چوول…

البرازيل ضد هولندا. التلفاز الصغير الموضوع في البار الصغير في أحد شوارع الهَدار المُنزوية استقطب كلّ الجلاس. لم يكونوا كُثُرًا. الساقية، شابتان بدا من عناقهما لبعضهما البعض والقبلات من مرة لأخرى أنهما مثليتان بما لا يقبل الشكّ؛ كهل تجاوز الخمسين منذ سنين؛ صحفي شاب في إحدى الصحف المحلية في حيفا تعرّف عليه مرة عن طريق عباس؛ يوسي صاحب البار- وهو. الحضور القليل مردّه لسببيْن: المونديال والساعة المبكرة للسهر في البارات (الحادية عشرة). البرازيل تتقدم هولندا بهدف واحد وهولندا تحاول التسجيل في بداية الشوط الثاني. المذيع والمحلل الرياضيان يحاولان كل بدوره الانحياز للبرازيل وذلك عن طريق التطبيل والتزمير لكلّ هجمة برازيلية والتجاهل الفظّ لسيطرة الهولنديين شبه المطلقة على مجريات اللعب. “برازيل السبعينات لن تعود أبدًا”، هكذا قال مدرب المنتخب البرازيلي هذا المونديال ويبدو أنه على صواب. هجمة مرتدة للهولنديين تمريرة عالية إلى أمام المرمى البرازيلي، ضربة رأسية قوية، چووووول….

“ليسوا بالسّيئين أبدًا هؤلاء الهولنديون.”

“نعم، وإذا سألتِني فإنهم يفوقون البرازيل بألف مرة.”

حتى هو أحسّ بالمبالغة فتحضّر لتحفظ مؤكد من السّاقية.

“تعالَ لا نبالغ، البرازيل تبقى البرازيل.”

“حسنًا، معكِ حق. ولكن تعالي لا ننكر أنّ مستوى اللعب عندهم انخفض إلى الحضيض. أنظري إليهم (إشارة من اليد تجاه التلفزيون)؛ هل هذه المجموعة البائسة من النجوم المتلفزة هي البرازيل التي نعرفها؟.. أين الهجمات التي لا تصدّها إلا عوارض المرمى بالصدفة؟.. أين اللعب الجماعي المتجانس؟.. ماذا نرى اليوم؟.. هجمات منفردة هدفها البروز والتألق.”

“لا أعتقد أنّ ما تقوله صحيح، البرازيل تلعب باستراتيجية هجومية مدروسة، أنظر مثلاً”-

“إستراتيجية هجومية؟؟.. أضحكتِني!.. عن أيّ هجوم تتحدثين؟.. إنهم بالكاد يستطيعون الصمود في دفاعهم أمام الخصم. إذا فازوا فسيكون ذلك بالتأكيد بالرّكلات الترجيحيّة وهذا عار على بطلة العالم.”

“أنتَ تبالغ جدًا.”

“ثم هل نسيتِ الخسارة المخزية أمام النرويج؟.. لو كنت المدرب لحمّلت اللاعبين في الطائرة وعدت فورا إلى البرازيل.”

“الآن فهمت. أنت حاقد على البرازيل لأنّ المغرب لم تتأهل لدور الثماني بسبب خسارة البرازيل أمام النرويج.”

“لا أنكر ذلك. أيّ عدل في الدنيا أن تعود المغرب إلى البيت بينما تتأهل النرويج الضعيفة والسخيفة إلى دوري الثماني؟.. وكل ذلك بسبب بلادة لاعبي البرازيل، أبطال العالم قال…”

