من الداخل، مع المحبة

علاء حليحل

20 حزيران 2002

المذياع ينقل النقاشات الحادة بين الساسة ورجال الجيش حول الحل. الحل مطلوب سريعًا، والآن. يجب أن ندخل ونسحقهم. يجب أن نبني جدارًا شائكًا لا تدخل منه النملة. يجب قتل عرفات أو ترحيله. ومن سيأتي بعده؟ المحلل العسكري في جريدة “الناس الذين يفكرون” يقول إن عرفات اليوم ليس أكثر من رمز وإن من يحكم الشارع الفلسطيني هو “العصابات”- ومن هنا تنبع صعوبة الموقف. من هنا ينبع عجز إسرائيل الجبارة عن كسر شوكتهم، هؤلاء الفلسطينيون. زياد أبو زياد يتحدث للمذيع العربي في راديو “الشاطئ” عن البيان الموقع الذي نشر في الجريدة ويدعو الى وقف العمليات التفجيرية- الاستشهادية- الانتحارية- الفدائية- العسكرية- النوعية… هل هناك فجوة بين الطبقة المثقفة وبين الشعب في فلسطين؟ أبو زياد يوافق ولكن يتحفظ. وأنا أتحفظ وأحاول ألا أوافق مع أحد. هكذا أضمن. لا توافق ولا تعارض. كن على الجدار وأطللْ على ما تريد. فربما يحصل في النهاية ما تريد.

أمنون دانكنر، رئيس تحرير “معريف”، ينبح في الاذاعة العبرية بضرورة تربية الفلسطينيين. فنحن أكثر أخلاقية منهم. وعلينا أن نربيهم كمجتمع لأنهم انتحاريين. وفي المرة القادمة التي سندخل الى مخيماتهم ومدنهم علينا أن نضحي بجنودنا لأننا لن نرضى بممارسات غير أخلاقية مثلهم. فنحن لسنا هم. جريدة “الحياة” وحدها نشرت صورة المعتقلين الفلسطينيين في جنين أمس، بينما نشرت باقي الصحف العربية صور العملية الـ (إملأوا الفراغ) في القدس مساء أمس. طرفا هذه المعضلة في صورتين موجزتين. موجز للأنباء: مقتل ضابط وجندي إسرائيليين في قلقيلية. لا يهم. لماذا الحاجة الى موجز؟ ألا يستطيعون الانتظار الى نشرة الأخبار العادية؟ ما المثير في مقتل محتليْن مدججيْن بالسلاح؟ لماذا لا يخرجون الى موجز للأنباء للتحدث عن الألف ونيّف من المعتقلين الفلسطينيين في اليومين الأخيرين؟ من يذكرهم؟ (من يُضرب عن التدخين ليوم واحد تضامنًا معهم؟ من ينام على الأرض هذه الليلة تضامنًا معهم؟ من يلقي بعشائه من الشباك الآن تضامنًا معهم؟) هل يجب أن يُقتلوا في الحصار ليخطفوا عنوانًا؟ العناوين. هذه الطامة الكبرى. أعطِني عنوانًا أعطِكَ تضامنًا. أخالُ العناوين في الأشهر الأخيرة ليس أكثر من دعوة الى ذرف الدموع، وشتم شارون، وإخراج ريالين ودولار من المحافظ الجلدية اللميعة. العناوين التي نصنعها، العناوين التي تصنعنا، العناوين التي تنخر عظامنا، تنهك عيوننا، حوّلتِ العالم الى أسود وأبيض كاملين. ليس هناك وسط. ليست هناك حياة خارج العناوين. إذا لم تكن في العناوين فأنت لا تستحق الحياة. وإذا لم يكن موتك في العناوين فأنت هباءٌ منثورٌ خرج من التاريخ كما دخله: بصمت وبحزن. إضمن لنفسك عنوانًا وسيذكرك أحدٌ ما بعد يومين. ريثما يحتل أحدٌ العنوان الكبير القادم.

