أعطِني جوائزَ أعطِكَ هُدوءًا
جنازة الثقافة الاسرائيلية بدأت، فهل هناك من يمشي وراء النعش؟
علاء حليحل
الممثلون والمخرجون والمنتجون وغيرهم من صنّاع المسرح والسينما والتلفزيون في إسرائيل يصارعون على بقائهم في هذه الأيام. معاشاتهم في خطر ومجرد إستمرارهم في خلق “ثقافة” إسرائيلية مسموعة ومرئية محفوف بالقلق الجاد. الجرائد تتحدث عن أوضاعهم الصعبة ولا شيء يحدث. مع التقليص المتوقع في ميزانية العام القادم 2004 من الممكن الافتراض أنهم مقبلون على مرحلة أكثر صعوبة من هذه المرحلة التي يعيشونها الآن. من هذه الناحية يبدو أن إنهيار “الهدنة” الوشيك هو إنهيار أكيد لمشروع الثقافة الاسرائيلية غير المكتمل، في كثير من أبعاده المصيرية. مع القليل من السخرية يمكن القول إن العمليات التفجيرية الفلسطينية تضرب من بين ما تضربه أصرحة الثقافة الاسرائيلية الهشة، وهذا يمكن أن ينضاف إلى مجمل الادعاءات الفلسطينية المناصرة لمثل هذه العمليات.
المتمعن في حيثيات نمو وتطور “الثقافة” الاسرائيلية المسموعة والمرئية يمكنه ملاحظة إزدهارها في بداية التسعينيات خصوصًا، لسببين رئيسيين: مولد القناة الثانية التجارية للتلفزيون واتفاقات أوسلو. من جهة دخل عنصر هام ولاعب رئيسي في مجال الانتاج التلفزيوني المحلي، غيّر من قواعد اللعبة نهائيًا: فبعد كسر إحتكار الانتاج التلفزيوني والراديوفوني المحلي من جانب سلطة البث الرسمية، وجد أهل الانتاج على مختلف صناعاتهم أنفسهم في سباق مع الزمن لتكثيف الانتاجات المحلية (على الرغم من التفاوت في مستوياتها ومضامينها). هذا الأمر أدى إلى بلورة وتضخيم ما يسمى هنا بـ “البرانجه”، وهم بالأساس النخبة الاعلامية والترفيهية. ومن دون شماتة، تجد “البرانجه” نفسها اليوم ضحية لما صنعته. فالانجاز الأكبر والأسوأ للثقافة الذي صنعته هذه الفئة هو تكريس وتخليد البلادة وعدم الاكتراث لدى الجمهور الاسرائيلي، بما يحدث عبر الخط الأخضر أو أي خط آخر. أعطونا وجبتنا اليومية من الألعاب التلفزيونية والمسابقات والمسلسلات الهابطة وافعلوا في الدولة ما شئتم. أعطني جوائزَ أعطِكَ هدوءًا.
وما زاد من حدة الوضع وتدهوره هو إنضمام القناة الأولى التابعة لسلطة البث الرسمية إلى سباق “الريتينغ” (نسب المشاهدة) ومحاولتها المثيرة للشفقة تقليد القناة التجارية الجديدة، في تسخيف مضامينها والابتعاد قدر الامكان عن الجدية والتعمق، فصارت أشبه بالغراب المُتحنجل إياه. أضف إلى ذلك طبعًا ثورة الكوابل والبث الفضائي اللذين قضيا نهائيًا على أي أمل في رغبة المشاهد الاسرائيلي المتوسط في الاهتمام بما يحدث هنا. فالإم تي في ومشتقاتها صارت أهم من الاحتلال في غزة ومن أوسلو ومن الفلسطينيين الذين ينغصون على الاسرائيلي إستمتاعه ببرنامج “من سيربح المليون؟”. ثم أن إبرام إتفاقات أوسلو المرحومة جعل الأغلبية الساحقة في إسرائيل تستسلم إلى وهم “نهاية النزاع” وبداية مرحلة جديدة تستوجب رؤية جديدة: مشاهدة الترفيهيات والتسليات ولتذهب السياسة إلى الجحيم.
