300 كلمة في اليوم (24): أسد يبكي في عرينه

منذ أن حملتُ الكتاب الأول الثخين عن الفنّ المعاصر في مكتبة جامعة حيفا عام 1994، وأسد عزّي من الفنانين التشكيليّين المفضّلين عندي على الإطلاق. مخزون أعماله الكبير متنوّع ويدلّ على مشروع دائم التطوّر والبحث؛ قدراته الفريدة والنادرة في “الرسم التخطيطيّ” (Drawing) من جهة، وحساسيته الكبيرة وبالغة الحدّة في الرسم بالألوان (painting) أيضًا. بخط واحد، شبه متصل، يستطيع أن يرسم شخصيّة على الورق أو القماش، بلون واحد رئيس، أو بعدّة ألوان، بقدرات تقنيّة عالية يسيطر من خلالها على كلّ التقنيات والوسائط: أقلام رصاص، أكريليك، حبر، زيت، قطع أقمشة… أسد عزّي فنان نادر على كلّ المستويات.

في حفل افتتاح معرض رسوماته، “وجوه من بلدي”، مساء السبت الماضي، غصّ بالدموع وهو يلقي كلمته الترحيبيّة في صالة المركز الجماهيري (الثقافي) في بلدته شفاعمرو. عزي غادر شفاعمرو عام 1955 وهي المرة الأولى في حياته التي يقيم فيها معرضًا في بلدته، بين ناسه وأهله. أعتقد أنّ لا شيء يمكن أن ينافس مثل هذا الشعور، خصوصًا في الفنّ التشكيليّ. فالمسرح والسينما والأدب حاضرة أكثر بكثير من الفنّ التشكيليّ في النشاطات الجارية في بلداتنا وقرانا، ولذلك يظلّ المعرض الفنيّ أمرًا استثنائيًّا من ناحية ندرته ومقولته الخاصّة في المشهد الثقافيّ الريفيّ. كأنّ الفنان يعلن عودته إلى مسقط رأسه بعد عشرات السنين في “المنفى” الضروريّ واللازم لأيّ مسيرة إبداع.

يحبّ أسد كثيرًا أن يقسّم مساحة القماش أو الورق إلى قسميْن عاموديّيْن، وهذا ما فعله في سلسلة البورتريهات التي أنجزها لهذا المعرض. نصف المساحة للبورتريه والنصف الآخر لأسد الفنان، يرسم عليه ما يراه مناسبًا من الناحية البصريّة للبورتريه. ما يشبه المقولة البصريّة والمجتمعيّة والسياسيّة التي ترتبط في ذهن الفنان بخصوص الشخصيّة التي رسمها.

الشخصيات التي رسمها أسد في المعرض شخصيات من أهل شفاعمرو، ومن خارجها، من مختلف مجالات الحياة، والانفعال في القاعة كان كبيرًا لأنّ غالبية الحضور كان يبحثون عن بورتريه “قريبهم”، أو يتصوّرون بجانبه. اتصال مباشر وحميميّ بين الفن التشكيليّ وبين مستهلكيه. بورتريهات لأشخاص يبني أسد من خلالهم بورتريه كبيرًا له.

(لتدوينات الـ “300 كلمة” السابقة)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *