنفور.
وقد برز هذا جليًا، أكثر ما برز، في مسرحية “العاجزون” من تأليف وإخراج رياض مصاروة، التي تشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان المسرح الآخر في عكا، هذه السنة، حين برز شادي فخر الدين وربيع خوري ورنين بشارات في حضورهم الذي تجلى مليًا أحيانًا بفضل قدراتهم الشابة الآخذة في التبلور والوضوح، والذي خبا مرارًا بفضل الإخراج السيء والنص المهترئ.
أكتب ما أكتبه هنا وأنا أتوقع الردود على هذا النقد لمسرحية “العاجزون”، وها أنا في مخيّلة نفسي أتخيّل الردود المتبرمة على النقد الذي سيلي، بأنه نابع من منطلقات شخصية وأنه يذمّ أشخاصًا دون غيرهم، وهذه بالطبع حجج معلوكة يستعملها واستعملها البعض حين رغبوا في التهرّب مما هو مكتوب، فصار مَثَلهم كمَثل الذين يقتلون الرسول هروبًا من الرسالة، فلا رسالة تُسمع ولا رسول يسلم.
تتمحور مسرحية “العاجزون” التي تجري أحداثها في العام 1992 في حانة “حقيرة” في برلين في خمس قصص مختلفة لخمسة منفيين (طواعية)، يجمعهم الإحباط والهروب والكَلَبية من كل شيء، التي تنبع من تجاربهم المريرة مع أوطانهم.
فهناك “الملتحي” الذي صُدم لسبب خيانة زوجته له مع مناضل “صفّق له طويلاً”؛ وهناك “الوسيم” الذي تحوّل إلى زانية حزبية لكل من يدفع؛ وهناك “التركي”، صاحب الحانة، الشيوعي الذي عُذب واُغتصب؛ و”المنتحر”، وهو مخرج مسرحي استدرجته أمه، ضاجعته وانتحرت، ويفقأ عينيْه في نهاية المسرحية مثلما فعل أوديب؛ و”الجميلة” التي تحوّلت إلى عاهرة محترفة في “صقيع المنفى”.
من هذا التوصيف، تعتمد المسرحية على “لعبة أيقاع” أولية وبدائية حين يحفّز “المنتحر” الجميع على رواية قصصهم، وحين يتمنّع الجميع عن رواية قصصهم، إلى أن يرضخوا و”يفتحوا قلوبهم”، من دون أي تبرير درامي واضح: لماذا قرّروا كسر هذا الصمت المطبق الآن وبالذات؟ هل لأنّ زبونًا آخرَ في الحانة أغضبهم؟؟ كل هذا يجري من خلال توصيفٍ دراميٍّ معدوم ومن خلال سرد آليٍّ شفافٍ ومباشرٍ حتى النّفور. ولو كان البعض يغفر لمسرحيّات الممثل الوحيد العنصر السردي المباشر الذي لا بدّ منه والذي نقع فيه جميعًا أحيانًا لتسيير المسرحية، إلاّ أنّني لم أسمع بأحدٍ يغفر لمسرحية من خمسة ممثلين أن يطغى عليها السّرد المباشر القصصي بصيغته البدائية، الذي يفتقر لأية مهارات كتابية درامية، يمكن أن تنجح في أن تتحايل على السرد وتحوّل أقاصيص الجميع إلى قنابل حدثية وصوتية تؤدي مهمّتها الأساسية، السّرد، إلى جانب مهمة أخرى لا تقل أهمية: إنصاف الشخصيات وتعميقها وإبعادها عن “البغبغة” المصحوبة بحركات ومواقف “دراماتيكية” محفوظة للمسلسلات الإسبانية، وذلك يمكن أن يحدث عن طريق دفع السّرد باتجاه الفعل المسرحي، بتعريفه الأرسطوطالي الأساسي، المتين.