لأول مرة منذ بداية المونديال يغضب بسبب لعبة كرة قدم. سمير لا يشاهد كرة القدم عادة لا من قريب ولا من بعيد. حتى عندما تأهل منتخب الطيبة إلى الدوري الممتاز لم يعنِ له ذلك شيئا. استغرب جدًا من عباس الذي دعا إلى احتفال صاخب عنده في الشقة وحضره ما لا يقلّ عن ثلاثين شخصًا لم يعرف منهم أحدًا. “هؤلاء أصدقاء تعرفت عليهم في الملاعب، أشخاص ممتازون”. استغرقه بعض الوقت ليتعرف إليهم وينسجم معهم في أحداث المباراة الحاسمة التي كانت تُعرض على التلفزيون الآن. فكل واحد منهم قام بتسجيلها ولم يكن من الصعب أبدًا العثور على نسخة عند عباس عندما طُُرحت فكرة مشاهدة المباراة والاحتفال. في نهاية المباراة كان صوت سمير هو الأعلى وكان الأكثر حماسًا. حتى إنّ شتائمه كانت تضاهي أثخن المشجعين بذاءة في هذه الدولة. كان عباس مسرورًا جدًا لهذه التطوّرات ولم يُخفِ سعادته عن سمير، بعد انتهاء المباراة.”

“يسعدني جدًا أنك اندمجتَ مع الشباب ويسعدني أكثر أنّ فوز الطيبة عنى لك شيئا في النهاية.”

“لم أتوقع ذلك أبدًا، لم أتوقع أنني سأسعد يومًا لفوز فريق في لعبة كرة قدم. وما لم أتوقعه أبدًا أنّ نبضي سيرتفع ودقات قلبي ستندفع مع اقتراب الدقيقة التسعين، مع أنّ ما يحصل عمليًا على الملعب هو أنّ عشرين رجلا يركضون خلف كرة بيضاء ذهابًا وإيابًا لساعة ونصف الساعة.”

“أنتَ لا زلت تكابر. أنت تعرف جيدًا منذ هذه اللحظة أنّ كرة القدم ليست العدو وراء الكرة فقط.”

“اللمة تعني؟.. شرب البيرة وإطلاق الشتائم في طقس رجوليّ بدائيّ؟”

“ربما. ففي عصرنا هذا قلما تجد لمّة كهذه في غير كرة القدم.”

“ولكن هذا يؤكد فقط أنّ الانسان الحضاري لم يتخلّ عن نزعاته الحيوانية البدائية المتلخصة بالعنف وطحن العدو والاحساس بالقوة، هو حوّلها إلى صيغة حضارية فقط.”

“وما المانع؟.. هل كنتَ تودّ أن تبقى هذه الغرائز مسيطرة على حياتنا كلها؟.. حياة الغاب؟.. ما تقوله هو نجاح عظيم للانسانية. العنف والرغبة في النصر والقوة على الغير انحصرت بمعظمها في الملعب. بإمكان الجميع أن يأتوا إلى الملعب وأن يُفرغوا غضبهم وأن يشبعوا رغباتهم وغرائزهم، الشوفينية والرجولية إذا أردت، ثم يعودون إلى البيت حضاريين و”إنسانيين”.”

“في هذا تلوّن فظيع وهروب من الواقع.”

“ليكن. إذا لم تستطع القضاء على العنف والغرائز البدائية، فبالإمكان حصرها وإعطاؤها صيغة حضارية.”

“لا أدري، لم أكن مستعدًا لهذا الجدال، ناهيك عن أنّ معرفتي في هذا المجال تقترب من الصفر. قد يكون ما تقوله صحيحًا ولكنك لست بالضرورة على حق.”

بعد ساعة واحدة بدا الجدال الآنف زائدًا وغير ذي قيمة. الشباب ثملوا، غنوا، رقصوا. الجيران غضبوا واستدعوا الشرطة. الشرطة غضبت، اعتقلت عباس واثنين آخرين ثم اطلقت سراحهم بعد ساعة. لم تقع أية اصابات.

عندما دخلت عنات كان الشوط الثاني من التمديد على وشك الانتهاء. النتيجة “واحد: واحد” وليست هناك بشائر لهدف هولنديّ، أو حتى برازيليّ.

“أهلا.”

“أهلا.”