وما يحدث الآن هو أن “البرانجه” التي تشكو الوضع الصعب لا تجد من يسمعها أو يتضامن معها لأنها هي بنفسها من خلدت أجندة الاهتمامات في هذه الدولة. بمفهوم معين، ومع كثير من المفارقة يمكن القول، إن كل خطوة خطتها “البرانجه” الاسرائيلية نحو التوسع حملت معها حريقًا لحبل آخر من الحبال التي تحمل الجسر الذي تسير عليه.
كما أن المسارح لا تختلف كثيرًا. فالمسرح الاسرائيلي في سنواته الأخيرة يسعى نحو التجارية وجلب أكثر ما يمكن من الحضور، وذلك حدث في جوهره على حساب الجودة والمواضيع. لا يمكن لدولة ولنخبة تستهين بالمسرح أن تبني ثقافة حقيقية. المسرح كان ولا يزال وسيبقى الوسيط الأكثر تسييسًا في عالمنا. المسرح في جوهره هو فعل تحريضي؛ تحريضي على التساؤل والتفكير مجددًا في المُسلمات والبديهيات. ما لا يفعله التلفاز يجب أن يقوم به المسرح. ولكن الطامة الكبرى اليوم هي أن مشاهدي المسرح الذين توقفوا عن رؤية مسرح سياسي حقيقي في هذه البلاد لا يعرفون كيف يتعاملون بالضبط مع نداءات أهل المسرح بالمساعدة والتضامن. وهذا مرتبط أيضًا بأهل المسرح أنفسهم الذي يرفضون الربط بين التهديد بإغلاق مسارحهم نتيجة التقليصات وبين المُسبب الرئيسي للتقليصات وهو الاحتلال. كل فعل مسرحي في جوهره هو فعل سياسي. محاولة نزع الصبغة السياسية عن نضال أهل المسرح والثقافة هو تسخيف وتمييع لكل ما يمكن أن يقولوه. مسرح وثقافة من دون سياسة هما أضحوكة للناظرين.
ما يحدث اليوم في هذا المجال في إسرائيل هو جنازة أخرى جديدة من ضمن الجنازات الكثيرة التي خرجت في شوارع الدولة من دون أن يسير فيها أحد تقريبا: جنازة دولة الرفاه والضمانات الاجتماعية؛ جنازة الاخلاقيات المجتمعية والسياسية؛ جنازة الإدارة السليمة والنظيفة؛ جنازة القيمة الأخيرة لحيوات الناس؛ الجنازات المتوالية في شوارع هذه الدولة وأحيائها خلقت ديناميكية سحرية أنشأت ما يشبه بـ “تأثير الدومينو”: كل ساقط جديد يجر معه ساقطًا آخر، وهكذا. ما تمر به الحياة الثقافية والتلفزيونية اليوم في إسرائيل هو طبيعي للغاية، وسيتفاقم أكثر. فالقضاء على الثقافة (على أنواعها) عند الأزمات سيخلق بالضرورة ثقافة بديلة تخدم الوضع الجديد، وعندها لن تجد أحدًا يبكي على أحد. على العكس، عندها سيضحك الجميع وسيفرح المسؤولون، لأن المسرح والتلفزيون “في جيبتنا” أخيرًا.
الانهيار السياسي والاقتصادي في الدولة هو النتيجة وهو السبب في نفس الآن. الانهيار الثقافي الاسرائيلي هو الجريمة وهو العقاب في ذات الآن. من بعيد ومن قريب، تبدو إسرائيل اليوم كدولة نامية يتفشى فيها الاجرام والفقر والفساد، وسيكون من المثير تتبع ما سيفعله أهل الثقافة الهشة هنا: السعي نحو لقمة العيش والتانزل كلية عن تميز الأدوار التي يجب أن يلعبوها، أو التحوّل إلى صوت صارخ، إن لم يكن في البرية، فليكن على الأقل في أذني شارون!
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في آب 2003)