الخطيئة الكبرى الثانية التي تقع فيها مسرحية “العاجزون” هي التعامل مع المشاهد على أنه غبي ابن غبي، يجب إتخامه بكل الشعارات الممكنة، وبكل التفاصيل السردية المتشابهة بعضها ببعض، وكأننا في قن كبير للأوز يقومون بإمساكنا برقباتنا وبتسميننا بواسطة ماسورة كبيرة مليئة بالعلف يدحشونها في بلاعمنا. فبعد الجملة الثانية التي ترد بها توصيفات الاستياء والنفور من الوطن وتجاربه كان يجب الانتقال إلى ما هو أرقى وأعمق من مجرد التباكي والصراخ والتلويح بسكاكين وشبريّات، وكأننا في طوشة عمومية في السوق، يهدّد كل واحد فيها، وبدور مكتوب له بتوقع وبفورية مفرطة، أن يطعن واحدًا أو اثنين أو ربما ثلاثة، وهذا متعلق بحجم الغضب المحموم في تلك اللحظة. إبتداءً من النصف الثاني للمسرحية تتحول الخشبة إلى ساحة عراك ونزال فظّيْن ومُريبَيْن ومُعيبَيْن، وهنا توجد مسؤولية على الممثلين أيضًا؛ كان عليهم أن يقولوا للمخرج: حتى هنا!! أنا لا أمثل هكذا أمور…
كل ذلك طبعًا بلغة عربية فصحى، ثقيلة، متعبة بالصياغات الكتابية والكُتبية، ثقيلة، غير طبيعية، ومن الصعب على أحد أن يصدق أنّه ما زال هناك من يكتب مسرحًا عن حياتنا الراهنة بالعربية الفصحى. عفوًا، فصحى؟ الغربة التي ولّدتها العربية الفصحى قضت نهائيًا على أمريْن: إمكانية التضامن ولو بالحدّ الأدنى مع أيّ أحد من الشخصيات؛ وثانيًا، إمكانية الاقتناع بأنّ ما يدور على المسرح هو محاكاة لما يحدث، وعن المحاكاة وكونها العنصر الأساسي في المسرح يمكن العودة إلى أرسطو بقليل من الجهد. اللغة العربية الفصيحة تصلح لكلاسيكيات يونانية أو لمسرَحَة فيلم “الرسالة” مثلاً، ولكن لحوار بين خمس شخصيات، أربع منها من فلسطين والناصرة، في حانة في برلين في العام 1992؟؟؟
ناهيك طبعًا عن محاولة سبر أغوار “العمق” المفتعل عن طريق الصياغات المربكة والمرتبكة، والاستعمال المَرَضي والمُسيء والنابع عن تخلف إجتماعي مُزمن لتعبير “المخنّثين”. أنا أفهم أن يصف أحدٌ ما، محافظ ومُتديّن ربما، رجلاً ما بأنه مُخنث، أي شبيه النساء بالعربية، ولكن أن يستعملها كاتب أغرقنا بحواريات ومونولوجات تقدمية وإنفتاحية وعلمانية؟ وما بهنّ النساء، لماذا لا نتشبه بهنّ؟ هل هذا عيب؟؟ هل ينخدش العضو الذكوري الملتهب؟؟
“العمق” الذي يتغنى به مسرحيّونا القدامى -الذين نحبّهم طبعًا- ليست إلا مُرادفة أخرى للكسل الذهني والكتابيّ المسرحيّ، حيث تتحوّل الشعارات والكلمات الكبيرة عن “البؤس” و”الإحباط” و”الفلسفة” و”السياسة” إلى أساس ومدماك المسرحية، من دون الحاجة إلى تنقيتها وتصفيتها من شوائبها الكريهة التي تقضي نهائيًا على أيّ أمل في التعاطف مع الشخصيات المأساوية التي تنطق بالترهات الشعاراتية.
مسرحية “العاجزون” تقوم على هذه الترهات. وهي من شدة ارتكانها إلى المُباشَرَة والكسل الفني غدت مسرحية تافهة ومُنفرة وبذيئة، لا ينقصها إلا علم حزبي على طرف المنصة وتحيات إلى عضو الكنيست الجالس في الصف الأول! فمصاروة إستند في كتابة وإخراج هذه المسرحية إلى قناعات اجتماعية- حياتية خاصة به، أكثر بألف مرة من الاستناد إلى قناعات فنية- مهنية. فهو اعتقد (كما يعتقد الكثيرون على فكرة) أنّ شتم الفلسفة والسياسة والمثقفين يضمن له تضامنا وتماثلاً أوتوماتيكيًا من المشاهدين، فهذه موضة الآن. موضة عند الجُهّل الأغبياء الكسالى، ذهنيًا وفكريًا. وبالتالي لم يجتهد مصاروة، كما فعل في جميع مسرحياته التي شاهدتها له (“الرايخ الثالث”، “رجال في الشمس” و”ليالي الحصاد”) في العمل مع الممثلين وتركيز مجهوده في بناء شخصيات مُوفقة تلائم طاقات الممثلين الذين عملوا معه. وبدلاً من ذلك تركّز جهد مصاروة (كما بدا من خلال المنتوج النهائي) في الميزنسين والانتقال بين المَشاهد، عاملاً على الشكل النهائي الذي خرج بشكل مُرضٍ هنا، من دون العمل بما يكفي مع الممثلين كأساس للمسرحية وليس العكس.
في مسرحية “العاجزون” نقص كبير في الالتفات إلى ركائز المسرح الأساسية وهي الفرجة والمتعة وتحفيز الخيال والصفعات المُدوية التي تُوجَّه للمشاهد من دون سكاكين تلعب في الهواء بشكل بهلواني – عضلاتي- ذكوري- مثير للقهقهة والسخرية. المشكلة في هذه الأنماط من المسرحيات أنها تعتقد أنّ “المسرح” فيها هو استعراض عضلات الشعارات “الجريئة”، والوقاحة الطرحية من ناحية “الجديد” الذي تحمله. مسرحية “العاجزون” هي مسرحية جريئة بالفعل، ولكن جرأتها انحصرت في النوايا الحسنة فقط. ربما لأنها تتحدث عن سياق وفترة مرت عليها قرون سحيقة بمفاهيم مكاننا وزماننا. باقي العناصر كانت ترصيفات في الطريق نحو جهنم.
فهي في محورها وفيما تطرحه بذيئة ومُسيئة للسياسيين والمناضلين وللوطن الذي أخاله مُركّبًا أكثر بقليل (والله بقليل) مما طُرح فيها، وبالأساس مُسيئة للمشاهدين. ليست هناك حاجة لقول كلمات مثل “قحبة” و”طيز” كي تكون المسرحية “بذيئة” بنظر المحافظين الجُدد والمحافظين القدامى؛ يكفي أن تخرج بهذا الانطباع مما شاهدتَه بناظريك من عقد وإحباط جنسي يُفضل لو بقي في المساحات شديدة الخصوصية!
فتوظيف الجنس في المسرحية وكل مسألة العجز الجنسي جاء مُهينًا إلى درجات غير محدودة. وبدلاً من أن يكون العجز الجنسي ميتافورا للعجز الفعلي الحياتي والوطني، صار العكس؛ لدرجة أنّ المرء يشعر منذ منتصف المسرحية وحتى نهايتها أنّ ما يراه هو تسخين لحفلة جنس جماعية (“أورجيا”) ستنفجر بعد لحظة في القاعة.
لا ضيرَ أبدًا في تسخير الجنس (وما حوله من محظورات وإحراجات وتخلّفات تُشهر جميعها في وجه مجتمعنا العربي المتخلف) لخدمة أغراض أخرى، أبعد وأجرأ من مجرد تمثيل مشهد نكاحي على الخشبة، وصحيح أنّ “العاجزون” تكسر هذا التابو وتجعل منه سخرية في بعض المواقف الحسنة، وهذا مبارك، إلا أنها تأخذ هذا التكسير إلى متاهات من الفظاظة والظلافة والشحّ العاطفي، وكلها نابعة من مباشَرَة مُسيئة ومُهينة للفعل المسرحي.
كما أنّ السهولة غير المحتملة في التهجم على كل ما هو سياسي وفلسفي وثقافي تجعل من المسرحية “مانيفست” (بيانًا) تحريضيًا ليس أكثر، على شاكلة ذم البرجوازيين والمُثقفين في أيامنا من دون رادع، وكأنّ جيفارا وماركس وأنجلز وسعد زغلول والحاج أمين الحسيني ومارتن لوثر كنغ ومالكولم إكس وغيرهم كُثر من ثوريي العالم، لم يكونوا مثقفين برجوازيين حتى النخاع، أتوْا من صلب البرجوازية.
ما جاء في المسرحية (أكثر من نصف حواراتها) من هجاء للمثقفين والفلسفة والسياسة ليس إلا حقدًا غير مبرر، أعتقد –وهذا تقدير شخصي- أنه نابع من شعور بالنقص والدونية، وهو عادة الشعور الذي ينتاب من يحاول أن يكون مثقفًا أو فيلسوفًا أو سياسيًا ولا ينجح في ذلك.
ولن أتفاجأ من أن تحصل “العاجزون” على جائزة المهرجان في النهاية لأنّ معظم أبناء عمنا أبدوْا إعجابًا بالنقد الذاتي الذي في المسرحية، ولا يهم أنها ليست مسرحًا آخر وأنها ليست مسرحًا في الأساس- المهم أن أبناء عمنا العرب يسبّون على قياداتهم، وفي هذا لوحده “واووووو”….
مسرحية “العاجزون” هي مسرحية سيئة ومُهينة إلى أبعد الحدود، وهي المسرحية الوحيدة في حياتي المليئة بالمسرح، التي أتجرأ وبكل ألم، ولكن بكل وضوح، على أن أقول عنها: كان من الأفضل إعداد وليمة إفطار جماعية للفقراء والمساكين والمعدمين بنفقات إعدادها، وكفانا وكفى مسرحنا شرّ القتال!
(نشرت هذه المادة في موقع ’عرب48’’ بتاريخ 21 تشرين الأول2005)