أنا في الاستطلاع، إذًا أنا موجود!
علاء حليحل
إستطلاعات الرأي العام في إسرائيل هي مفتاح كل شيء. هي مفتاح النصر في الانتخابات، هي مفتاح التسويق لمنتوج جديد، هي مفتاح وضع البرنامج السنوي للمسارح والسينما، هي مفتاح كل ما هو مغلق. يكفي أن تتسلح بنتائج لاستطلاع ساحق لكي تهزم الجميع بالضربة القاضية. المجتمع الاستهلاكي الذي تجذر جعل من الجدوى الاقتصادية الفكر السائد في كل مكان. إذا لم يكن الأمر مجديًا (بحسب الاستطلاعات) فلماذا الدخول إليه أصلا؟ الجدوى الاقتصادية تحولت إلى جدوى سياسية وإلى ثقافية وإلى كل مجال يحتاج إلى حسم نهائي. كل الأصوات التي نادت في الفترة الأخيرة بأن ما يحدث هو سيء للمجتمع والسياسة الاسرائيليين، هم أنفسهم من استعانوا بهذا السلاح قبل غيرهم. بنيامين نتنياهو مثلا.
في انتخابات 1996 عرف نتنياهو كيف يستغل الاستطلاعات. كانت كلها تشير –مع الاقتراب من موعد الانتخابات، ضد شمعون بيرس- إلى تراجع مضطرد ومثابر ضد بيرس ولصالح نتنياهو. من أجل ذلك كان نتنياهو يقرأ الاستطلاعات وقتها ويعرف أن كل تقليل من شأنها يمكن أن يساعده، في نفس الوقت. أشبه ما يكون باللعب بسيف ذي حدين: الضرب بأحد الحدين على التوالي دون جرح نفسك. فكلما قللت من شأن أرقام خصمك الجيدة كلما جذبت إليك المترددين أو الذين لا يودون حرق أصواتهم على مرشح خاسر. الوحيد الذي انتبه إلى ما يجري وقتها هو رئيس حملة بيرس الانتخابية حاييم رامون، لكن بيرس لم يكن يولي قلق رامون أي إهتمام. النتيجة معروفة للجميع.
في الأسبوع المنصرم لم ينجح نتنياهو في إتباع نفس الاستراتيجية. فالفارق بينه وبين شارون في برايمريز الليكود كان كبيرًا إلى درجة أن هجومه في الأيام الأخيرة على الاعلام وعلى إستطلاعات الرأي لم يُؤتِ ثماره. في النهاية هُزم بيبي أمام شارون بضربة ساحقة. قبل الهزيمة وبعدها (يوم السبت الفائت مثلا في برنامج “ملف إعلامي” في القناة الثانية) ردد نتنياهو ورجاله طيلة الوقت أن الاعلام الجماهيري تحيز لشارون بمجرد تصديق الاستطلاعات ونشرها على أنها حقائق منتهية. إذا تغاضينا عن المنفعة الانتخابية من وراء هذا الهجوم، فيمكننا عندها تقبل ولو بعض من هذا الادعاء: الاعلام والاستطلاعات يتحولان الى نبوءة تحقق نفسها.
“هآرتس” إنضمت الى القافلة
اللافت في هذه الانتخابات أن جريدة “هآرتس”، جريدة النخبة في إسرائيل، دخلت إلى معترك الاستطلاعات كما لم تفعل في السابق أبدًا. الكثيرون يرون في ذلك المسمار الأخير في نعش أمل التحرر من سطوة الاستطلاعات. فإذا لم تكن قادرًا على هزمها، فاستفد منها على الأقل. شموئيل روزنر، رئيس قسم الأخبار في “هآرتس” والمسؤول عن الاستطلاعات في الجريدة، يرى خلاف ذلك. روزنر: “لا أوافق مع هذا التقدير. نحن بدأنا بعمل ونشر استطلاعات للرأي لأننا توصلنا الى نتيجة بأن العالم كله يفعل ذلك وحتى الصحافة النخبوية المحافظة في العالم مثل نيويورك تامز وواشنطن بوست”.
روزنر يقول أيضًا إن “هآرتس” وجدت أخيرًا معهد استطلاعات جيدًا يمكن أن يزود الصحيفة بنتائج ذات مصداقية. يوئيل أسترون، نائب رئيس التحرير، قال في مقابلة تلفزيونية يوم السبت إن الجريدة اشترطت على معهد الاستطلاعات الذي تعمل معه (ديالوغ) ألا يقوم بأي إستطلاع لأي حزب سياسي. روزنر من جهته لا يرى غضاضةً في أن الاستطلاعات تؤثر على الرأي العام: “الاستطلاعات هي جزء من لائحة القراءة التي تقدمها الجريدة، بالاضافة الى ممارسة الصحافة التقليدية مثل التحقيقات والكشوفات الهامة. لا يمكننا غض الطرف عن هذه الحقيقة”.
ما رأيك في إدعاء بنيامين نتنياهو بشأن تأثير الاعلام واستطلاعات الرأي على المصوتين لصالح شارون؟
“لا أوافقه على ذلك. الاستطلاعات في النهاية هي تعبير عن الأجواء السائدة بين الجمهور. نحن ننشر الاستطلاعات مهما كانت نتائجها، ولا ننحاز لأي مرشح.”
هل ستستمرون بنشر الاستطلاعات بنفس الوتيرة؟
“نحن سننشر الاستطلاعات بما تقتضيه الحاجة. هذا الأسبوع مثلا سيكون لدينا إستطلاع جديد.”
روزنر يوافق من جهة أخرى على أن هذه الاستطلاعات هي إشكالية في كل ما يخص المواطنين العرب. روزنر: “أجرينا مثلا إستطلاعًا سابقًا ومعظم العرب الذين أجابوا على السؤال ‘لمن صوتّ في الانتخابات الأخيرة؟‘ أجابوا بأنهم صوتوا لحزب “العمل”. نحن نعرف جيدًا أن الغالبية صوتت للأحزاب العربية”.
أي أن الاستطلاعات التي تنشرونها هي غير ذات مصداقية للوسط العربي؟
“لم أقل ذلك، ولكن هناك حقًا إشكالية في موضوع المواطنين العرب. نحن نفكر في تحضير إستطلاع خاص في هذا الشأن.”
من المثير سماع مثل هذا الاعتراف، بأن “هآرتس” تنشر أرقامًا من إستطلاعات هي إشكالية، تعرف أنها تؤثر على الرأي العام، وخاصةً على الأحزاب العربية. عندما سالت روزنر عن سبب كذب المستطلَعين العرب على الأسئلة الهاتفية لم يملك الجواب. قلت له ربما يكون الخوف من أن المتصل هو من “الشاباك”. قال إن هذا ممكن، ولكنه لا يملك الاجابة القاطعة. لا أحد يملك الاجابة القاطعة على كثير من الأمور التي تتعلق بالاستطلاعات التي تقرر كل شيء في هذه الانتخابات، ولكن الجميع يرى فيها في نفس الوقت “توراة مقدسة”!!
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في كانون الثاني 2002)