الحاكم بأمر الدبابة
علاء حليحل
الواحدة من بعد الظهر، حاجز قلنديا: مئات السيارات ومئات المئات من الفلسطينيين يقفون في الدور. اليوم، الثلاثاء، هو اليوم الثالث من “خروج” الدبابات الاسرائيلية من رام الله. الجيش الاسرائيلي يفرض “طوقًا” على المدينة ولا يزال يحتل المقاطعة وما حولها.. لا خارج ولا داخل الا بأمرٍ من الحاكم بأمر الدبابة. توقفت سيارتنا الصغيرة. محمد بكري، أشرف حنا وأنا كنا ننظر الى الحاجز المُسيج الكبير المرعب بكآبته. علينا الدخول الى رام الله. فالهاتف النقال يؤكد بعد كل دقيقة أن حسين سيموت. لحاجز قلنديا طقوس خاصة به. على الجانبين تقف السيارات الكثيرة (نمرة صفراء). ستجد الكثيرين ممن يقولون لك ألا تترك سيارتك هنا. يقولون ولا يفسرون. فالكل يعرف ضمنًا ما قد يحدث للسيارات الواقفة. الجميع يقفون في الدور بانصياع وترقب. أيها الجندي الذي نجا جدك من محرقتهم، أنقذنا من هذه المحرقة وغبارها. اتصال من المستشفى في رام الله. الدواء الآتي من لبنان سيتأخر. لن نسافر الى أريحا. سندخل الى رام الله. محمد ينظر الى اليمين وأشرف الى اليسار وأنا أنظر الى الفورد الزرقاء التي ألقت بركابها الى الشارع وتفرّغ السائق لنكاته مع معارفه من المارّين. صديقي من الداخل (داخل رام الله وليس الداخل الذي نعرفه) يقول إن طريق الجلزون أغلقت أيضًا. هناك حاجز. نصمت قليلاً. نتردد قليلاً. رام الله على مرمى مدفع الدبابة ولا نستطيع دخولها. من حاجز قلنديا طلع القرار: سنجرب جهة الجلزون، وسنرى. ورأينا.
الشارع المؤدي من مستوطنة عوفرا الى مفرق البالوع (أيوش- يسميه أبناء الدبابات) مغبر محفّر. ندور ونصل الى “المحسوم”. نريد الدخول، فحسين قد يموت. محمد يقترح أن يتحدث هو وأن نتكل على نجوميته ونصمت. الجندي من الاحتياط. واضح. وواضح أنه يشعر بالذنب. كان لطيفًا أكثر من اللازم. تضايقتُ. لماذا أنت لطيف الى هذا الحد؟ هل أنت نفسك من قاد هذه الدبابة التي على مرمى النظر قبل يومين ودعس السيارة التي كانت ممزقة قبالة مقهى “زرياب” في وسط رام الله؟ البعض من سكان رام الله روى بعد دخولنا أن بعض الجنود كانوا يدخلون لاعتقال الأخ أو الأب ويقدمون باليد الأخرى قطعة حلوى ويبتسمون للأطفال المغرقين بالبكاء. أحد الآباء قال للجندي: حتى لو أعطيته كل الحلوى التي في الدنيا فانه لن يحبك. الجندي شعر بالاهانة لأن الأب قابل مودته بنكران لها! يأخذ الاحتياطي هوياتنا ويطلب أن نستدير وننتظر في السيارة. محمد قال له مرةً اخرى إن حسين سيموت والجندي وعد بأن يفحص. جلسنا الى جانب سياج المعسكر المتاخم للمحكمة العسكرية في بيت أيل. هنا يقبع الآن العشرات من المناضلين ينتظرون ختمًا أزرق على ورقة بيضاء وعليها نجمة داوود. كلهم ينتظرون (الاعتقال) “الاداري” ويعلمون أنه آتٍ. يعود الجندي. لا دخول ولا خروج بأمر من الحاكم بأمر الدبابة. نستدير ونعود. نسير الى جفنة ثم الجلزون ثم دورا ثم سردا ثم شارع الارسال ثم وسط رام الله ثم ميدان المنارة. الطريق المتفرعة من الشارع الالتفافي المتجه الى نابلس محزنة. دبابات ابناء الدبابات هشمتها، آلياتها حفرتها. ولكن الفلسطينيين يسيرون. بالمنيح، بالعاطل، يسيرون. يزمرون، ينتظرون بصبر ريثما تعبر السيارة الحفرة التالية. الكثير من السيارات تذهب وتجيء. والحذر واجب. لولا الحظ السعيد لأطلق علينا المستوطن، المتمترس في برجه الفولاذي، الرصاص. توقفت السيارة وصاح بعربية مقرفة كما يعرفون هم أن يصنعوا من ضادنا الرائعة: “مْسَكّغْ!… مْسَكّغْ!…”. كانت فوهة البندقية تغطي وجهه وبدا من داخل ظلمة برجه ملاك موت أسود. في مثل هذه اللحظة بالذات تتمنى لو أنك فلسطيني من رام الله أو جنين ليكون معك بندقية لتقف قبالته وتصوبها نحوه، مثلما يفعل نحوك، وتضحك على جبنه ملء شدقيك. عند دوار “المنارة” أخذنا يمينًا واتجهنا صوب مستشفى الشيخ زايد. التقيت بصديقي ومرافقنا في هذا اليوم: خالد فراج، الزميل من صحيفة “الأيام”. بعد حوالي نصف الساعة سألني اشرف إذا كنت رأيت القبر في حديقة المستشفى الذي دفنوا فيه الشهداء وقت الحصار. ارتعبت خوفًا. أنا لا أخاف من الميتين أو المقابر عادةً. ولكن هذا القبر ليس ككل القبور. نظرت اليه من البعيد ولم أجرؤ على الاقتراب، الا بعد حين.
الرابعة من بعد الظهر، مستشفى الشيخ زايد: جئت مع مرافقيّ من أقصى الداخل الى أقصى “الداخل” لنرى د. حسين برغوثي، الكاتب والشاعر والناقد. حسين يرقد في غرفة الطوارئ ويحاول ألا يستسلم للمرض الخبيث. في لبنان هناك طبيب يقال إنه عبقري وإنه نجح في اختراع دواء يشفي من السرطان. الدواء خرج من لبنان وهو في طريقه الى عمان. بعد ذلك الى الجسر وبعد ذلك الى أريحا وبعدها الى رام الله، إذا سمح الحاكم بأمر الدبابة. رائحة المستشفى لا تدل على شيءٍ مما كان فيه قبل أيام. نظيف، براق وهادئ. رائحة البخور تطغى على المكان. ربما لطرد ما تبقى من رائحة الجثث. حسين يضطجع بهدوء في سريره البارد. يطلب أن نجلسه على الكرسي الى جانب السرير. على الرغم من المورفين والمرض والارهاق فانه في كامل وعيه. يسلم ويحاول أن يبتسم. يردد وراء المرددين: الدوا جاي، والشيء الوحيد المؤكد في جملته أنه لا يصدق ذلك. كيف يمكنك أن تكون مريضًا في مثل هذا الوضع؟ في سيرته التي عكف على كتابتها في أيامه الأخيرة، “سأكون بين اللوز”، يكتب حسين: “… وفي باب غرفة الطوارئ تتدفق سيارات إسعاف عليها رسم هلال أحمر، وجرحى وشهداء، وأنا تائه أسال عن دكتور أمراض الدم. فترد ممرضة متوترة: “نحن في حالة طوارئ، ألا ترى”. فأدرك أنني شخص زائد عن الحاجة، مريض متطفل يمشي نحو مصيره وحده، بهواجس فرديةٍ، لست “زائرًا”، ولا “معافى”، ولا جريحًا ولا على وشك الشهادة. بل “مريضًا عاديًا”، أي لفظة حائرة بين قاموسيّ الموتى والأحياء، بين الولادات الجديدة في الطابق العلوي، وبين ثلاجة الموتى في الطابق السفلي…”. نخرج وندخن السيجارة المئتين منذ هذا الصباح. الجميع يعانق الجميع. التحية الاكثر شيوعًا في رام الله في ذلك اليوم كانت: الحمد الله على السلامة. يقولونها ويتعانقون ثم يبتسمون. “فَلَتِتْ” يقول الشبان لبعضهم البعض. يشعلون سيجارة. فلان أعتقل وفلان قتل وفلان هارب وفلان مختبئ وفلان أخذوه ليلة أمس، فهم ما زالوا يأتون في الليل الى دوار المنارة ويقتحمون ويعتقلون، وأحيانًا فقط من أجل الفرجة. من أجل التحقق من أن دباباتهم لم تنس تدمير شيء في طريقها. أقترب مع خالد وعزيزته. نقف الى جانب القبر الجماعي. رأيته في “الجزيرة”. كلكم رأيتموه. على القبر علم فلسطين وعليه مكتوب: “نصر من الله وفتح قريب”. كلمة “فتح” كبيرة وبارزة. على الأرض علمان أخضران مع “لا اله الا الله ومحمد رسول الله”. أنا شخصيًا حاولت أن أرى الله الذي رفعوا إسمه فوق القبر فلم أرَه. لم أرَهُ في أي مكان في رام الله.
الخامسة من بعد الظهر. مركز رام الله: أجلس في الخلف وخالد يستعرض عليّ نُتفًا من الدمار: عمارة الأريزونا: معركة وأربعة شهداء. عمارة القاهرة عمان: خمسة ضباط من الشرطة الفلسطينية. عمارة النتشة: معركة ضارية، دمار هائل وعشرون أسيرًا استسلموا. مكتبة الجعبي: حرقوا المدخل قبل ساعة من الخروج. عمارة طل القمر: تحطيم وتدمير. عمارة الميدان: تدمير صاروخي وتحطيم لا يوصف. مكتب الجبهة الشعبية: محروق حتى الأساس. محال أحذية تابع لوالد مطلوب اسمه شادي الشرفا اعتقلوه في النهاية، ثم دمروا محال الاحذية التابع لأبيه عقابًا ونهبوه. الأرصفة في كل مكان مهدومة ومنتشرة اشلاؤها في كل مكان. الاشارات الضوئية (الرامزون) مكسرة ومبعثرة (هدية من فرنسا). مركز خليل السكاكيني كان مستهدفًا ايضًا فخلعوا ابوابه وشبابيكه ودمروا محتوياته. وزارة الثقافة ليس فيها الا الحيطان والنوافذ المثقوبة. لم تسلم من مباني الوزارت الا وزارة التخطيط. عداء خاص للأعمدة، لا تفهم لماذا. كل عامود تقريبًا ملقى به على الشارع. السيارات المحترقة والمهروسة تملأ كل رصيف. الى جانب السيارات المدمرة كانت صبية تغسل سيارتها بالماء والصابون. لا تفهم لماذا ايضًا. “أعداء الأشجار” سمّى خالد أبناء الدبابات. يتقصدون الشجر. أشجار الزيتون التي زينت دوار الساعة صارت في عداد الماضي. والشجرة التي لا يقطعونها يقصفون اغصانها برشاشاتهم الثقيلة. برابرة. متخلفون. حاقدون. سافلون. ترى الحقد في كل مكان. هذا ليس احتلالاً عاديًا. لم يطلقوا النار على المحاربين ولم يفرضوا حظر التجول فحسب. دخلوا بكل وساختهم وأقذارهم. دخلوا بعتاد الكراهية والهنجهية. اقتحموا البيوت. سرقوا النقود والمجوهرات. كانوا يسرقون حتى علب السجائر. في مراحيض مسرح “القصبة” تغوطوا ودهنوا الحيطان وكل شيء ببرازهم. في أحد البيوت سرقوا عشرين شيكلاً. في مبنى البلدية فجروا الخزنتين ونهبوا محتوياتهما. كانوا يخرجون أعضاءهم ويبولون أمام النساء وفي كل مكان. أرعبوا الأطفال وأسسوا بانفسهم جيلاً كاملاً من الفدائيين والمنتحرين الشباب. في رام الله يروون قصصًا عن جنين: مُسنٌ مع أبنائه الثلاثة خرجوا من مخيم جنين. أوقفهم الجنود. طلبوا منهم أن يرفعوا بلوزاتهم ليتأكدوا أنهم بدون أحزمة ناسفة. الجميع رفعوا. واحد من الأبناء كان مع مشد للظهر. الضابط طلب من الجندي أن يقتله. الجندي قال إن هذا مشد للظهر وليس حزامًا ناسفًا. الضابط أصر. الشاب لم ينفجر بعد إطلاق الرصاص عليه. الضابط أمر بقتل الباقين لئلا يرووا ما حصل. الأب لم يمت من الرصاصة وبقي حيًا ليروي القصة ووثقها لدى كل المؤسسات الحقوقية والانسانية. احتلوا كل شيء حتى الحق في النظر من الشباك. حفروا الشوارع. حفروا الارصفة. حفروا كل شيء. الا شيء واحد لم يستطيعوا حفره: الناس.