جلست إلى جانبه على البار. عدلت من جلستها لترى التلفاز أيضًا. الانتباه الذي كان يوليه سمير للشاشة الصغيرة لم يترك مجالا للشك، ستضطر لمتابعة المباراة معه.

“ما النتيجة؟”

“واحد :واحد”، وبقيت دقيقة واحدة على نهاية الشوط الثاني من التمديد. يبدو أنّ اللعبة ستُحسم بالركلات الترجيحية.

“وأنت مع من؟”

“هولندا.”

“كيف ذلك؟.. والبرازيل؟”

“لماذا عليّ تشجيع البرازيل؟”

“يعني، كل الإسرائيليين يشجعون البرازيل ومعظم العرب أيضًا.”

“فليشجعوا من يشاؤون. أنا أشجع هولندا.”

“وأنا سأشجع هولندا أيضًا.”

ابتسمَ. عاود التركز في الشاشة. صافرة الحكم أراحته لبعض الثواني.

“الآن التوتر الأكبر، الضربات الترجيحية.”

“ولمن تتوقع الفوز؟”

“البرازيل.”

“مع أنك تشجّع هولندا.”

“نعم. البرازيليون أبناء الزانية جيدون بهذه الركلات. فقط بهذه الركلات.”

“لننتظر ونرَ.”

“واحد:صفر” للبرازيل؛ “واحد:واحد”؛ “إثنان:واحد” للبرازيل؛ “إثنان:إثنان”؛ “ثلاثة:إثنان” للبرازيل؛ “ثلاثة:إثنان” للبرازيل؛ “أربعة:إثنان” للبرازيل؛ “أربعة:إثنان” للبرازيل. البرازيل تفوز على هولندا بأربعة أهداف مقابل هدفيْن. الحارس البرازيلي صدّ ضربتيْن هولنديتيْن. هذا العجوز البشع. فليذهب إلى الجحيم.

“البقية في حياتك.”

“شكرًا، ليس لهذه الدرجة.”

“قبل ثوانٍ كان قلبك سيتعطل.”

“هكذا هي الدنيا.”

“وماذا الآن؟.”

“غدا ستلعب فرنسا مع كرواتيا والفائزة ستنافس البرازيل على الكأس وستسحق إمهاتهم!”

“قصدتُ ماذا الآن، هل نبقى أم نذهب إلى مكان آخر؟”

“عفوًا، يبدو أنّ وضعي مأساويّ.”

“لا أذكر أنك كنتَ تحبّ كرة القدم يومًا. لا أذكر أنك شاهدتَ مباراة كرة قدم واحدة طوال السنتيْن اللتين…”

صمت. ماذا الآن؟.. إلى أين سيذهبان الآن؟.. ليس إلى شقته قطعيًا. ولكن ما أدراه أنها تودّ الذهاب إلى شقته؟.. متى يكفّ عن غروره القاتل؟

“لنبقَ هنا، هل تمانعين؟”

“في الحقيقة فكّرت بالذهاب إلى شاطئ البحر. نشتري ما أردنا من البيرة ونختار مكانًا قصيًا ونبقى حتى الصباح.”

“لديّ عمل غدًا.”

“حسنا، نعود متى تريد.”

“ولكن سيارتي معطلة.”

“كالعادة. معي سيارة.”

“إشتريتِ سيارة؟”

“نعم. منذ سنة تقريبًا، سيات 68.”

“حسنًا. يبدو أنك مُصرة. دعيني أحاسب.”

“لا داعي لذلك.”

“ماذا تقصدين؟”

“لا داعي قلتُ لك.”

أشارت إلى الساقية مُودعة وسحبته من ذراعه.

“ماذا كان هذا؟.. هل اشتريتِ هذا البار أيضًا؟”

“لا، سأتزوج صاحبه بعد أسبوعين.”

إنخلع قلبه. اهتزّت شباكه من الأعماق.

چول. چول قاتل.

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *