الحمار
ودون أن يتوقع أحدٌ دَفَشَ الحمارُ جدي بكل قواه فرماه بعيدًا الى الأمام. وفي نفس الثانية تهاوى غصن شجرة اللوز الكبير المشتعل على ظهر الحمار، فارتمى الحمار على الأرض دفعةً واحدةً، ولم تمهله النار فلسعته حارقةً
علاء حليحل
“هل يمكن ألا يكون الحمارُ حمارًا؟”، سألتُها بطمأنينة.
“كيف؟”، ردت بطمأنينة أكبر.
“يعني أن يكون حمارًا في التكوين الجسدي والحيواني، وألا يكون حمارًا في الممارسة”، قلتُ بتأهبٍ.
“كيف؟”، ردت بتَحدٍ.
“مثلاً: حمار إبن حمار وأتان، له ذيل، وأذنان كبيرتان، وبطن متدلية وقوائم غبية، وصوت أجش وعيون حمقاء وأسنان صفراء؛ هل يمكن له أن يكون كلبًا في رؤيته وتصوره وإسقاطاته على الحياة؟”… قلتُ مُسهبًا.
“وضح أكثر”، قالت مستخفةً.
“سأوضح: عند جدي الذي يسكن تحت التراب اليوم، كان حمار كما وصفتُ الان. وكنتُ وأنا صغير أحب أن أطعمه من أكوام القش التي كان يجمعها جدي له تباعًا. وعندما كنتُ أقدم له بالة القش ليمضغها، كان يتطلع اليّ مستسخفًا براءتي الطفولية، ويعزف عن الطعام. في المرات الأولى تعاملتُ معه بتسامح لأنني لست مالكه، وإنما حفيد مالكه. بعد المرات الأولى صرتُ أغضب. كنتُ أجمع القش وأكوّمه أمامه وأنظر اليه بتحدٍ: كُل، كنتُ أتمتم ببعض من الأمر وبالكثير من الرجاء، كُلْ! وكان لا يأكل..”
“هذا لأنه عنيد”، قالت باستحقار لشخصي الكريم، “وليس لأنه كلب.”
“هذا جزء من الصورة فقط. أنا فكرت مثلك، حتى ذلك اليوم الذي كنتُ أقف فيه أمامه آمرًا إياه برجاء أن يأكل من يدي، وكان يرفض باستخفاف. في ذلك اليوم انتبهتُ الى جدي يقف ورائي ويبتسم. اقترب جدي منا، الحمار وأنا، وحرّك القش بيديه ليقربه قليلاً أكثر من الحمار، فانقض الحمار على القش ملتهمًا إياه بشراهة”، شرحتُ منذهلاً.
“هذا طبيعي”، ردت باستعلاء، “فهو معتاد على أن يطعمه جدك.”
“أحسنتِ”، صرختُ بحرارة، “أحسنتِ. ولكن هذا من صفة الكلاب أن تخلص لأصحابها… الحمار هَمُه أن يأكل ولو كان من يدي جزاره..”
“أنت تبالغ”، قالت متأففة، “أنت غاضب على الحمار لأنه رفض أن يأكل من يديك..”
“كلا”، قلتُ معترضًا، “وهناك قصة أخرى.”