وإذا كنتَ في العنوان، قاتلاً أو مقتولاً، محتلاً أو محتَلاً، مهزومًا أو منتصرًا، كُن على بيّنةٍ من أمر انتشارك: فهناك انتشار الوسيلة التي تنقل عنوانك، هناك العناوين الأخرى التي تنافس على اجتذاب العين، هناك العيون المتعبة من العناوين- وهذه أخطرها. العيون المتعبة من العناوين هي عيون متواطئةٌ زئبقيةٌ. وقد تكون هُلامية غُضروفية أيضًا. وحتى انبطاحية في بعض الأحيان. العيون المتعبة من العناوين تقرأ الأبراج وتحل الكلمات المتقاطعة. كيف يمكن قراءة الأبراج والغدُ مشرئبٌ في عناوين اليوم؟ كيف يمكن حل الكلمات المتقاطعة والواقع غير محلول. والوفيات. كيف يمكن قراءة زاوية الوفيات في مثل هذه الأيام، وتجاهل العناوين. من لم يظهر إسمه في عناوين المواجهات ليس جديرًا بالاهتمام الآن. مات بالقلب، بالسرطان، بالرئتين، من الحزن؟ من يهتم بذلك الآن؟ وحتى لو اهتم أحدٌ فهل سيستطيع الذهاب الى الجنازة؟ لماذا الحزن المجاني. العناوين على الأقل لا توزع الحزن المجاني. الموت في العناوين هو بشرى تُزف الى البشر. ولتعرف العيون المتعبة أن عليها التيقظ الآن والانفراج وإطلاق زغرودة مجلجلة. فالعناوين تأمر بذلك.

17 حزيران ‏2002‏

حزيران النكسة. إذا كنت تنوي أن تنسى فانسَ. ولكن النكسة هنا، وأنت لا تعرف بعد ماذا تسمي الشهور الأخيرة: الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى، حرب استنزاف، حرب الاستقلال، مواجهة الدماء، حرب حزيران الجديدة؟ من منظمة “أيندي ميديا” العالمية، فرع إسرائيل، يتصلون. حوار تلفزيوني حول الذكرى الـ (35) لحرب حزيران. (35) عامًا وأنت لم تُنْهِ الثامنة والعشرين بعد. أين كنت ساعة الهزيمة؟ ماذا كان شعورك؟ لن يسألني أحدٌ هذا السؤال. وإذا سألوني سأتهرب. سأقول إن الموضوع أكبر بكثير من أحاسيسي الشخصية. ثم أطمئن أكثر بعد أن أتذكر وأنا في القطار الى تل أبيب أنني مدير اللقاء وأنني من سيسأل. القطار السريع بين حيفا وتل أبيب، ينقلني من حيفايَ الآمنة إلى ماضٍ من 35 سنة، والحدود بين الآن وبين أمس، بيني وبين اليهود الذين يجلسون قبالتي ويتأملون بخوف في سحنتي الشرقية، غير مرئية. الحدود التي تكبل حياتي وتحددها إلى قرارين صادرين عن مجلس الأمن، وست حروب، ونكبة، وانتفاضتين وحبيبة لم تعد- كل هذه الحدود غير مرئية. وأنا لم أتعلم بعد كيفية التغلب على أمور غير مرئية. بالكاد أستطيع الاستسلام أمام رجل الأمن المرئي الذي يدقق في هويتي وربما يسأل في باطنه: من الذي أعطى عربيًا قذرًا مثلك هوية دولة إٍرائيل، دولة الشعب المختار؟؟

طال، صبية يهودية نشيطة في “إيندي ميديا” تتصل. أين أنت؟ أنا في القطار. يجب أن نجلس قليلاً لنضع الخطوط العريضة للقاء. بِسيدِر أقول، ومن مرة نرسم الحدود بيننا. نضحك. أنظر من الشباك. ما هو موقفي من طال؟ يسارية، ناشطة، تتطوع في منظمة إعلامية تجلب الصورة المغايرة. لو كانت الظروف مختلفة لكانت تستحق لقب مجاهدة بفخر. ولكن الظروف ليست مختلفة. الظروف متعبة وهي في أجازة مفتوحة.

