أفكار حول كتابة فصل من رواية
هذا الفصل سيكون الفصل الخامس في الرواية. الأول سيكون على شاكلة مقدمة، الثاني والثالث سيتركزان في البطل الرئيسي. الفصل الرابع سيكون إسترجاعًا لطفولة محبوبته. الفصل الخامس، الذي نتحدث عنه، سيكون معتدل الطول. يعني ما يقارب (2500) كلمة. ربما (2600) أو (2400)، لا يهم كثيرًا. ولكن (2300) كلمة تهم. و(2700) تهم. لأنّ (200) كلمة لها وزنها. (100) كلمة تبقى قليلة. يمكن في (100) كلمة وصف الطاولة الحقيرة في الغرفة. ولكن وصف الطاولة الحقيرة إياها بـ (200) كلمة يصبح إسهابًا يحتاج الى تبرير وسياق مثبتين. فالاسهاب في وصف طاولة حقيرة هو إعلان نوايا. إعلان عن شخصية البطل عن طريق طاولته، وإعلان عن بيئته الجغرافية وطبيعة علاقته مع أغراضه. كل من درس التمثيل يعرف أهمية الأغراض في بناء الشخصية، الشخصية الدرامية أو الأدبية الحقيقية (يمكنكم أن ترفعوا رأسكم الآن عن الورقة وأن تنظروا حولكم. إذا كنتم في الغرفة فأجروا هذا التمرين: ما هي أقرب الأغراض جغرافيًا إليكم في هذه اللحظة؛ ما هي أبعد الأغراض جغرافيًا عنكم في هذه اللحظة؛ أي الأغراض تستعملونها أكثر من الأخرى؛ هل هذه الأغراض موجودة في الدائرة البعيدة أو القريبة جغرافيًا، وهلمجرًا. إذا لم تكونوا في الغرفة –في المقهى مثلاً، أو في محطة للباصات أو في حديقة عمومية أو في المرحاض تتغوطون- فيمكنكم إجراء نفس التمرين الذي سيجريه بطل الرواية التي نتحدث عنها في الفصل السابع عشر، عندما يلتقي بمحبوبته في المقهى القديم، الذي سيتأمله عندها مليًا لتبيان التغييرات التي طرأت عليه ومحاولة المقاربة بينها وبين التغييرات التي طرأت على حياته).
إذًا فالشخصية الدرامية متعلقة كل التعلّق بالأغراض التي ترافقها (يُنظر في هذا السياق الى رواية “عطر” للكاتب الفذ باتريك زسكيند.) كما أنّ الأغراض تلعب دورًا هامًا في بلورة شخصيات الأبطال في الأفلام. فإذا كان البطل متعلقًا بغرض ما فإنّ لذلك غاية وهدفًا، والغرض يكون في نفس الوقت وسيلة لتحديد معالم شخصية البطل التي ستتغير وتتطور مع مرور الوقت (هذا إذا كان الفيلم جيدًا بالطبع). وفيما يخصّ الفصل الذي نتحدث عنه الآن فإنّ المكان هامّ أيضًا. المكان الذي تجري فيه الأحداث وأحيانًا كثيرة المحادثات، هو مصيريّ في تحديد معالم الرواية. فيمكن إجراء محادثة صريحة ومعبرة بين بطل الرواية وبين محبوبته في الصالة في الشقة أو في القطار أو في الشارع أو في التاكسي المزدحم، وعندها ستختلف النتيجة. أجروا هذا التمرين: أكتبوا محادثة تقنية (لا يهم عن ماذا) بين شخصين، ويمكن نعتهما بـ “أ” و “ب”. خذوا هذه المحادثة وازرعوها في ثلاثة أماكن مختلفة. أدخلوا تعليقات وملاحظات حول المكان الذي أخترتموه في كل مرة، وأجروا بعض التعديلات الطفيفة في المحادثة للملاءَمة مع المكان (التحدث بصراخ مثلا، الهمس، حذف بعض التعابير التي لا يصح التفوه بها في الأمكنة العامة، الخ…)، واليكم بثلاث محادثات مختلفة تمام الاختلاف. فالمكان يحدد الهوية والملامح وهو هام جدًا. خاصةً إذا لم يكن طبيعيًا (من السهل تعريف “غير الطبيعي” في هذا السياق؛ مثلاً: محادثة عشق وهيام في غرفة أموات في المستشفى؛ محادثة أعمال ونقود في جنازة؛ محادثة حول كتاب جديد وسط مضاجعة- والأمثلة لا حصر لها. و”غير الطبيعي” في هذه الحالة لا يعني الشاذّ الذي لا يُطرق. على العكس- فهذه تشكل الزبدة الروائية والحبكية).