السابعة ليلا، مقهى “ستونز”: الناس خرجت الى الشوارع والى المقاهي بعد أكثر من عشرين يومًا في البيوت. المقهى يمتلئ رويدًا رويدًا والجميع يسأل عن الجميع. نطلب بيرة. بيرة “طيبة” الفلسطينية. أحس بأن قنينة البيرة هذه هي الأفضل التي شربتها في حياتي. حتى لو دخلتم في مسامات الجلد فسنظل نعيش. هكذا قالت قنينة البيرة على الطاولة التي حملت الهواتف النقالة التي لم تتوقف عن الرنين. فالجميع يسأل عن الجميع. ننتقل الى مطعم آخر. أحمد (صديق خالد) وعزيزته يجلسان هناك. سننام عنده الليلة. فالساعة قاربت التاسعة والكل أجمعوا على أن الاقتراب من المحسوم الان نتيجته واحدة ومؤكدة: سيطلقون النار علينا قبل أن نصل وقبل أن نتحدث. رام الله من خلفنا معتمة مقفرة. نحن في جلستنا تلك آخر من هم خارج البيوت. ربما كنا الوحيدين الذين هم خارج البيوت. صاحب المحل طلب بأدب أن نفض السهرة لأن الوقت صار متأخرًا جدًا. كانت الساعة تشير الى العاشرة وأربع دقائق. قبل مدة كانت رام الله تغسل ضفائرها في مثل هذه الساعة لتستقبل السهر والسمر. عندما غادرنا المكان لم نرَ الا سيارةً واحدةً في كل الطريق. الأهل في بيت أحمد أكدوا ما سمعناه من الجميع: نحن أقوى الآن. الناس في رام الله رائعون، رائعون، رائعون. يغسلون الشوارع وينظفونها، يكنسون فتات المباني ويستعدون للمعركة القادمة. تفاؤل غريب يسود المدينة. تفاؤل بأن اسرائيل لن تنجح بعد اليوم في كسر شوكتهم. حتى لو وضعت دبابةً على مدخل كل بيت. والناس غاضبون على حملة السلاح أيضًا. ينظرون الى جنين البطولة ويتحسرون على سقوط رام الله. الناس لا تحب قتل العملاء في الشوارع. كان عليكم استخدام السلاح قبل أيام. الكثيرون قالوا غاضبين إنهم سيضربون أي مسلح (فلسطيني) يجرؤ على الخروج بسلاحه. ومع ذلك فالهمة عالية جدًا جدًا. اسرائيل هي التي في مأزق، ولسنا نحن، يقولون في الشارع وفي البيوت. إسرائيل في مازق.
السادسة والنصف صباحًا، حاجز قلنديا: مئات الطلاب مع حقائبهم المدرسية. مئات الرجال والنساء متوجهون الى العمل. سيارات الشحن الكبيرة وبضعة جنود من أبناء الدبابات. لا خروج بالسيارة الى صوب القدس. لا خروج بأمر من الحاكم بأمر الدبابة. نعود أدراجنا الى الطريق الطويلة والصعبة لنلتف ونصل في النهاية الى قلنديا- ولكن من الجهة الأخرى. من جهة اسرائيل. أحدهم ذهب الى الجسر ينتظر وصول الدواء لعل حسين يقهر المرض. أحمد ودّعنا في الصباح وفي الجو شعور بأن شيئًا ما تغير. هناك صاروا ينظرون الى عرب الداخل بصورة أيجابية أكثر بكثير. رأوا المظاهرات والاغاثة ومحاولات اقتحام الحواجز في جنين والرام. رأوا النواب العرب يستميتون في محاولة الدفاع عنهم وعن موتاهم/ موتانا. رأوا وفرحوا لذلك. ومع أن ما نفعله هو أضعف الأيمان، إلا أن ذلك بالنسبة لهم أمرٌ غير قليل. رام الله تستيقظ من ورائنا ليوم جديد ونحن نعود الى الداخل صامتين. نتحدث في الطريق عن الوضع، وعن الكفاح وعما سيحدث. وإن نسيتُ كل ما رأيتُه فلن أنسى قيسًا. والده محتجزٌ في المقاطعة منذ الاجتياح. وقيس يقفز أمام شاشة “المنار” ويصرخ على الجنود البشعين أبناء الدبابات. وعلى الرغم من أنه لم يتعدَ الخامسة، وربما بسبب ذلك بالذات، إلا أن الدبابات الهائلة التي غزت حياته، فرضت عليه حياةً جديدةً. حياةً مليئةً بالدبابات والقتل والتدمير. حتى أنه توقف عن القول لأمِه إنه يحبها قدّ البحر، بل هو يحبها الآن قدّ الدبابة!
(نشرت هذه المادة في “فصل المقال، نيسان 2004)