الاستوديو صغير. ثلاثة مصورين من الشبان اليهود اليساريين المتطوعين يصوبون كاميراتهم الى الطاولة شبه المنحرفة. كأنها ترسم حدود الجدال الذي سيكون بعد قليل: شبه منحرف. أطلب من الجميع عدم أبراز كرشي الوقحة لأنني لم أتزوج بعد. نضحك. في القطار تذكرت أنني لم أتزوج بعد. تذكرتُ ذلك بعد أن تذكرت أن هذا النهار مدجج بالانذارت الساخنة عن النية لتنفيذ عمليات. اليوم بالذات. عندما أسافر الى تل أبيب. في المحطة ينتظرني نير. يصطحبني أنا والزملاء العرب الذين سيشاركون في النقاش الى.. ريشون لتسيون. مرة واحدة! “سجل أنا عربي” كنت أريد أن أغني وأنا في طريقي بين القاطرة وبين المدخل الخارجي، ريثما أصل الى السيارة الآمنة. نير يسمح لي بالتدخين في السيارة. نتعارف. نتباسم. نهز رؤوسنا موافقةً على أمنية نير بأن يحمل المخرجون الأيطاليون الذين يصورون أفلامًا خاصةً عن الوضع، صورة الوضع الى العالم، لكي تنفضح إسرائيل. من أنت يا نير؟ ماذا حل بك لتكون الآن ضد دولتك وشعبك؟ لا تظن أنني متضايق من ذلك- على العكس تمامًا. ولكن كيف كان بامكانك أن تتحايل على التاريخ المزور الذي يدرسونه لك في المدارس؛ على الأغاني القومجية والتشويهات الخطابية التي يحشون بها رؤوسكم منذ نعومة بنادقكم؛ على الأوامر الهمجية التي يعلمونكم إلتهامها وهضمها في آلة قمعكم العسكرية؛ على إعلامكم المتجند بكامل ياقاته وميكريفوناته؛ على البكاء على دمائكم وحدكم ونفي الدم الآخر؛ على كل شيء يعشش في هواء هذا المكان المتعفن؟ لماذا أسألك؟ لأنني أريد أن أعرف. ولأنك لا تدخل في القالب الجاهز لـ “الآخر”. يقولون إن الآخر هو أنا، في انعكاسي في صورته. أو شيء من هذا القبيل. ويقولون إن الآخر هو الجحيم. هذا صحيح مبدئيًا. ولكنك لست جحيمًا يا نير. قد لا تكون جنة عدن، ولكنك بالتأكيد لست جحيمًا. إذَا أنت لست الآخر بالضرورة. فمن تكون؟

طال تعرفني على أفراد الطاقم. كلهم متطوعون. من الغربيين والشرقيين. من الذكور والإناث. كلهم من اليهود. نتجاذب أطراف السجائر. القهوة لا بأس بها. متولية الماكياج الشاشاتي تعمل على إخفاء بقايا آثار سحنتي الشرقية. أتندر على الموضوع. تقول إنني بالذات لست أسمرَ أبدًا. أطمئن. يستر عرضك. ولكن لماذا لا يعترف الحارس البشع في مداخل محطات الباصات والقطار بذلك؟ لماذا يطلبون مني إخراج الهوية، ومتولية الماكياج تشهد وتبصم بالعشرة أنني لست أسمرَ بالمرة. أيعرف الحارس الروسي أكثر من خبيرة البشرات. يجب أن يضعوا على كل المداخل المحرجة في هذا المكان المحرج، خبيرات ماكياج وتجميل بدلاً من الحراس المستندين الى المسدسات المعلقة على خاصراتهم. هكذا ستُحل المشكلة. سيدعونني أمرّ بدون مشكلة. فبشرتي يانعة. وماذا مع السُمر من أبناء سحنتي؟ يصطفلوا. من قال لهم أن يخلقوا سُمُرًا في الشرق الأوسط؟ ألم يعلموا أن الشرق الأوسط الجديد هو أبيضُ في أبيضَ؟

أهلاً بكم أعزائي المشاهدين. اليوم الذكرى الخامسة والثلاثون المؤلمة لحرب حزيران. معي في الاستوديو… وهل يمكن القول إن العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل يستطيعون…. كلا، نعم.. من غير الممكن.. التاريخ يؤكد.. علينا أن نتجند بـ… نحن فلسـ… العمليات لا… الشهادات التي جُمعت في جنين تؤكـ… هذا غير وارد بالمرة… شكرًا للمشاركين الأعزاء وللمشاهدين الذين تابعونا في الذكرى الخامسة والثلاثين للنكسة. في صحتكم!

عينات فيشباين، صحفية شابة. جريئة. أحب كتابتها وتقاريرها التلفزيونية في “عروتس 2” في المفكرة الاخبارية يوم الجمعة في الثامنة مساءً، قبل “راك بيسرائيل” في التاسعة و”هبورغانيم” وبعدها “آلي ماكبيل”. نتحدث عن فيلم أيليا سليمان الجديد الذي فاز بالجائزة الثالثة في مهرجان كان السينمائي. نسينا إسم الفيلم. أتدارك خيانة ذاكرتي الوطنية أمام “الآخر” فأتحدث عن فيلمه السابق “سجل اختفاء”. نمتدحه. نتبادل السجائر. تتعجب من سجائري. ألمانية، أقول بفخر. فقصتي مع السجائر الأمريكية والاسرائيلية انتهت الى الأبد. تشعر ببعض الاحراج، تشفط من سيجارتي الألمانية. تتمتم بعض كلمات الاطراء الجوفاء. هي تدخن المارلبورو لايت. سجائر العم سام. (يمكن صياغة ملصق ضد السجائر الأمريكية: “دخان العم سام.. سام!”. جميل. رائع! الآن ابتكرته. أعلن تنازلي عن حقوق النشر والتداول، بدافع من الوطنية الداهمة. ويقولون إنني لا أدعم شعبي…). عينات تبقى لتستمع الى النقاش بالعربية الذي سيبث مع ترجمة الى العبرية في القناة الجماهيرية في الكوابل الى كل ربوع الوطن. أصريتُ على أن يكون النقاش بالعربية. توجد ترجمة في الدنيا. ليذهبوا ويتعلموا العربية. ما حاجتي الى آخر لا يقرأني أو يتحدثني بلغتي؟ أهو آخرٌ بالومى؟ عينات تعتذر عن جهلها بالعربية. نير في مراحل متقدمة من تعلمه العربية في فرع الحزب الشيوعي في تل أبيب. يفهم كل شيء ولا يتكلم حتى الآن كل شيء. شكلك مخابرات، أمازحه بالعربية. يضحك. الباقي لا يفهمون. فهم لا يتكلمون ولا يسمعون العربية. أسحب من سيجارتي وأبتسم لهم باستعلاء. أيعجبكم شعوركم بالجهل والعجز؟ لن أترجم لكم ما قلتُه. والآن أعيدوا من ورائي: آلف بي بوبايي…

في المساء تتصل ميراف. في الخامسة والثلاثين، مع ولدين وزوج. تعرفت اليها قبل سنتين عندما كنت أتعلم كتابة السيناريو في تل أبيب. ومن يومها ونحن صديقان (صديقان؟؟؟!!! مع يهودية؟؟!! وتكتبها علانية؟! وتتهكم أيضًا؟ عجبًا!). زوجها في الجيش، في الاحتياط. أغيّر الموضوع رأسًا. تقرأ لي شيئًا من كتاب جديد. تتعهد بارساله اليّ قريبًا. باي. باي. زوجها في الاحتياط. في جنين؟ في طولكرم؟ في قلقيلية؟ في رام الله؟ في غزة؟ في المجمع التجاري في ريشون لتسيون، يحرس المشترين الأبرياء؟ هل سيقتل فلسطينيًا في احتياطه؟ كيف يمكن أن أعرف؟ هل سيموت في احتياطه؟ هل سأتضامن مع ميراف؟ كلا أبدًا! يمكنها أن تبكي حتى القرن القادم. لن تهتز لي دمعة. زوجها قُتل في حرب ظالمة، والحروب الظالمة تقتل الأبرياء في الغالب، ولكنها تقتل الظلمة أيضًا. وزوجها ظالم. محتل. يحمل نظارةً طبيةً وبندقية ويدخن في دبابته الكبيرة. يستحق الموت، هذا آخر كلام. ولكن ماذا مع ميراف؟ لماذا هذه الصداقة العبثية؟ هي في بيتها وأنا في بيتي. هل انتهى العرب لأتصادق مع يهودية؟ تبًا! حتى لو أنها شديدة الذكاء، شديدة المعرفة، شديدة القراءة، شديدة الكتابة، شديدة النقد، شديدة اليسارية. كيف تسمح لزوجها بالذهاب الى الاحتياط. ألا تعرف كيف يحتاط أبناء جلدتها؟ كلا هذا غير ممكن. لا يمكن أن نبقى أصدقاء. إما أنا وإما زوجها المحتاط. عليها أن تختار. سأقول لها ذلك عندما تتصل. هناك حدود للقدرة على استيعاب الآخر. الآخر هو الجحيم، هذا مؤكد. عليها أن تعرف ذلك. لا شك.

التاسعة ليلاً. آلو. أهلاً ميراف. كلا، ليس هناك أي إزعاج. طبعًا طبعًا (…..) الى اللقاء. تبًا! لم أقل لها. لو أنني سألتها فقط أين يحتاط زوجها. ربما يكون في مكتب ما، ولا يشارك في الحرب أصلاً. هو محامٍ ناجح. ولكن هذا أسوأ. قد يكون الآن منكبًا على صياغة لوائح الاتهام ضد المعتقلين، أو صياغة أمر عسكري للاعلان عن اغلاق الهواء والماء والضوء عن مدينة أخرى وقرية أخرى… تبًا! كان يجب أن أقول لها بصراحة: حتى هنا. “الآخر” على عيني وعراسي. ولكن زوجك في الاحتياط، وأنت لا تعتذرين حتى. لا ترتبين الجمل اليسارية المختلطة ببعضها، المتسترة وراء استعلاء خفي يتعايش بشكل غريب مع شعور فادح بالذنب. لم تُتأتئي، لم تتلعثمي، لم تتلوي على الهاتف. زوجي في الاحتياط. كأنك تقولين إن الرطوبة خانقة الآن. ضربة من السماء. قدر محتوم. صيفٌ قبيح. كأن لا كلمة لك ولا مشورة. كأنك لست جزءًا من احتياط زوجك. هل ترسلين له الكعك الى الدبابة؟ هل تتحدثين اليه في الليل لأيناسه في وحشة الظلام الفلسطيني؟ هل ستذهبين الى المظاهرة اليسارية القادمة، لتتصلي بي من قلب الحشود وتروي تفاصيل الخطابات والشعارات والبلوزات، كما تفعلين في الأشهر الأخيرة؟ فلتعلمي إذًا أنني لا أريد أن أسمع بعد عن مظاهراتك اليسارية. وسأمحو عنوانك الالكتروني من القائمة الطويلة في حاسوبي. حتى لو كنت أحفظه عن ظهر قلب.

19 أيار ‏2002‏

حاجز الجلمة. الممثل جوليانو مير- خميس يخرج من السيارة الصغيرة المزدحمة ويتوجه الى المحسوم. سيتحدث الى الجنود فهو نجم معروف، وهو زائر دائم لمخيم جنين منذ الاجتياح. في السيارة التي ألصقت عليها ملصقات “تي في” تيمُنًا بتجنب الرصاص، أجلس بين “ضيفنا” من لندن، العزيز عمر القطان، وبين سباستيان، مصور ألماني متزوج لفلسطينية من عائلة عمر. في الأمام يجلس جوناثان، صحفي أمريكي صديق جوليانو. ننظر الى صف السيارات الطويل الذي ينتظر إشارة الفرج من الجندي إبن التاسعة عشرة. ليس من المستبعد أن يكون هذا الجندي الفتي من حيفا، وقد يكون جاري في الشارع المختلط الذي أسكن فيه. يقولون إن الصغار منهم هم الأقسى والأبشع. أن القدامى، الاحتياطيين، “أكثر” إنسانية وتهاونًا. أبحث عن الانسانية الضائعة في وسط هذه الخلطة المخيفة: دبابتان كبيرتان تطلان بفوهتيهما من جهة المحسوم، سيارات كبيرة وصغيرة في طابورٍ ممل، سيارات المستوطنين التي تتجه الى اليمين قبل المحسوم، جيبات حرس الحدود تتبختر جيئةً وذهابًا بين شقي المحسوم. أمسح العرق عن جبيني، فالمكيف يعجز عن منافسة الزحام في العلبة الماتورية الصغيرة. يأتي جوليانو من بعيد. يشير بيده بسرعة: “تقدموا!”. ابتسم. “تقدموا.. تقدموا”… شتّان وشتّان. الجنود في الحاجز منهمكون بأخذ تواقيع جوليانو لأنفسهم ولحبيباتهم في البيت. “الى عنات” كان يردد أحد الأولاد المتخفي لرامبو، “الى عنات مع المحبة”. وكان جوليانو بجرة قلم يرسل المحبة الى عنات، ويُقرِئها سلام المحسوم وغبار الدبابات وحرّ الاحتلال، وحزن معارفه في المخيم على أبنائهم الذين ما زالوا تحت الردم، وأنا بخير. نحن بخير يا عنات. بفضلكم.

نترجل في الجلمة. منطقة “بي”. نشرب القهوة مع أصدقاء جوليانو في معبر الحدود هذا المرتجل. التاكسي على الطريق، قال جوليانو وأغلق النقال. نتحدث عن أفلام عاموس غيتاي وسباستيان وجوناثان بدآ بالتصوير. كلٌ بكاميرته. التاكسي كبير وقديم ويبدو عليه الاعتياد على الطرق الالتفافية. ننزل عن الشارع المعبد وتبدأ التاكسي بشق أنفسها في الطرق الزراعية الوعرة الملتوية. من بعيد تلوح السيارات العسكرية الكريهة. أفكر في سهولة الموت الآن. قذيفة أو صلية رصاص. بيان الناطق العسكري جاهز: “متسللون الى منطقة عسكرية مغلقة. أجسام مشبوهة، سحنات شرقية، إنذارات عن منتحرين…”. الموت المجاني. أشعر بالندم قليلاً. لو بقيت في حيفا الآمنة. لو لم أستسلم لحسّ المغامرة بالدخول الى مخيم جنين. لو لم أشعر بالحياء من الجّهر بجبني أمام ضيوفي الأعزاء. أتراجع عن ندمي. الجو في السيارة المتأرجحة بقوة مَرِحٌ بعض الشيء. جوليونا يشرح ونحن نتبع حركة أصبعه المتوترة. هذا الأصبع الذي كان يضغط على زناد الإم 16 قبل سنوات خلت، عندما كان جولينو مير جنديًا نظاميًا، ولم يكن بعد مع إضافة “خميس” إلى إسمه. جوليانو إبن لأم يهودية شيوعية مناضلة (آرنا مير) وأب عربي شيوعي عريق (صليبا خميس). آرنا أسست في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات مسرحًا للأطفال في جنين، في مشروع “عناية وتعلم” الذي أفنت فيه ما تبقى من سنواتها قبل موتها. كانت ابنة المخيم. جوليانو إنضم اليها ورافقها، وهو في هذه الأيام يعمل على إحياء المشروع من جديد. اليوم هو بحاجة الى أطفال جدد، لأن الأطفال الذين أحيوا المسرح عندها استشهدوا بغالبيتهم في الأشهر الأخيرة، بين محارب وبين فدائي داخل الخط الأخضر. وبحاجة لمسرح لأن الاحتلال هدم المسرح في الاجتياح الأخير. وبحاجة الى أم للمسرح لأن أم العبد استشهدت ايضًا. وبحاجة الى ثقةٍ جديدةً لأن الثقة ذوت كما ذوت الزهرة الصفراء المزروعة في أصيص تكسر على مدخل البيت الذي اختبأ فيه محمد (إسم مستعار).

كنت نشرت في جريدة “القدس العربي” و”فصل المقال” مقالاً مطولاً حول مقابلةً خاطفةً مع “محمد”. ومحمد هو أحد قادة المقاومة في المخيم اليوم. تحدثنا بسرعة وبدون ترتيب. محمد تزوج قبل حوالي الشهر. قرر أن يتزوج على الرغم من أنه يعيش طريدًا ومطلوبًا وهدفًا للتصفية في أية لحظة. كيف سيعيش مع زوجته في حياته السرية، تساْلتُ. لا بد أنه يعرف كيف. فهو متمرس في هذه الحياة. معظم شعبي متمرس في حياة السرية والحصار والحواجز والبقاء. وأنا فقط لا أعرف شيئًا من ذلك. ولو منعوني من ارتياد المقاهي ليومين أو ثلاثة فإنني سأجن. أنا ومئات الآلاف مثلي من عرب الداخل. لنا ديننا ولكم دينكم. لكم حصاركم ولنا تضامننا. لكم جوعكم ولنا حملات الاغاثة. لست أريد القسوة على أحد. لست أريد التقليل من وحدة المصير (واعذروني على الشعار المهترئ). عرب الداخل  أبلوا بلاءً لا بأس به في الأحداث الأخيرة، على عكس التوقعات. بالنسبة لي على الأقل. ولكن الفلسطيني الذي هناك، بقي هناك. كم من الحقيقة يمكن لـ “الجزيرة” أن تعكس؟ كم من البؤس يمكن أن تحمل صورة أو صرخة امرأة على مشارف المقابر الجماعية في حديقة مستشفى رام الله وفي مقبرة جنين وفي أنقاض نابلس؟ القليل جدًا. نتفة. حفنة. ذرة عابرة…

23 نيسان 2002

نشد الرحال الى رام الله. حسين البرغوثي يحتضر. اسرائيل انسحبت من رام الله قبل يومين. المحاسيم تطوق المدينة. حدود زمنية- أزلية. الحاجز يثير غيظي، يبعث فيّ شعورًا بالخصي والعجز المطلق. فهو ليس حدودًا ثابتةً تستطيع الدفاع عنها، أو محاربتها؛ كما أنه ليس “كبسية” موقتة نصبها رجال الأمن للقبض على تاجر مخدرات، فتتجاهله. الحاجز البذيء السيء الكريه، هو الملخص المرئي البشع لما نحياه في هذه الأرض الملعونة. كل شيء موقت، ولكنه أزليٌ في نفس الوقت. وبين هذا وذاك، عليك أن تستيقظ كل صباح وأن تصرخ على نفسك في المرآة: أنا فلسطيني!! عليك أن تصرخ كل يوم في الصباح، لئلا يتحول إنتماؤك إلى أمر مؤقت أيضًا…

المحاسيم تطوق المدينة. نحتال عليها. تحتال علينا. نحتال عليها مجددًا. تحتال علينا مجددًا. الجلزون هو الحل. ندخل من شارع الارسال. نصمت. ننظر ولا نتكلم. الدمار في كل مكان. المستشفى هادئ. المقبرة طازجة. “نصر من الله وفتح” مكتوب على يافطة مرتجلة فوق القبر الجماعي. حسين نائم. سنعود. رام الله جريحة. نتجول بهدوء. لا كلام على الدمار. لا شيء على الدمار إلا الشعور بأن دباباتهم لم تكسر إلا الأرصفة والسيارات. لم تكسر أحدًا ولم تخضع أحدًا. ونعود الى حيفا في اليوم التالي. نعود الى رتابة العجز.

