أين اختفى بريخت؟؟
علاء حليحل
“الرايخ الثالث” نجحت في نقل الفترة والمكان والمراسيم والتاريخ، ولكن أين المسرحية الحقيقية؟…
مدخل
تعرض في هذه الأيام مسرحية “بؤس ورعب الرايخ الثالث”، من تأليف برتولد بريخت، من إنتاج مسرح الميدان، ومن ترجمة وإخراج رياض مصاروة. بعد ثلاث مشاهدات للمسرحية، يمكن القول منذ البداية إن المسرحية هي تفويت غير قليل، لانتاج عمل متميز، يوثق لحقبة تاريخية، ويكون شاهدًا في نفس الوقت على حقبة تاريخية قد تأتي، في هذا المكان وفي أزمنة تالية. وعلي القول منذ البداية إن من يحاول الربط بين المسرحية، التي تتحدث عن صعود النازية في ألمانيا وفترة حكم الرايخ الثالث، وبين دولة إسرائيل اليوم هو واهمٌ كاقل ما يُقال. إسرائيل دولة ترتكب جرائم حرب منذ عشرات السنوات. ولكنها ليست نازية. شارون ليس هتلر. “الليكود” ليس الحزب النازي والممارسات الاسرائيلية الاجرامية والسافلة والحقيرة في الضفة والقطاع وداخل الدولة، لا تقترب ولو بقليل من الممارسات النازية بحق اليهود وبحق الاقليات الاخرى في الرايخ آنذاك. يمكن بالطبع الاشارة الى بعض الملامح القومجية والممارسات الاثنية التمييزية. ولكن هذه الاشارات موجودة اليوم في غالبية أوروبا بعد تزايد قوة الأحزاب اليمينية التي تعتاش على كراهية الآخر، وليست حصرية على اسرائيل. اسرائيل اليوم هي قطعة صغيرة في فسيفساء العولمة الجديدة التي تريد استغلال الغريب دون إعطائه حقوقه الأولية على الأقل.
بنظري، محاولة المقاربة أو محاولة القول إن المسرحية تعكس الواقع اليوم، هما محاولتان ممجوجتان وديماغوغيتان تضران أصلا وحصرًا بالشعب الفلسطيني. الشعب الفلسطيني ليس بحاجة الى المبالغة والتضخيم والتزييف من أجل رواية مأساته. المأساة الفلسطينية حاضرة وشاهدة ونازفة دون الحاجة الى الاستعانة بفترات سابقة أكثر ظلامًا بألف مرة. هذه المبالغة تُسخّف من خصوصية القضية الفلسطينية، وتميزها العميق، نتيجة للسياقات التاريخية والالحقات المجتمعية، إن كان عن طريق الاستقراء أو الاستنباط. في كلتي الحالتين ألمانيا النازية لم تنشأ هنا بعد. يمكن أن نقول ذلك بعد سنوات (نتضرع ألا تأتي) تنتهج فيها إسرائيل السياسة النازية، داخليًا وخارجيًا. حاليًا إسرائيل هي إسرائيل فقط، والفلسطينيون ليسوا يهود القرن الواحد والعشرين. ولا نريد أن نكون…
ماذا أراد بريخت أن يقول؟
يُعد بريخت من أبرز مسرحيي المسرح الملحمي (Epic Theatre). وهو المسرح الذي يسعى لطرح المفاهيم السياسية، ورفض التقمص العاطفي والخداع. من هذه الناحية تبدو الشخصيات البريختية مغتربةً دائمًا وباردة. حتى في حزنها لا تستفيض في البكاء أو النواح. والشخصيات البريختية في غالبها تكون واعيةً لموقعها المسرحي والحياتي على السواء. فالضابط النازي (أشرف برهوم) في مشهد “صليب الطبشورة” من المسرحية موضوع الحديث، هو التجسيد الأكبر للشخصية “البريختية”. (هنا الموقع للقول إن اصطلاح “الشخصية البريختية” الذي اعتمدته هو عام جدًا ولا يسري على كل أعمال بريخت. الاصطلاح يسري في جوهره على المسرحيتين اللتين كتبهما بريخت في منفاه عن المانيا النازية، و”الرايخ الثالث” هي إحداهما). فالضابط النازي (رجل الاس آ) يلعب مع غريمه (محمود قدح) المُشكك في الرايخ الثالث لعبة مسرحية، بحيث ينبني داخل المشهد مشهد آخر لا يقل أهمية عن المشهد الأصلي. هذه اللعبة هي واحدة من مميزات أعمال بريخت، “المسرح داخل المسرح”. وهو المسرح الذي لا يحاول خداع الجماهير ويحاول إقناعهم بأن ما يشاهدونه شريحة من الحياة. في هذا السياق، كان يجب على المخرج رياض مصاروة أن يحل هذه الاشكالية. فالمشهد المذكور هو واحد من أقوى مشاهد المسرحية من الناحية الدرامية، إن لم يكن الأقوى (بفضل برهوم وقدح)، ولكنه من الناحية المسرحية الشاملة لا يلبي رغبات النص الأصلي المترجم الى العربية. فالمشهد كما قُدم لا يلبي الميزة الثانية من ميزات المسرح البريختي وهي أن المسرح يجب أن يكون أكثر من مجرد هروب من الواقع، فهو يلعب دورًا اجتماعيًا، إذ يجعل المشاهدين يفكرون في أحوالهم وكيف يُحكمون، أو يعيشون الحياة.
هنا بالذات تكمن مظاهر الضعف في المسرحية. فحرص مصاروة على عدم ادخال الاسقاطات الآنية على المسرحية جعلها تتأرجح بين الدخول والخروج من المكان والزمان الراهنين بالذات. لماذا؟ لأن المشاهد المحلي مُعبأ. إذا تجاهلت هذا الأمر تقع في الفخ الذي نصبته لنفسك: لا أريد أن أقول شيئًا عن الواقع، ولكن الواقع يقول كل كلمة على الخشبة! الواقع الذي كان على مصاروة أن ينقله ليس الواقع النازي وإحالته الى اليوم. هذه المسألة أوضحتها سابقًا في المدخل. الواقع المطروح في هذا السياق هو الاغتراب الاجتماعي والحياتي بين السلطة وبين الفرد. ما الذي يجعل أمة كاملة تخضع لصولجان دكتاتور مسبي بأحلامه الشريرة؟ هل هذه حالة إنسانية نادرة أم أنها جرثومة واسعة الانتشار تنتظر الخروج في أقرب فرصة؟ لم يكن واضحًا في أي مشهد من مشاهد المسرحية أن مصاروة حلّ أو حاول حل هذه الاشكالية بين “أممية” المضامين” وبين خصوصية الفترة والزمان اللذين تعتمد عليهما المسرحية. المشاهد في جوهرها كانت ترجمة أمينة وصادقة للنص المكتوب. المشكلة أن المشاهد لم ترتقِ الى ما هو أكبر من النص المكتوب. “أممية” المضامين البريختية هي بالذات التي تجعل من مسرحه عالميًا ويكاد يكون أزليًا. كل ذلك على الرغم من خصوصية الشخصيات والمواقع والأحداث. في هذه الفسحة بين الخصوصية و”الأممية” يلعب المخرج بأوراق النص. مع الممثلين ومع نفسه في الأساس. وهذا لم ينجز حتى النهاية في المسرحية.
سياق آخر كان يجب التشديد عليه في هذه المسرحية هو السياق الماركسي، الذي ارتبط ارتباطًا عضويًا بتطور المسرح الملحمي- البريختي. من هذا المنطلق تناول المسرح الملحمي الانسان على أنه مجموعة علاقات اجتماعية، وعلى الممثل أن يخلق صورةً تعطي الاحساس بالعالم الخارجي. هذا لم يحصل في المسرحية. بدا واضحًا ومن دون لبس شحة العمل بين المخرج وبين الممثلين على الشخصيات في المسرحية. الشخصيات لم تكن مبنية ومبلورة من ناحية حضورها الفردي والخاص، بدون ملابس أو ديكور أو إضاءة. الضابط النازي هو إنسان أيضًا. له حضوره الخاص خارج بدلته العسكرية. ما هي علاقته بالخادمة التي تحبه؟ هل يمكن بناء علاقة حب في ذلك الزمن الصعب؟ هل يستطيع ضابط نازي أن يقتل المئات بيد وأن يمسد شعر حبيبته باليد الأخرى؟ هذه هي الأسئلة التي تسيّر بناء بعد إضافي للكاريكاتير البريختي المغترب والغريب. لماذا يجب القيام بذلك؟ لأن النص يدعو الى ذلك أولاً، ولأن بُعد الاحداث الزمني والمكاني يمكن أن يمهد –دون أن يقصد ذلك- لبناء موافقات ومقارنات سطحية بين ما حدث وما يحدث. وليس هذا الهدف. ما حدث في الرايخ الثالث حدث قبله وسيحدث بعده. في الجوهر بالطبع وليس في الممارسات. هل يمكن لضحية الأمس أن تكون جلادة اليوم؟ وهل يمكن لضحية اليوم (نحن) أن تصير جلادة الغد؟ الاجابة تكمن في الخصوصية المفقودة في المسرحية. “الرايخ الثالث” نجحت في نقل الفترة والمكان بدقة كبيرة، نجحت في نقل المراسيم والتاريخ، ولكن أين المسرحية الحقيقية؟…
فسيفساء من المشاهد
مهمة ترجمة النص البريختي الأصلي الذي حوا 27 مشهدًا، هي مهمة صعبة للغاية. مصاروة نجح في انتاج نص عربي فصيح ناجح، ومرن للاداء. حتى أن العربية الفصيحة التي أنجزها مصاروة ساعدت على بناء المسرحية ووضعها في السياق التاريخي والزمني الصحيح. فالتاريخ بالنسبة لنا هو الكتب، والكتب تُكتب بالفصحى. هذا الشعور الفوري والأولي، حسب اعتقادي، هو الذي مهّد خير تمهيد للتعامل مع العربية الفصيحة بتقبل كبير. وهذا القرار صحيح ايضًا من الناحية الدرامية حيث بدت الحوارات مأخوذة من عالم آخر، يمكن أن يكون عالمًا نموذجيًا مطلقًا تدور فيه الأحداث.
في سياق بنيوية المسرحية هناك محوران رئيسيان أود التطرق اليهما. المحور الأول هو تعددية المشاهد وعدم الالتزام بفصول محددة، وهذه نزعة بريختية محضة؛ والمحور الثاني هو الحائط الرابع الذي أحب بريخت نفيه من مرة الى أخرى.
فيما يخص تعددية المشاهد، فان المسرحية موضوع الحديث احتوت على 13 مشهدًا فقط من أصل المشاهد السبعة والعشرين. هذه الانتقائية هي عملية صعبة ومنهكة في جوهرها، وقد أخذها مصاروة على عاتقه. ولكن السؤال الذي يبرز في هذا السياق: هل نجحت المشاهد الثلاثة عشرة في تمرير “البؤس والرعب” في الرايخ الثالث؟ الاجابة غير قاطعة ولكنها تميل للنفي. فالنهاية المفتوحة (إحدى مميزات المسرح البريختي) كانت ناجحة. فهي أتاحت للعمل المكتمل أن يوسع من شموليته وامتداده المضموني والشكلي. بمعنى: المأساة ما زالت مستمرة. ولكن المَشاهد التي مهدت لمشهد النهاية (مشهد “المناضل القديم”) لم تؤسس لنهاية قوية. في تتابع المشاهد انعدم عنصر التوتر التصاعدي –إذا صح التعبير- لجعل المُشاهد يرتقي سوية مع المَشاهِد نحو اكتمال الصورة الشمولية، وبالتالي فان عناصر الملل كانت تتسرب من فينة الى أخرى وأحيانًا تطغى على بعض المشاهد، وعلى المقاطع الانتقالية المغناة التي كانت تقدمها سلمى خشيبون- مطر. هذا تحقق لسبب اساسي في إعتقادي وهو التفاوت الكبير بين جودة المشاهد وبنيتها. فكيف يمكن المقارنة أصلاً بين مشهد “صليب الطبشورة” المتقن وبين مشهد “المرأة اليهودية” السطحي والهابط من ناحية الأداء. كيف السبيل الى الارتقاء بالدراما والسيرورة المضمونية، في حين أن ما يمكن أن ينجزه مشهد جيد من أجل هذا الهدف، يمكن أن يدمره مشهد آخر بائس؟ وهنا كان على مصاروة أن يحمل المقص التحريري وأن يمعن في المشاهد تقصيرًا وتغييرًا، يمكن أن يكونا مؤلمين في بعض الأحيان. فحصر البؤس والرعب اليهوديين في مشهد واحد دون المتوسط يجعل من البؤس والرعب في هذه الحالة شعارًا غير مكتمل حتى. هل كان هناك تخوف من التركيز على بؤس ورعب اليهود، تجنبًا لاشكاليات مع الجمهور؟ هل تعاطُفُنا وتماثلنا مع الهولوكوست مشروط باتفاق سلام في الشرق الأوسط؟.. هذه الاشكالية عبّر عنها المدير الفني للمسرح، فؤاد عوض، حين كتب في كراسة المسرحية: “… أنا على يقين أن الانسان المثقف والواعي يمكنه أن يتماثل. ولكن السؤال هل هذا هو التوجه العام؟ خاصةً وأن الحالة السياسية اليوم تقف على مشهد متوتر وموشك على الانفجار بين أبناء الشعبين في هذه المنطقة… هذه التساؤلات إن دلت فهي تدل على أنه علينا أن نجتاز إمتحان التماثل وإن اختلفت الظروف”. الحالة السياسية لا دخل لها في قدرتنا على التماثل وفهم أبشع جرائم البشرية في حق نفسها. هل نحن شعب حاقد ومتخلف لا نستطيع التمييز بين الجندي البهائمي الذي يقتل أبناء شعبنا اليوم، وبين جده الذي قضى في فرن الغاز؟ “الميدان” في هذه المسألة طرح تسوية المشهد الواحد عن اليهود، وكان عليه أن يمنح بالجمهور ثقةً أكبر في فهم السياق اليهودي حتى النخاع، في بؤس ورعب الرايخ الثالث. فبرغم مرارة الصراع إلا أنني أعتقد أنني لم نصل بعد الى درجة البلادة التي تمنعنا من التماثل مع المأساة اليهودية، وهي شرط أساسي لفهم المناخ العام في الرايخ الثالث…
الأمثلة على مشكلة تفاوت المستويات في المَشاهد يمكن أن تزيد، ولكن الجوهر الاشكالي مشترك لكل المشاهد. لو قُصّرت المسرحية من ساعتين الى ساعة ونصف، عن طريق حذف بعض المشاهد أو التقصير في بعضها، لكانت مهمة انشاء مسرحية جيدة من مشاهد تبدو مستقلة، أكثر يسرًا وطواعيةً.
المحور الثاني يدور حول الحائط الرابع. ففي مسرحية مشحونة ومعبأة حتى العظم، تبدو الغاية من وراء كسر هذا الحائط مفهومة ضمنيًا (الحائط الرابع هو كناية عن الحائط الوهمي بين خشبة المسرح والمشاهدين، وكأن الحائط المفترض قد سقط والمشاهدون يراقبون ما يحدث من خارج الحدث). إن تجاهل الحائط الرابع في غالبية المشاهد لم يخدم الشخصيات، ولم يساعد الممثلين في الأساس. فالعديد من المونولوجات والديالوجات كانت سترقى الى مستوى جديد لو أن الممثلين مُنحوا الفرصة لكسر هذا الحائط. عندها “ستنكشف” اللعبة الدرامية. عندها سيقول العمل الكلي إن ما يحدث أمامكم هو مسرح، عليكم أن تفهموه وتتعلموا منه. لا تتجاهلوا هذه الحقيقة لأن النية الأصلية هي ابراز ذلك. فلماذا تجاهل الأمر في النهاية، إذا كانت هذه التقنية ستزيد من التلاحم بين الممثل والمشاهد؟..
التقنيات في خدمة الفكرة
هناك الكثير من الاطراءات يمكن أن تقال في هذا السياق، وعن جدارة. فمصمم الديكور موشيه يوسيفوف أنجز عالمًا استطاع أن يخدم الممثلين من الناحية التقنية بشكل كبير، واستطاع في نفس الوقت أن يدعم الاحساس العام الذي كان يجب أن يكون في المسرحية. كما أن يوسيفوف عمل بروح المسرح البريختي عندما راعى في تصميمه إسقاط التفاصيل غير الضرورية، والحرص في اختيار قطع الاثاث الملائمة، وزرع الملامح التصميمية البصرية لحث المشاهد على التفكير أكثر. وغالبًا، بدا أن الديكور المتقن وقوي الحضور، لم يُستغل كفايةً من جانب المخرج وعناصر الاضاءة. حيث بدت “الميزانسين” في العديد من المشاهد ارتجالية ورفع عتبٍ سريعًا، دون أيلاء هذه القضية أية عناية تُذكر (بالأخص: مشهد “الاستفتاء الشعبي” ومشهد “الوحدة الشعبية”).
ومن ناحية الملابس فان أشرف حنا، مصمم الملابس، هيّأ للممثلين بنية غنية ومثيرة من الملابس التي جعلت الدخول الى الشخصيات النهايئة للممثلين أيسر وأمتع حتى. حتى أن الاحساس كان يتراود أحيانًا، بأن بعض الممثلين في بعض المشاهد، راضون عن الملابس ومعجبون بها الى درجة التماهي مع الزي وخلق حالة نفسية خاصة عند الممثل.