بعد اختيار المكان يأتي اختيار الزمان. الزمان عنصر لا يقل أهمية عن المكان. لا أقصد هنا السنة والشهر والتاريخ. يمكن للرواية كلها أن تجري في يوم واحد (“ذاكرة للنسيان”) أو على امتداد عشرات السنوات (“مئة عام من العزلة”). الزمان في هذا السياق هو التوقيت. أي: متى تجري أحداث هذا الفصل بالنسبة للرواية نفسها؟ ماذا سبقه وما الذي سيأتي بعده. في أية ظروف يتلقى القارئ المعلومات في الفصل الخامس، وما تأثير قراءته لهذه المعلومات، في هذا الموقع بالذات من الرواية، على عملية القراءة الاجمالية والمكتملة للرواية. هذه الأمور مصيرية في بناء الدراما والحبكة، والهدف الرئيسي الذي سيشير إليه معظم الكتّاب من وراء إتقان البناء الدرامي، هو خلق التشويق الذي سيشدّ القارئ إلى الفصل القادم، وإلى الذي بعده، وهكذا دواليك. إذًا، فالفصل الواحد في الرواية متعددة الفصول هو بناء دراميّ مستقل، له شروطه وأحكامه وأهدافه ودائرته المغلقة، التي تقفل بدورها دوائر درامية سابقة وتفتح للقارئ دوائر درامية أخرى في الفصول القادمة، وهلمجرا. لا يسعني هنا إلا القول إنّ هذه المهمة هي من أصعب مهمات كتابة الرواية، لأنها تحكم في النهاية على جودة الرواية أو عدمها. هذا الأمر متروك لكل كاتب وأسلوبه، اللهم إلا بعض القواعد التي تبدو مبتذلة، ولكنها تبقى صحيحة الى آخر الزمن.
الفصل الخامس في الرواية التي أتحدث عنها سيكون فصلاً مفصليًا في الرواية للأسباب التالية: ستدخل شخصية جديدة ترافق البطل إلى الفصل الرابع عشر وستعود في الفصلين الأخيرين؛ سينتقل البطل إلى السكن في حي جديد؛ سيتلقى رسالة من محبوبته تدعوه فيها إلى تجديد علاقتهما؛ ثلاث طائرات ركاب ستُحطم “التوأمين” و”البنتاغون” في أمريكا. كلّ هذه الأمور هي مفصلية في تسلسل الرواية، وهي تنقسم إلى نوعين رئيسيين: تغييرات بيئية قريبة من حياة البطل، يمكنه متابعتها ومحاولة التأثير عليها، وتغييرات بيئية خارجية لا تمت للبطل بصلة مباشرة وليس له الحول في التأثير عليها بأيّ شكل (مثال آخر: بركان أو زلزال). هذه التقسيمة هامّة للكاتب ويجب أن يكون على وعي كبير منها، لأنّ عليه أن يقرر للبطل وللشخصيات الأخرى نوعية ردود الفعل على هذين النوعين من الأحداث: القريبة والبعيدة، وهذا مصيري جدًا من حيث المثابرة. إذ لا يُعقل أن تكون ردود البطل متناقضة على أحداث متشابهة، إلا في حالة أنّ البطل يعيش مرحلة عصيبة ومتوترة وهو على وشك الاصابة بالفصام أو بالانهيار العصبي. في باقي الحالات على القارئ أن يصل الى اللحظة التي تمكّنه من التعرف على شخصية البطل (وغيره من الشخصيات) ووصفه بكلمة واحدة أو اثنتين: رومانسيّ أو عقلانيّ، عمليّ أو حالم، رقيق أو شديد، متسامح أو حقود، صلب أو مُتَراخٍ، ذو حيلة أو معدومها. مثل هذه النعوت هامة، ليس في قولها، وإنما في تذويتها. لا يهم إذا كان القارئ قادرًا على صياغة هذه التوصيفات التي اختارها الكاتب لشخصياته، ولكنّ مجرد المثابرة في بلورتها وتطويرها في الرواية سيجعل مهمة دفع القارئ (بشكل غير واعٍ من جهة القارئ) إلى التماثل مع الشخصيات والشعور بأنه “يعرفها” عن قرب، مهمة أسهلَ. ولذلك، فإن ما يحدث مع كل شخصية هامٌ للقارئ ومثير، مما يجعله يقلب الصفحة التالية والتي بعدها والتي بعدها…
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 18 آذار 2009)