“ما هي”، سألتْ بأقل ما يمكن من الاهتمام…
“في أحد الأيام كنتُ أمارس هوايتي الطفولية المفضلة، وهي إشعال النيران. في ذلك اليوم أذكر أنني كنتُ متحمسًا جدًا لنجاحي في إبقاء النار الصغيرة التي أشعلتها، مشتعلةً. حتى أنني صرت آخذ من أكوام القش المعدة لمعدة الحمار، وألقيها على النار الصغيرة. في البداية كان همي أن تبقى النار مشتعلةً. ولكن بعد أن تعلمت بأم أذني عن روعة صوت القش المحترق، وبأم عيني عن لون لهبه وسرعة انهراقه أمام تفاعلات الأكسجين مع الصلب، تحوّل همي الى زيادة الاشتعال. كنتُ كمن يزيد من جرعة الكوكايين اليومية ليرتفع أكثر مما اعتاد أن يرتفع. وهكذا صرتُ ألقي بأكوام القش على النار، متنقلاً كالمكوك بين أكوام القش وبين النار الآخذة في الاشتداد… لم أنتبه في خضم حماستي الى أن النار خرجت عن سيطرتي وتسلقت الى شجرة اللوز المجاورة. ولم تمضِ أكثر من دقيقتين حتى سمعت أخي عنان الذي يصغرني بأحد عشر شهرًا، يصرخ بهستيرية ممجوجة بالفرحة: ‘علاء ولّع نال غزيلة غزيلة وصالت كبيلة كبيلة‘. وبعد ترداد سمفونيته التاسعة، هرع الى المنزل يصرخ: ‘ولك يما ولك يما… علاء ولّع نال غزيلة غزيلة وصالت كبيلة كبيلة..‘. وقفتُ عندها بين كومة القش التي اختفت عمليًا، وبين النار التي تسلقت متن الريح وسخّرتها لاحتلال حاكورتنا مترامية الأطراف. وقفتُ ونظرتُ الى النار وأحسستُ برغبةٍ حارقةٍ في التبوّل. وفجأة تذكرتُ الحمار. كان يقف بهدوء، يسلط عينيه اللتين ما عادتا غبيتين، صوب النار، ويمضغ القش على مهلٍ. ‘الله يشحرك‘، جاء صوت والدتي المهرولة من داخل المنزل. كانت عندها حبلى بقريد العش، عامر، وكان عنان يصفق وهو يهرول وراءها: ‘نال كبيلة كبيلة..‘. لم أحر صنعًا، أنا البكر ابن الخامسة، فانفجرتُ بالبكاء. وما هي إلا ثوان حتى أثمر مفعول صراخ أمي الجهور، فدفق القوم من كل صوب وحدب، كلٌ بمعوله وطوريته وسطله ليطفئوا الحريق. عندما رأيت الجميع في ذُهلٍ وحيرةٍ، زادت حدة بكائي، ودون أن أعرف لماذا، نظرتُ الى الحمار. كانت نظرته ما زالت مسلطة نحو النار وعدم الاكتراث يتملكه. وفجأة رأيتُه ينتفض ملذوعًا، شادًا المرسة الملفوفة على رقبته فيقطعها، فيركض جافلاً صوب… جدي! كان جدي الذي يسكن تحت التراب اليوم يحفر بطوريته فاصلاً بين النار وبين الجهة غير المحترقة من الحاكورة. ودون أن يتوقع أحدٌ دَفَشَ الحمارُ جدي بكل قواه فرماه بعيدًا الى الأمام. وفي نفس الثانية تهاوى غصن شجرة اللوز الكبير المشتعل على ظهر الحمار، فارتمى الحمار على الأرض دفعةً واحدةً، ولم تمهله النار فلسعته حارقةً، فنهق نباحًا عاليًا، ككلب صيد كبير، وزهق روحه….”
“أنت تهذي”، قالت غاضبةً. “من أجل أن تروي قصةً جذابةً يمكنك أن تختلق أيّ أكذوبة وأيّ مبالغة. وأنت ستقول الآن بكلّ صلافة إنه يحق لك الارتكان الى المبالغات الأدبية لبناء الدراما الجيدة…”
“لا حبيبتي”، قلتُ بصدق، “أقسم لك أنّ الحمار نهق نباحًا خالصًا!”
“دعك من هذه الترهات. أنت تحاول إضفاء الرومانسية وبعضًا من الفلسفة على طفولتك العادية حتى الملل.”
“إسألي أمي، قلتُ مغتاظًا.
“وشهد شاهدٌ من أهله”، ردت مُغيظةً.
“حسنًا. لا يهمني أنك لا تصدقينني، ولكنني وددتُ أن أروي لك سر الحمار الذي كان كلبًا في حياته، وفي مماته أيضًا.”
“ليَكُنْ”، قالت محايدة، ثم أخذت تبتسم ناظرةً اليّ ببعض الدلع الممزوج بالحبّ:
“ولكنني أعرف قصةً عن كلبٍ وفيٍّ أحبّه جدًا، ولكنه حمار في نفس الوقت…”
(من مجموعة “قصص لأوقات الحاجة”)
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 16 آب 2012)