هنا المكان للتسجيل أن المقاطع الموسيقية التي كانت تؤديها سلمى خشيبون- مطر، وهي من وضع بشارة الخل، كانت إشكالية بعض الشيء. فهذه التقنية، تحويل الراوي الى مغنٍ، تستوجب إعدادًا أكثر بكثير مما كان. فعلاوة على أن النصوص التي غُنّت كانت أشبه ما يكون بتعليقات الراوي والكاتب على الأحداث، إلا أنها لم تدفع الأحداث قدمًا، كما أنها لم تكن جذابة من الناحية الجمالية، وهذا شرط لا يجب الاستهانة به أبدًا. في هذا السياق لا يمكن القول إن المقاطع الموسيقية أساءت للمسرحية، ولكن لا يمكن القول أيضًا إنها أفادتها.
محمود قدح وأشرف برهوم
بشكل عام، أدى طاقم الممثلين أدوارًا جيدةً في المسرحية، وبرزت الطاقات الكامنة عند العديد منهم، مثل أيهاب سلامي وآمال قيس وفاتن خوري. ولكن البطولة المطلقة في المسرحية كانت لمحمود قدح أولا ولأشرف برهوم ثانيًا. هذا التفاوت نبع في نظري من إعطاء قدح إمكانية أكبر لأداء مشاهد وشخصيات أكثر. من هنا فان الافضلية هنا هي كميّة وليست كيفية. فالاثنان نجحا بشكل مطلق في خلق شخصيات مع عالم متكامل. حتى في الانتقال بين المشاهد المختلفة، التي أدى فيها قدح شخصيات مختلفة، كان من المستحيل التعرف ولو باليسير القليل على ميزات من شخصية سابقة أداها في المشهد السابق. قدح يتمتع بقدرة عالية جدًا على الأداء الرشيق والمرن، بحيث أن تنقله بين الشخصيات كان الاكثر إقناعًا وحضورًا. أكثر من مشهد كان يمكن أن يكون عاديًا جدًا لولا قدح الذي رفعه الى مرتبة الامتياز، بشكل أو بآخر (مشاهد مثل: “صليب الطبشورة”، “الفلاح يغذي خنزيرته”، و”الجاسوس” بالطبع). قدح في هذه المسرحية (استمرارًا لمسرحيات سابقة، مثل “مشهد من الجسر” و”أكسدنت موت الفوضوي”) أثبت نهائيًا أنه في طريقه لأن يكون الممثل العربي المسرحي الأول في البلاد، بعد جيل “الكبار”. الأيام وقدح نفسه سيحسمان هذا التقدير…
أشرف برهوم، كممثل “صاعد” حديث العهد نسبيًا بالخشبة، ارتقى في هذه المسرحية الى خانة المحترفين. في أدائه المتميز والنظيف وغير المنهَك والذكي استطاع أن يقود شخصياته الى المواقع الدقيقة التي على الشخصية أن تكون فيها. في مشهد “صليب الطبشورة” دفع برهوم الشخصية التي أداها الى مرحلة متقدمة من العمق والتناقضات التي حواها الضابط النازي. التناقض بين الأيمان الأعمى بالفهرر وبين إضطراره الى شراء الجزمة العسكرية بنفسه؛ التناقض بين العلاقة العاطفية التي يديرها مع الخادمة وبين جوهره الجديد النازي المتنكر لكل ما ليس نازيًا أو مشككًا للنازية. برهوم، في انتقاله المتوتر بين الحالات العديدة للشخصية نفسها، وبين الحالات العديدة للشخصيات المختلفة، حافظ، مثل قدح، على استقلالية كل شخصية وانفرادها بمميزاتها، دون أن يجر معه تأثيرات صوتية وحركية من الشخصيات السابقة، كما فعل غالبية الممثلين. أكبر مثال على ذلك هو مشهد “المناضل القديم” الذي يبدو فيه برهوم (بفضل كبير أيضًا للملابس) شخصية مختلفة كليًا عن شخصية الضابط، مع أن الشخصيتين تتبعان لنفس الروح ولنفس التفكير ولنفس النهج. ملاحظة هامة أخرى عن برهوم أنه وعلى الرغم من بروزه وتمكنه الكبيرين في ومن الأدوار، إلا أنه لم يحاول للحظة على طول المسرحية أن يسرق الأضواء من زملائه على الخشبة، هذه المحاولة التي يقع فيها عادة الممثلون الشباب في حماسهم لقطع أشواط طويلة في فترات قصيرة. حضور برهوم الهادئ والقوي كان كافيًا لذلك بشكل كبير…
(نشرت هذه المادة في “فصل المقال، أيلول 2002)
مرحبا
شكرا على المقال القيم
كيف يمكننا الحصول على النسخة المترجمة للمسرحية بفصولها ال27 ؟