الآن الآن وليس غدًا: هشام نفاع لرئاسة تحرير “الاتحاد”
نزلنا، هشام نفاع وأنا، درج مبنى جريدة “الاتحاد” السّابق في حي وادي النسناس (شارع الفارابي)، وكنا نيمّم شطر فلافل ميشيل كي نتناول غداءنا المنهجيّ المتفق عليه: الفلافل. كان هشام يُسدي لي النصائح في كيفية إدارة وتحرير ملحق “عيش وملح”، الذي كنا نخطط لإصداره في الجريدة وتبقت على خط الموت (دِد لاين) أربعة أيام لا غير.
وقد أثار تسلّمي لتحرير الملحق الجديد وقتها غبارًا ورمادًا في أروقة الجريدة وخارجها، حيث كنت وقتها تلميذ أبو الأديب (وائل واكيم) على حاسوب الماكنتوش الذي كنا نُمنتِج عليه الجريدة، وكانت مهاراتي التفاحية (نسبة لشركة “apple” الشهيرة، قبل أن يكتشفها الرعاع) في تبلوُر مستمرّ تحت رعاية وتوجيهات “أبي الأديب”. فكيف يُسلّم ملحق جديد في الجريدة لمونتاجير، هو أصلا لاجئ من قسم التدقيق اللغوي، حيث لم يُعمّر هناك طويلا بعد أن نزف فيه أخطاء لغوية ومطبعية فاحشة أحرجت الحزب والجريدة.
خزّنتُ نصائح هشام (“بو نايفة”) وقتها وعملتُ قدر الإمكان بموجبها. كان هشام يسبقني باعًا وخبرة في الصحافة، وكنتُ بحاجة إلى الكثير من السنوات بعدها كي أتبيّن حجم فضله الكبير عليّ، كصديق وزميل ومعلم. ولكنني لست الوحيد الذي يحتاج إلى عدد هائل من السّنوات كي يكتشف البديهيات؛ أحزابنا تحتاجها أيضًا.
فالرفيق “بو نايفة” يعمل في “الاتحاد” سجالا وتباعًا منذ سنوات طويلة، يأتي ويذهب، يتفاءل ويستسلم، ثم يتفاءل ثانية. وفي كلّ مرة كان يعيد كَتْب كتابه على الجريدة الهرمة كنا (بعض الأصدقاء وأنا) نوسعه سبًا ولومًا وشتمًا (أمامه ومن وراء ظهره) لإنه يُلذع للمرة العاشرة من نفس الثقب.
لكنّ عودته الأخيرة إلى “الاتحاد” تختلف هذه المرة، لعدة أسباب، أهمّها وفاة رئيس التحرير السّابق أحمد سعد وخلوّ كرسي رئاسة التحرير، وعدم تعيين خليفة له حتى كتابة هذه السطور. فالحزب هنا غير مجبر على فصل أحد ولا على إعادة النظر أو التقييم أو المراجعة بحقّ أحد، كما أنه غير مجبر الآن على البتّ بين معسكرات أو توجّهات في المكتب السياسي أو اللجنة المركزية تتعلق برئيس التحرير الموجود، مقابل ذلك الموعود.
ولمن لا يعلم، فإنّ هشام نفاع هو أصلح من يكون لرئاسة تحرير هذه الجريدة منذ عزل إميل حبيبي حتى اليوم (بحكم امتحان النتيجة والممارسة)، برغم تعاقب الرؤساء والمرؤوسين من وقتها. إلا أنّ الماكينة الحزبية لا تسمح بتعيين صحافي فذّ كهشام، لا يُعدّ في ضمن قائمة “أمرك سيدي” (yes man). وكي لا تُفهم هذه المقالة على أنها تقريظ بحق الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي لا أحبه ولا يحبني، أقول وألحّ أنّ هذا صحيح في جميع الأحزاب قاطبة.
إلا أنّ ما يدفع إلى كتابة هذه المقالة غير الاعتيادية، سُنوح فرصة ذهبية كي ينقذ الحزب الشيوعي، وقبل فوات الأوان، جريدته-جريدتنا. فـ “الاتحاد” جريدة هامة رغم أفول نجمها وشبابها وتاريخها الذهبي وترهل جسدها وتورم مفاصلها؛ هامة في نوستالجيتها وتاريخها وهامة في دورها الذي يمكن أن تلعبه، رغم كلّ الظروف. تعيين هشام رئيسًا للتحرير سيزيد من هذه الإمكانيات بدرجات كبيرة جدًا، وقد يؤدي بشكل ما إلى إعادة الاعتبار إلى الصحيفة التي صاغت صحافيينا وصاغوها، هذّبتهم وهذّبوها، نافستهم ونافسوها. عودة “الاتحاد”
كصحيفة ندّية، قوية، لها حضورها، سيجبر الجميع على التعامل المختلف مع المشهد الصحافي والإعلامي، حتى لو اقتصر الأمر على الصحف الحزبية المنافسة.
لست من المؤمنين الكبار بقدرة السياسيين والحزبيين على اجتراح القرارات الملائمة في الأوقات الملائمة. لكنني أومن أحيانًا ببعض الحتمية التاريخية (رغم أنني لست شيوعيًا البتة)، ومن ضمن هذه الحتميات انتصار الجودة على الاعتبارات الضيقة، انتصار الثقافة على السياسة، انتصار الخيار الأصحّ (والأصعب) على الخيار الأسهل (والأسوأ).
قبل سنوات كتبتُ مقالة دعت إلى تعيين أيمن عودة سكرتيرًا عامًا للجبهة، رغم صغر سنّه وقتها واستنفار الكثيرين ضدّه. وبعد نشر المقالة اتصل بي أحد الخبثاء وقال إنّ مقالة مني بالذات داعمة لأيمن ستقضي على أيّ احتمال بانتخابه، من باب: أنظروا من يروّج له…
لا أعرف إذا كان هذا سيُقال اليوم أيضًا حول تعيين هشام نفاع رئيسًا للتحرير، من نفس الباب أيضًا، ولكنني أعزّي نفسي دائمًا، بقليل من المتعة، أنّ عودة انتخب حقًا سكرتيرًا عامًا للجبهة بعد كتابة مقالتي تلك. يبدو أنّ الحتمية التاريخية قد تنتصر أحيانًا على الحزب الذي يحمل رايتها. في حالة هشام سيكون هذا الانتصار لنا جميعًا.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 14 حزيران 2010)