2 شباط 2002

“الجزيرة”. أجلس أمام التلفاز وأحمل المتحكم بيدي الملقاة الى الأرض بإهمال. أحمل المتحكم ولا أستعمله. لا أغيّر المحطة. خمسة وتسعون هو رقم “الجزيرة” في لائحة القنوات التي تحملها الكوابل الى الشقّة الباردة. خمسة وتسعون، وما فوقها عرب يبثون الأفلام والرقصات، وما تحتها عبريون يبثون الأكاذيب والتحريض. والمتحكم في يدي. يرفض أن يرتكن الى الحقيقة المرة أنه ما من مكان ألجأ إليه إلا الخمسة والتسعين. جزيرة في بحر الموجات الأثيرية التي لا تنفك تذكرك بالدنيا العاهرة التي نعيش فيها. في الواقع، الدنيا ليست عاهرة. هي هكذا، كانت وما زالت. نحن فقط من نتفاجأ في كل مرة من جديد. نحن في تفاجئنا سخيفون حتى البكاء. نثير الشفقة. نثير غضب من ينظر الينا: نجلس أمام المرناة، المتحكم موجه على “الجزيرة”، نشتم تارةً، نصرخ تارةً، نيأس تارةً، نبكي تارةً، نفرح تارةً. فعرفات لم يُقتل بعد. هكذا قالت “الجزيرة” الآن…

“الجزيرة”. المذيع يحاول أن يعرف من وليد العمري ما إذا كانت اسرائيل دخلت الى مكتب الرئيس. وليد لا يعرف بالضبط، ولكنه يعرف أن إثنين من حراسه نزفوا حتى الموت وأن الرئيس يجلس على ضوء الشمعة. في القناة الأولى الاسرائيلية يهتم المراسل العسكري بأن يفصّل لائحة الطعام التي سمحوا بإدخالها الى مكتب الرئيس: جبنة بيضاء، قطع لحم، مياه معدنية، خبز. يعني: نحن الاسرائيليون نعرف كل شيء. حتى ما يأكله عرفات نعرفه. واسرائيل حتى في حصارها هي انسانية وتدخل الطعام الى رئيس الارهابيين وعدو اسرائيل الأول. فكيف يمكن للعربوشيم التتر، الحفاة العراة، أن يقولوا عنّا بعد الآن إننا محتلون وبرابرة؟ “الجزيرة”. جيفارا البديري متمركزة في بيت لحم. الاسرائيليون في طريقهم الى هنا. الاسرائيليون سيدخلون بعد قليل وسيشعلون الأرض نارًا. كيف يستقبلون الدبابات والرشاشات وجند الله المختارين؟ ماذا يفعل الأب أمام أبنائه، ماذا تقول الأم لأطفالها، ماذا يقول القائد لجنوده؟ كلٌ لحاله؟ سنموت معًا؟ نلتقي عند الفجر؟ تصبحون على وطن؟ لماذا لا تستطيع “الجزيرة” أن تنقل ما تقوله الأم لأطفالها الكثيرين المتحرجمين في غرفة واحدة؟ ماذا يسأل الأطفال أمهاتهم في هذه اللحظات؟ هل سنموت؟

“الجزيرة”. خمسة وتسعون والعد مستمر. مذبحة في بناية. ثلاثون قد يكونون قتلوا. الملك (؟) عبدالله بن الحسين ينذر اسرائيل. المظاهرات في مملكته الورقية أرغمته على التغريد. غرّد الملك فاهتز غصن في مكتب شارون. ثم هدأ. شيرين أبو عاقلة تقول إن رام الله أصبحت منطقة عسكرية مغلقة. شيرين من رام الله. فهل سيرغمها الاحتلال على مغادرة بيتها لإسكاتها؟ شيرين، ما الأوضاع الآن في رام الله؟ وليد، هل ما زال الرئيس على قيد الحياة؟ جيفارا، هل دخلوا بيت لحم؟ المتحكم يرفض أن يظل صامتًا. الام بي سي: دارما وغريغ، كوميديا أمريكية. الأيه آر تي: أفلام وكليبات. قناة مصر الفضائية: أغنية جماعية جديدة للنجوم العرب على غرار “الحلم العربي”. الال بي سي: فيلم أجنبي وفتيات نصف عاريات. المستقبل: اهتمام ملحوظ ومقابلات أثيرية من الداخل. الخطوط تنقطع. المؤامرة تشتعل من جديد. القناة الثانية: العملية في حيفا. هناك قتلى عرب. وحدة مصير اسرائيلية. البعض يقول الرمز الأكبر للدو كيوم (التعايش). دو كيوم؟ القناة الأولى. مبعوث الشاباك رون بن يشاي يردح لقواتنا. قواتنا تتقدم. قواتنا تصمد. قواتنا لا تخاف من الليل في رام الله. قواتنا ترد على النيران من مكتب عرفات. عرفات يصنع المشاكل ثانية. يضطرنا الى الدفاع عن أنفسنا، هذا العربوش غير المتحضر، ونحن على بعد أمتار من غرفته المعتمة. عرفات لا يفهم أبدًا. هل علينا أن نقتله ليفهم؟ طبعًا. فالعرب لا يفهمون الا بالقوة. “الجزيرة”. شاعر العروبة سميح القاسم يدافع عن زبائن العاهرات الباريسية: على مهلكو يا مشاهدين. لا تشتموا الانظمة العربية. فأنا في قطر وعلي العودة الى الداخل عن طريق الأردن. ثم يجب ألا تنقطع الدعوات والمحاضرات عني من دول النفط. لا أستطيع أن أشتم. هل تريدون أن يحبسوني؟ من زمان لم يحبسني أحد…

“الجزيرة”. خمسة وتسعون ساعةً والعدّ يزيد. أنا جائع. الحوض مليء بالصحون الوسخة. ليس في الثلاجة ما يؤكل. من يملك القوة على النزول الى البقالة لشراء الخبز والسردين؟ أنام على الكنبة قليلاً. أحلم بأن الجيوش العربية قد هجمت. بشار وحسني وعبد ومعمر ومحمد… كلهم هجموا. يمتطون دباباتهم الأمريكية ويلوحون بالسيف والقرآن. يطلبون الشهادة. الشهادة إياها وليس الشهادة من أمريكا، شهادة حسن السلوك. أستيقظ فجأةً. بين الصحو والغيبة. أرى الشيخ القرضاوي يفصّل أنواع الجهاد: جهاد عسكري، جهاد سياسي، جهاد اقتصادي، جهاد ثقافي، جهاد شخصي. خمسة أنواع وهناك حملة: جاهِدْ بنوعيْن واحصل على الثالث مجانًا. عفوًا أيها الشيخ الجليل، أنا لا استطيع على الجهاد العسكري، فأنا كما تعلم، ولكن إذا جاهدتُ جهادين من باقي الأنواع، هل أحصل على الجهاد الثالث مجانًا؟ وسؤال آخر لو سمحت، أعرف أن الوقت ضيق، ولكن لو امتنعت عن الأكل هذه الليلة ونمت في جوعي، هل يعتبر هذا جهادًا شخصيًا؟ وسؤال أخير وأعرف أن وقتي انتهى: هل يصح أن نرفع صورة شهيدة ليست محجبة؟ وأرجو أن أوجه تحياتي عبر “الجزيرة” الى أهلي في القرية، وأود أن أسمع أغنية وطنية لو سمحتم. والأهل في حيفا بخير. ينظمون المظاهرات ويرون محطتكم ويتأملون خيرًا. والأقلية كلها بخير وعلى أتم وجه. حتى أن بعض الكوادر وجدت الوقت في مظاهرة يوم الأرض للتشاجر فيما بينها على حقوق نشر الاعلام الحزبية واللافتات. وسؤال أخير جدًا، أخير بالفعل: هل يصح يا شيخنا القرضاوي أن أسب على الزعماء العرب بأقذع الشتائم؟ هل يسمح الدين بشتم الخونة، حتى لو كانت الشتيمة: يلعن دينكو يا أولاد القحبات؟؟…

“الجزيرة”. ثمانية وعشرون عامًا قضيتها على الأرض، لأنتهي وقت الشدة حُطامًا على كنبة، تكاد أن تٌثقب تحت وزني المحترم. شعبي يخجل مني بالطبع. ماذا أنفعه وقت الشدة؟ لا شيء. مجرد مُشاهدٍ من بين الملايين الكثيرة التي تصرخ في عبّها.

“الجزيرة”: كيف الوضع عندك؟

الوضع عندي كما هو عليه..

الوضع عندي كما هو..

الوضع عندي كما..

الوضع عندي..

الوضع..

الوض..

الو..

ال..

ا..

..

(نشرت هذه المادة في تاريح 20 آذار 2003)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *