الصرماية وأصول الرماية
فرحتُ، مثل سائر الفرحين في العالم، للصرماية التي صوّبها الصحافي العراقي منتظر الزيدي تجاه المجرم جورج بوش، وحزنتُ مع جحافل الحزينين في العالم إذ أخطأ المنتظر الإصابة مرتيْن- فطعن الفؤاد طعنتيْن. وبعد هذه الرماية نصف المُوفقة أعتقد أنّ اسم الصحافي، منتظر، صار رمزيًا طافحًا بالدلالات، حتى إنّ البعض تذكّر جميع المنتظَرين في دياناتنا وثقافاتنا وحضاراتنا، المنتظرين الذين لا يأتون رغم الأدعية والابتهالات.
والحقيقة أنّ فرحي بدأ يتضاءل تدريجيًا، نتيجة لتحويل هذه الرماية نصف الموفقة إلى أهمّ حدث في تاريخ الأمة العربية، بعد وحدة مصر وسورية وصمود المقاومة في لبنان. ففجأة بدأنا نسمع أنّ هذا الردّ هو “أبلغ ردّ” و”أصدق ردّ” و”أجمل ردّ”، وصارت القصائد تكتب تناصًّا مع جملة الصحافي المنتظر: “هذه قبلة الوداع من الشعب العراقي أيها الكلب”. ولا مانع طبعًا من فرح شعبي عرمرم يجتاح الأمة من المحيط إلى الخليج، في زمن رديء مُحبط، وهذا فرح حقيقي لا نقاش فيه، نشارك فيه بكامل انفعالاتنا الوحدوية، إلا أنّ تحويل هذه الفعلة إلى القشة التي نتعلق بها اليوم، وكأنها أعادت كرامتنا ورفعت رأسنا ومطت رقابنا، هو هروب من الواقع، وهي عادة عربية أصيلة ترتكز إلى “أضعف الإيمان” الذي قتلنا شرّ قتلة.
فحذاء المنتظر، “أضعف الإيمان”، صار سلعة مطلوبة: أمراء من السعودية بدأوا يعرضون المبالغ الخيالية لشراء هذا الحذاء العربي الأصيل، حيث وصل آخر مبلغ ورد في المواقع الإخبارية إلى مليون دولار، كفاكم المولى شرّهم. السعودي (وغالبية العرب) الذي لا يحرّك ساكنا لنصرة العراق أو فلسطين أو لبنان (بل يتآمر ضدّها في الغالب) تنتصب قامته الدولارية لحذاء عراقيّ مغبر بدماء أبنائه. هذه ليست حمّية وطنية، هذه دعارة هابطة مردّها الشعبوية المفرطة النفعية أو الوطنية الرومانسية التي تغلب علينا نحن كأمة عربية وإسلامية: نبكي لمناظر الدماء على التلفاز ثم نقول بنفاق مريب: إمشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة. يعني بالعربي: بدي أطعمي الولاد. ولا يهم أن الأولاد يأكلون الخراء وسيأكلونه مستقبلا بالمغرفة مع هكذا أمة وهكذا شعوب شعبوية.
نحن ننفعل للمبادرات الشعبوية التي تشفي غليلنا ولا بأس، فنحن بشر مقهورون، نبحث عن أية بادرة تبعث الفخر أو الابتسام فينا. المشكلة أننا نتوقف هناك وفقط هناك. العربي الذي صفق لحذاء المنتظر لا يحرك ساكنا لقمعه في دولته الدكتاتورية القمعية، ولا يحرك ساكنا لاحتلال أمته وقتل الملايين ولا يحرك ساكنا لنصرة الأقصى والقدس وغزة وبغداد، مع أنه يملأ الدنيا صراخًا من أجل كاريكاتير يمسّ “مشاعره الدينية”، وكأنّ احتلال العراق وتدمير بيروت وإحراق غزة لا علاقة لها بالمشاعر الدينية.
وأعتقد أنّ الفكرة ستأتي بعد السّكرة: فالزيدي شيوعي كان عضوًا في حزب العمال الشيوعي الذي حلّ نفسه قبل سنتين واندمج مع الحزب الشيوعي العراقي، وكان عضوًا في اتحاد طلبة العراق الذي يعتبر إحدى واجهات هذا الحزب. وأعتقد أنّ مثل هذه المعطيات تجعله في أقلية قليلة في العالم الإسلامي والعربي، ولا بدّ أن يأتي أحد ما في فضائية ما ليذكّر بهذا، إذا ما برز تهديد يومًا ما بأن تطغى شعبيته على شعبية شيوخ الفضائيات أو مُنظّري القنوات.
مرحى للصرماية، ولكنني نطالب بأمرين: الرماية الدقيقة في المستقبل، والخروج من دائرة التطبيل والتزمير العربية المزمنة إلى دائرة الفعل الحقيقية.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 10 كانون الاول 2008)